وجهة نظر

“صحراويون من أجل السلام” بين الانفصال والالتئام

في كتابها ” ذبول الدولة الشمولية The Withering Away of the Totalitarian State”)، وصفت الكاتبة الأمريكية Jeane D. Kirkpatrick (1926 – 2006) البوليساريو بالمنظمة الشمولية التي تسعى مثل نظرائها إلى ” خلق هالة من الشرعية حول جهودهم العنيفة للاستيلاء على السلطة”. نفس الشهادة أدلى بها السيد Puyol Garcia Miguel Angel مدير مؤسسة مركز الدراسات الإسبانية – المغربية أمام اللجنة الرابعة للأمم المتحدة حيث قال “البوليساريو حركة دكتاتورية لا تحترم لا حرية التعبير ولا الديمقراطية….. لقت رأيت بعيني بمخيمات تندوف (جنوب الجزائر) الظروف اللاإنسانية التي يعيشها الصحراويون العزل…. هناك لا يسمح لأي شخص بالتعبير بحرية عن آرائه أو اتخاذ خياراته السياسية الخاصة”

ما شهد به هذين المثقفين الغربيين وغيرهم، سيرويه المرحوم سيداتي الغلاوي بلسان عربي فصيح بصفته سفيرا سابقا للبوليساريو في إيطاليا، مالطا واليونان. على خطى محمود درويش في قولته المأثورة” ليس وطني دائما على حق ولكني لا استطيع ان امارس حقا حقيقيا الا في وطني”، صرح الدبلوماسي سيداتي أن “الصحراويين أشبه بركاب طائرة مخطوفة” موكدا أن الاستياء والتذمر يتوسعان بشكل كبير في صفوف الصحراويين في المخيمات، الذين ملوا قيادة جثمت على صدورهم لأزيد من 32 سنة، وقامت بعدة تجاوزات، أتلفت ميزانيات بملايير الدولارات، وتاجرت في المساعدات التي تمنح لسكان المخيمات من قبل منظمات المجتمع المدني الأوروبي.”

ما صرح به الغلاوي بشأن بيع المساعدات، صار جريمة مشهودة عند الدول المانحة للمساعدات. وقد تم توثيق هذه الاختلاسات من طرف المكتب الأوروبي لمكافحة الاحتيال (المعروف باسم OLAF، وهو هيئة مفوضة من قبل الاتحاد الأوروبي لحماية المصالح المالية للاتحاد. وبالاستناد إلى هذا التقرير الرسمي،صوت البرلمان الأوروبي سنة 2015 على إعادة النظر في قيمة المساعدات وملاءمتها لحاجيات اللاجئين مع المطالبة بإحصائهم.

الارتهان للاطماع الجزائرية التوسعية جعل طائرة اللاجئين بتندوف المختطفة تحوم 45 سنة بين السماء والأرض في جو شعاره اللاسلم واللاحرب في مفارقة عجيبة لم ير لها العالم مثيلا على خلاف كل الحركات الانفصالية المشهورة بالعالم. منظمة إيرا الإيرلندية توقع اتفاق سلام ومساكنة مع غريمتها المملكة المتحدة سنة 1994، فيما أعلنت منظمة إيطا الباسكية إنهاء جميع عملياتها المسلحة سنة 2011، ست سنوات بعد ذلك تسلم أسلحتها للسلطات الإسبانية لتقرر حل المنظمة نهائيا سنة 2018. اتفاق السلام بين كولومبيا وانفصاليي فارك FARC سنة 2016 وضع آخر مسمار في نعش الحرب التى دامت أكثر من 52 سنة، وأزهقت أرواح أكثر من 220 ألف شخص ناهيكم عن الخسائر المادية والنازحين. بنفس القارة، يختم جيش زاباتيستا الانفصالي مساره غير الوحدوي بتوقيع اتفاق سلام مع الحكومة المكسيكية سنة 1996. وتبقى جبهة البوليساريو وحدها تتغنى بأكذوبة “أخر مستعمرة”. فهل البوليساريو هي هي الممثل الشرعي والوحيد للصحراويين؟

منذ اندلاع الصراع حول الصحراء، تم التمييز بين شرعيتين على طرفي نقيض. “شرعية ثورية” شمولية عصبية قبلية مبنية على مصالح جيوستراتيجية بين الجزائر و جبهة البوليساريو لا مكان فيها لحرية الرأي و الانتخاب و الاختيار. و شرعية ديمقراطية دستورية مستمدة من إرادة الشعب و انتخابات تفرزها صناديق الاقتراع و معترف بها دوليا. فيكتسب مسؤولو انفصاليي البوليساريو الشرعية الثورية بالتعيين بقدر وفائهم لمباديء الجبهة، فيما يتخرج منتخبو الصحراء من رحم الصناديق الانتخابية بشرعيات تعاقدية متكاملة تؤهلهم دستوريا للدفاع عن مطالب السكان و تمثيلهم لدى نظرائهم بالداخل و الخارج. و بالتالي، فإن منازعة البوليساريو في زعمها “الممثل الشرعي و الوحيد” للصحراويين تم تفنيده منذ مفاوضات منهاست التي التي حضرها رئيس الكوركاس و نائبه و بعض المنتخبين يدافعون على مبادرة الحكم الذاتي مقابل أطروحة الانفصال.

“الشرعية الثورية” الشمولية لا تقبل التصورات و البدائل، و كل من يناقشها فهو عميل خائن. و بنفس التهم الجاهزة عبر التاريخ، يتم تعذيب و سجن كل المخالفين لمباديء الثورة الشعبية. فتم طرد مصطفى ولد سلمى، و سجن نشطاء الفيسبوك، وآخرها نعت حركة “صحراويين من أجل السلام” بالعمالة للمغرب لشق صفوفها.

منازعة البوليساريو على تمثيلية الصحراويين ليس مطلبا مغربيا فقط، بل هو مطلب لكافة لمثقفي الصحراء الذين قرروا فتح ” أبواب الطائرة المختطفة” و دخول المجال الجوي للمنافسة السياسية حول الشرعية عبر الآليات الديمقراطية و ليس باحتساب اللاجئين الذين هم في وضعية رهائن. تأسيس حركة ” صحراويين من أجل السلام” جاء بعد فشل محاولات ترميم البوليساريو من الداخل عبر “المبادرة الصحراوية من أجل التغيير” التي تم وأدها بسبب عدم وجود الديمقراطية الداخلية، وطغيان العصبية القبلية والثقافة الاستبدادية. و للانفتاح على كل الصحراويين، صرح الحاج أحمد بركالا، السكرتير الأول للحركة أن “حركة صحراويون من أجل السلام إطار سياسي، يجمع كل الصحراويين الذين لم يثقوا في يوم من الأيام بجبهة البوليساريو”.

الحركة الجديدة التي جعلت من الحمامة البيضاء شعار لها تؤكد أن مفاتيحها الرئيسية هي الكلمات الثلاث: سلام، عدالة و توافق. البيان التأسيسي ل”حركة صحراويين من أجل السلام” يفصح على أنها” مشروع سياسي جديد، يطمح الى تمثيل كافة الآراء والحساسيات التي تعبر عن مختلف مكونات المجتمع الصحراوي، خاصة تلك التي لا تجد نفسها ممثلة في مواقف وممارسات البوليساريو، ومشاريعها السياسية أو منطلقاتها وخلفيانها” و تقبل بالآليات الديمقراطية عوض الشرعية الثورية و العصبية القبلية التي تنتهجها البوليساريو.

تشبيه الديبلوماسي سيداتي الغلاوي لوصاية البوليساريو و زعمها بممثلهم الأوحد كأنه” اختطاف طائرة بركابها” هو تشبيه بليغ. و تجلياته تتنوع بين عدم استقرار اللاجئين، عدم إحساسهم بالأمان نظرا للجمود الذي يعتري هذا الملف. و لأن الاستعارة مُعدِية، فإنه بإعادة استعمال
تشبيه السفير الغلاوي، يسمح لنا بالقول أن الطاائرة المختطفة رقم على 19/75 على شفير الهاوية، بعدما حامت حولها حمائم السلام، و نفاذ خزان وقود إبداع الجبهة في إيجاد مربض بين مبادرة الحكم الذاتي و أطروحة تقرير المصير التي أثبتت عدم جديتها و صلابتها.

تاريخ الحركات التحررية الوطنية و الانفصالية مر بقطائع و تجارب مُرّة عندما أراد الحزب الوحيد اغتيال كل الأصوات الحرة و تجفيف المنابع و قمع الحريات. لكن التجارب السياسية الناجحة و الرائدة هي التي أدت إلى إقرار سياسة تعددية تضمن حق الاختلاف و الاحتكام للصناديق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *