رمضانيات

الإشارات السياسية في قصة موسى .. تطهير القلب من طمع السلطة

الحلقة 10

المنطلق، قوله تعلى: “فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا، فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا، لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلم تصطلون. فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين”.

السياق: وذلك أن موسى عليه السلام؛ لما قضى ما تعاقد عليه مع الشيخ أصبح بإمكانه العودة إلى وطنه مصر. وفي ربط بما نحن فيه من التقاط الإشارات السياسية؛ فإن اختيار موسى العودة إلى وطنه هو شعور ملازم لكل مصلح يتغرب، ويظل يعيش فيه ذلك الحنين إلى وطنه وقومه. وموسى عليه السلام كان بإمكانه أن يبقى في مدين أو أن يسيح في أرض الله الواسعة تجنبا للمشاكل، ولكنه اختار أن يعود لما عاهد عليه قومه من تحريرهم من الطاغية؛ بل إنه حتى عندما أقبل إلى حوار فرعون كان هذا مطلبا أساسا وأوليا حيث صرح موسى بالقول” أن أرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم”. وقد سبق أن أشرت في حلقة سالفة أن موسى كان أعلن قبلُ نيته الإصلاحية في اعتراض الإسرائيلي.

“فقال لأهله امكثوا”… وفي هذا إشارة جليلة إلى ما يجب أن يكون عليه المصلح من نكران الذات على خلاف الإعلاء من شأن الفرد في المقابلات من المذاهب؛ فقد تحدث موسى عن نفسه في محاولة الإقبال عن النور والنار بصيغة الإفراد” إني : لعلي “، وفي هذا حمل لهم خفي. ثم لما تحدث عن المنفعة المرجوة أنكر ذاته وتحدث بضمير الجمع المخاطب” آتيكم: تصطلون”. وفي ذلك إشارة لطيفة إلى ما يجب أن تكون عليه النفس المضحية الصادقة الخدوم. ليس فقط في تراتب المناصب السياسية، ولكن في عموم المسؤولية. وهذا مدخل مهم إلى ما يتقدم من أحداث.

ومهما فُهم، ومهما فُسر، ومهما أُخذ على ظاهر أو باطن؛ فإن عملية الخلع كانت مرحلة مهمة في بداية الإقبال على الطاغية. والخلع بما نحن فيه؛ إنما هو خلع الطمع في السلطة كي لا تعاد عملية إنتاج التسلط. فالمصلحون أو الذين يطرحون أنفسهم بديلا عن السلطة قد ينجحون بقليل أو بكثير من تربية العزيمة، وترويض النفس على نزع الخوف؛ ولكنهم ليسوا بالضرورة بدائل صالحة عن الوضع السابق. ولنا في التاريخ عبر ودول. فتطبيع النفس ونزع الخوف منها لا يعني بالضرورة تطهير القلب من حب السلطة؛ لأن ذلك سبيله العرفان. ولهذا نلفي أن مفهوم الخلع من المفاهيم المحورية التي تفنن المتصوفة في تأويلها وشرحها إلى حد العجب. فالشجاعة والإقبال، أو حتى الإحساس بالظلم والقهر لا يعني بالضرورة أن يتطهر القلب من أسقام حب الدنيا.

وإذا كانت الديمقراطية باعتبارها شكلا أو بديلا اخترعته البشرية لمنع إعادة إنتاج الاستبداد بتشتيت بؤرة السلطة فيها سمي فصل السلط، فإن نظرية الحكم في الأنظمة المستحضرة للغيب ظلت تعول بالأساس على صلاح الفرد الحاكم؛ وهذا ما ظل يطرح مشاكل كثيرة في إعادة إنتاج الاستبداد في تاريخ الدول المتحصنة بالغيب. فالفرد الحاكم قد يكون صالحا فيتعدى بصالحه إلى الرعية؛ بل يكون صلاحها على قدر صلاحه، ولكن بمجرد وفاته وانتقال السلطة لمن بعده؛ سواء بالوراثة أو بالاختيار في أندر الأحوال؛ فإن حال الناس تصبح معلقة بمدى صلاح أو فساد هذا الخليفة الجديد. وهذا ما يدفع الناس إلى رفع أكف الضراعة إلى الله راجين إصلاح ولاة أمرهم ورزقهم البطانة الصالحة؛ لما فهموه وتشربوه عبر تاريخهم؛ أن فساد الخليفة والحاشية سيمتد إلى أحوالهم المعيشية.

إن ما حدث في تلك الليلة هو من أساسيات التغيير في نظرية الإصلاح تحت ظل الغيب، والله حاضر بقوة في هذا الإقبال. فلا يظنن ظان أن ورود بعض المفاهيم في هذا الحدث هو من باب الحشو
؛ فالصلاة، والذكر، والشهادة، واستحضار اليوم الآخر؛ إنما هي صلات إلى الله. فذكر الله ينتفي معه ذكر غيره، وتكبيره هو إقرار على صيغة التفضيل بصغر وحقارة من دونه؛ فلا يخاف المصلح إلا هذا الذي أقر بكبره وعظمته، ولا يزيده هذا إلا استصغار لمن دونه، وأن التوحيد هو نزع وخلع لكل تعلق أو شرك مع الذات الإلهية. وأن الإيمان بالساعة تعزية للنفس على كل مصير.

لقد فشلت كثير من العمليات الإصلاحية الشمولية حين لم تسلك طريق تحصين السلطة بالدمقراطية، وحين قادها أفراد لم ينتبهوا إلى هذا الجانب من ضرورة تطهير القلب من الطمع في السلطة، وكانت النتيجة فقط إعادة إنتاج البؤس والاستبداد. وفي هذا تحضرني قوله ساخرة عند جورج أوريل حيث ينقل: “إننا ندرك أنه ما من أحد يمسك بزمام السلطة وهو ينوي التخلي عنها. إن السلطة ليست وسيلة بل غاية. والمرء لا يقيم حكما استبداديا لحماية الثورة؛ وإنما يشعل الثورة لإقامة حكم استبدادي. إن الهدف من الاضطهاد هو الاضطهاد، وأن الهدف من التعذيب هو التعذيب، وأن غاية السلطة هي السلطة..هل بدأت تفهم ما أقول”. وهذا بالتحديد ما يجب أن تتطهر القلوب من أجله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *