رمضانيات

الإشارات السياسية في قصة موسى.. “عصا موسى وعصا الطاغية”

الحلقة 11

المنطلق، قوله تعالى: “وما تلك بيمينك يا موسى. قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى”.

في هذه الحلقة لن نخرج عن ما كنا انتهينا إليه من طبيعة الدولة المتحصنة بالغيب. ولن نخرج أيضا عن اعتبار أن ما يرد في هذه القصة لا يمكن فهمه في ظاهره وينتهي الأمر، وقد يكون هذا إجحافا في حقها؛ بل إننا نرى كما تقدم، أن نتجاوز السطح إلى العمق، والظاهر إلى التأويل والرمز.

فالعصا لا يمكن المرور عليها في اعتبارها غصن شجرة جاف، يتخذه الراعي متكأ وسندا، وله فيه مآرب أخرى كما يحكي السياق القرآني عن موسى عليه السلام. فالعصا يمكن أن أقول إنها من أكبر الرموز داخل حقل السلطة على مر التاريخ. والعصا والعصيان، والمعصية، وغيرها؛ كلها اشتقاقات وتفرعات تدل على الممانعة والصلابة؛ وهي خلاف الطاعة والطوع والتطوع والاستطاعة والمطاوعة؛ في ما يسير نحو القدرة والإذعان من غير تمنع. وفي الكناية قولهم: شق عصا الطاعة؛ للدلالة على التمرد والعصيان السياسي.

وقد لا يخطر في بال كثير من القراء الكرام، أن لفظة “القانون” المتداولة اليوم في اللسان العربي هي لفظة يونانية تعني العصا المستقيمة. وداخل الثقافة والحضارة الفرعونية القديمة كانت العصا ملازمة للرجل المتحكم. وهذا ما يفسر حضورها في المنقوشات والتوابيت المكتشفة للعائلة الحاكمة في مصر آنذاك.

ولا يمكنني القول إنها مختصة بهم أو كانوا سباقين إلى اعتبارها؛ فالعصا حاضرة بقوة في جميع الثقافات، والعرب خاصة فيما كتب الجاحظ وأطنب؛ رفعوا من مكانتها أيما رفعة، حتى إن أوروبا الأنوار وما وصلنا من صور وفيديوهات من عهد قريب منا، كانت العصا رمزا للوجاهة والحكمة. وكثيرون هم الملوك، والرؤساء، والحكماء، والفلاسفة؛ ظلت العصا تلازمهم وقد يُعرفون بها.

وعصا موسى عليه السلام ليست عصا رجل وجيه ولا أمير، وإنما هي عصا رجل بسيط يرعى غنمه في أرض الله. وكأننا في مقابلة عصا المنبوذين والمسحوقين بعصا الجبر، والوجاهة، والبرجوازية في التفكير الاشتراكي. وقد يكون هذا اللفظ مناسبا؛ بل إن كبير المؤرخين وصاحب قصة الحضارة وييل ديورانت أطلق مجازا على زمرة الأنبياء في الشرق الأوسط المصلحون الاشتراكيون؛ ليس في انتمائهم إلى المذهب الاشتراكي، ولكن لأن حالهم وسيرتهم وانتماءهم ووقوفهم في صف المنبوذين والمسحوقين يجعلهم في شبه بين كثير من المصلحين الاشتراكيين. وهذا ما عبر عنه الشاعر أحمد شوقي في القصيدة المشهورة “ولد الهدى” حيث يقول: ‘الاشتراكيون أنت إمامهم.. لولا دعاوى القوم والغلواء’ وقد كان أحدث هذا البيت ضجة كما يُحكى؛ لما طلب الملك فاروق من أم كلثوم حذفه في إنشادها للقصيدة في حفل المولد.

إنها عصا الراعي يهش بها على غنمه. وسواء كان يقصد بالهش الرخاوة واللين كما يحكي صاحب اللسان، أو كان يقصد بها عملية تحريك الأغصان الجافة ليتساقط ثمرها فتأكله الأغنام كما نقل عن الفراء؛ فإن الدلالة لا تخرج عن معنى الرفق والعناية، على خلاف عصا الجبابرة؛ حيث الشدة والقسوة والإهمال.

إنها عصا الراعي والتي أعطتنا هذا الركب العطفي داخل حقل السياسة” الراعي والرعية”، والذي قد يُحمل على الرعاية والحماية والاهتمام. وقد يحمل على الحَجر والوصاية على المرعيين. والراعي كما في حقل الطبيعة لا ينتمي إلى جنس المرعيين، وهو ما جعل هذا يطرح مشاكل عديدة في إطار الدولة المدنية الحديثة، فقد أصبح مرفوضا بل ممقوتا في التداول السياسي الحديث لما أصبحت العلاقة بين الحاكم والمحكوم تقوم بالأساس على الشراكة والتناوب، فتم اختراع لفظ الرئيس بديلا عن الراعي، وتم إحلال لفظ المواطنين محل لفظ الرعايا.

إن انقلاب العصا إلى حية لا يمكن النظر إليه هكذا نظرة سطحية بتحول مادة وهيئة العصا وطبيعتها إلى كائن حي مخيف؛ بل لا بد من حضور ضرب من التأويل. فالحية في تشابهها مع العصا فيه إشارة إلى الجانب السوء من السلطة؛ جانب القوة والشر المؤدي إلى التخويف والترهيب. وهذا ما يفسر كيف فر موسى منها لولا أن ناداه المنادي أن أقبل ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى. وقول القرآن “سيرة” بدلا عن الطبيعة والهيئة؛ لم يكن من باب العبث والحشو؛ فالسيرة فيها دلالة على الحركة والعادة، أو لنقل فيها الجانب الوظيفي للعصا عصا موسى الراعي المصلح؛ عصا الهش، والسند، والدفاع عن النفس، والأهل، والمال، والحرمة؛ وهي سيرتها الأولى قبل السيرة الثانية؛ سيرة الثعبان السيء المخيف.

لقد كان هذا الجانب السيئ من العصا ضروريا لمواجهة أهل السوء والشر، وهذا الجانب السيء من السلطة يصبح ضروريا ومكونا أساسيا في الدفاع ومجابهة الطغاة وأزلامهم، فيكون من الواجب أن تتخلى العصا عن سيرتها الأولى لتلقف ما يأفكون؛ ثم ما تلبث أن تعود إلى طبيعتها عصا الرعاية والخير، وهو ما عبر عنه القرآن بقوله:” وإذ استسقى موسى لقومه، فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم، كلوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *