الأسرة، مجتمع، منوعات

“العادات الغذائية” .. الحلقة 14: المستوى الاجتماعي محدد للاختيارات الغذائية

سلسلة “أنتروبولوجيا العادات الغذائية”، نتناول فيها مواضيع تتعلق بالعادات الغذائية المغربية في ارتباطها بمجموعة من الأبعاد البيولوجية والسيكولوجية، والثقافية، والذوق، والدين، والتراث، والهوية… وكذلك في علاقتها بالجانب الاقتصادي والاجتماعي للأفراد في اختياراتهم الغذائية.

وسيتم التطرق لها بالتفصيل انطلاقا من كتاب “تحول العادات الغذائية بالمغرب القروي -دراسة أنثروبولوجية-“، منشورات دار الأمان 2015، لأستاذة علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة القاضي عياض نعيمة المدني، عبر حلقات يومية طيلة أيام رمضان، في جريدة “العمق”. 

الحلقة 14

 العادات الغذائية والفئات الاجتماعية

سنحاول في هذا الفصل المخصص لدور الفئات الاجتماعية في تحديد العادات الغذائية  التطرق إلى فئات اجتماعية  دالة لها علاقة بالجانب الاقتصادي، الاجتماعي وبالنوع أيضا، ونرمي من خلال ذلك إلى إظهار مدى قوة المحدد الاقتصادي والاجتماعي في صياغة العادات الغذائية، ودور المرأة كذلك في تشكيل هذه العادات.

اشتغال المستوى الاجتماعي كمحدد للاختيارات الغذائية

قوة المحدد الاقتصادي

من وجهة نظر الاقتصاد، توجد بداهة أساسية تكمن في اختلاف التغذية حسب الشروط الاقتصادية من فئة لأخرى، لذلك تأتي كثافة استهلاك غذاء ما حسب كلفته المادية.

غير أن نوع وكثافة الاستهلاك الغذائي وإن كانت من المؤشرات الدالة على المستوى الاجتماعي، فهي قاعدة لا تكاد تسري بشكل مطلق على العالم القروي مثلا، إذ لا نكاد نعثر على اختلاف بنيوي بين النظام الغذائي القروي الخاص (بالفقير) وذلك الخاص بالميسور، فقد نجد مثلا أن الاختلاف يكمن في كمية اللحم المجلوب من السوق، أو عدد مرات تناوله خلال الأسبوع. 

في حين، نجد الاختلاف بين الفئتين قد يحمل تفاصيل أدق، متعلقة مثلا بنوع اللحم المقتنى، فقد يقتصر على جلب اللحم من نوع (الأحشاء، الرأس…) بالنسبة للفقير، في حين يمكن للأكثر يسرا أن يقتني (اللحم المفروم مثلا…)، كما يمكن للاختلاف بين تغذية الفقير وتلك تخص الميسور أن يوجد على مستوى إقبال الفئات الميسورة على الوصفات الاحتفالية خارج المناسبات المرتبطة بها.

يلوح إذن، أن تعييننا لمؤشرات المستوى الاجتماعي بالعالم القروي، لا يجب أن يصدر عن نظرية مسبقة قد تبدو فيها المؤشرات التي نعتقدها دالة على المستوى الاجتماعي بعيدة عن كونها كذلك. قد نذهب ربما إلى حد القول أن النظام الغذائي القروي يكشف أن رسم الحدود النوعية الكامنة بين الفئات الاجتماعية من خلال النظام الغذائي، يعود إلى شروط خاصة ومحلية، لذلك يجب رصدها في عين المكان، ونقصد ضرورة الوصول إليها عن طريق البحث الميداني.

في ذات الإطار، تؤكد بعض الأبحاث كيف يساهم ارتفاع مستوى الدخل في الوسط القروي في ارتفاع النفقات غير الغذائية، في حين ستتميز العادات الغذائية للفئات الميسورة باقتناء كمية أكبر من اللحم باعتباره غذاء احتفاليا.

كما تدعو خصوصية وجود المستوى الاجتماعي كمحدد للاستهلاك الغذائي القروي إلى تناسل مجموعة من الاحتياطات المنهجية، إذ يجب التمييز مثلا بين الطبخ، التغذية والمائدة، إذ تركز العديد من المصادر حول الطبخ الأوروبي مثلا على علاقة التراتب الاجتماعي بالمائدة وليس بالطبخ أو التغذية، ذلك أن الأمر يتعلق أكثر بالنسبة إليها بالمظاهر المعبرة عن المكانة الاجتماعية:

ففي معرض حديثه مثلا عن المائدة كرهان اجتماعي، يعرض برينو لوريو (Brunaux Lauriaux) لانعكاس التراتب الاجتماعي على مستوى المائدة، كما يعتبر أن مائدة الفئة الميسورة تتميز بثلاث خصائص:

  • بها كمية أكبر من الأطعمة.
  • بها غذاء أفضل.
  • تقدم الأطباق الفاخرة.

 المطبخ المتعالم والمطبخ الشعبي

في محاولة ذات صلة، نشير إلى أن جون فرانسوا ريفل (Jean François Revel ) كان شغوفا بجمع كتب الطبخ، لأنها في نظره تعد انعكاسا لا واعيا للحياة اليومية، وتعبر عن القيم الإنسانية عبر العصور.

 إن اهتمام ريفل بكتب الطبخ يرجع إلى  اعتقاده بأنها  تعبر عن فئة تنظر إلى الطبخ من وجهة نظر متعالمة مقابل أخرى شعبية، غير أنها (أي الكتب) في نظره  تضم مجموعة من الثغرات:

 فهي لا تسرد مصدر الوصفات، كما أنها تعرض الأغذية بمصطلحات مختلفة كمصطلح (جاف) الذي يعني (محلى) وكشف الحساء الذي يقصد به اللحم المبخر، إضافة إلى المقبلات التي كانت قبل مئة سنة أو أكثر من الأطباق الرئيسية، هذا فضلا عن إشارتها إلى أغذية لم تعد تستهلك أو أغذية جديدة دون ذكر تاريخ إدخالها واكتشافها.

 كل ذلك يعود حسب ريفل إلى كون الأمر يتعلق بالعادة، فالحديث عن التغذية هو حديث عن العادة واليومي، لهذا قلما تعار أهمية لشرح بعض التفاصيل التي تعتبر بديهية في نظر المؤلف.

 غير أن  ريفل يرى بأن  المتعة الغذائية لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال تنويع وتعدد الأطباق وتعارض الأذواق، فالمطبخ المتعالم لا يكمن فقط في تراكم الوصفات، لأن خلط الأغذية لا يعني توليفها، أي أن معرفة الأغذية التي يمكن إعدادها في ذات الطبق أهم من معرفة الكميات اللازمة من هذه الأغذية .

 في هذا الصدد، يرى ريفل أن للطبخ رافدان: رافد شعبي وآخر متعالم، أما المطبخ الشعبي فهو ذلك المطبخ الذي لا يفتأ يرتبط بالحقل، واستعمال المواد الغذائية المحلية في علاقة ضيقة مع الطبيعة، إنه يعتمد على طرق ومقاييس خاصة تحكمها التقاليد، لذلك فهو المطبخ الذي لا يتغير أبدا.

 أما المطبخ الثاني، فهو المطبخ المتعالم، وهو يعتمد على التجديد والمغامرة، إنه مصدر الثورات التي تعرفها وعرفتها الذواقة، كتلك التي عرفتها أوروبا في بداية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر معلنة بداية دمج الحلو بالمالح واللحوم بالفواكه.

 غير أن المطبخ المتعالم رغم أنه يجدد، يكتشف، يتخيل، إلا أنه قد يسقط في تعقيدات غير مجدية تسفر عن الرجوع إلى الوراء، إلى مطبخ الأرض .

 من هنا، يمكن القول أن المطبخ المتعالم يفرض نفسه في المناطق التي لا تعرف وجود مطبخ تقليدي عتيد يمكن له أن يعتمد عليه كرافد مهم.

 من الجدير بالذكر أن بزوغ الطبقة المتوسطة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر   قد أدى إلى المزج بين المطبخين الشعبي والمتعالم، التلقائي والمقصود،  مما حدا بنشوء المطبخ البرجوازي الذي حرص على الاعتماد على النكهة المحلية والتقليدية مع الحفاظ على طابع الذواقة العليا في الصلصات مثلا .

 إن تاريخ الذواقة في نهاية الأمر هو سلسلة من التبادلات، الصراعات  والمصالحات بين المطبخ الاعتيادي وبين الطبخ كفن، ذلك أن الفن هو إبداع شخصي، غير أن هذا الإبداع يستحيل دون قاعدة تقليدية وتراثية، وإذا كان المطبخ هو تحسين للأغذية، فإن الذواقة هي تحسين للمطبخ ذاته.

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *