الأسرة، مجتمع

“العادات الغذائية” 21: تاريخ الغذاء بالمغرب وتحول الذوق بأوروبا

سلسلة “أنتروبولوجيا العادات الغذائية”، نتناول فيها مواضيع تتعلق بالعادات الغذائية المغربية في ارتباطها بمجموعة من الأبعاد البيولوجية والسيكولوجية، والثقافية، والذوق، والدين، والتراث، والهوية… وكذلك في علاقتها بالجانب الاقتصادي والاجتماعي للأفراد في اختياراتهم الغذائية. وسيتم التطرق لها بالتفصيل انطلاقا من كتاب “تحول العادات الغذائية بالمغرب القروي -دراسة أنثروبولوجية-“، منشورات دار الأمان 2015، لأستاذة علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة القاضي عياض نعيمة المدني، عبر حلقات يومية طيلة أيام رمضان، في جريدة “العمق”. 

الحلقة 21

تاريخ الغذاء بالمغرب: صعوبات  متجذرة في التاريخ

إننا لا ننكر بأي حال الصعوبات التي تعترض عمل المؤرخ بخصوص موضوع الغذاء، ففي المغرب، فكما  هو الحال في المغرب العربي عموما، لا يكاد المؤرخ يعثر على الوثائق والأرشيفات الخاصة بالغذاء كما هو الحال بالنسبة لأوروبا.

إذ تكاد تقتصر المعلومات المتوفرة حول الموضوع على تلك التي توردها المونوغرافيات والآداب الخاصة بسيرة الأولياء والصالحين، أو بعض الوثائق المتعلقة بنظام الحسبة مثلا، بالإضافة إلى بعض كتب الأغذية، الأدوية، النبات، الطب والفلاحة التي من شأنها تزويد الباحث ببعض المعلومات عن الغذاء.

لكن يبدو أن حتى الكتابات التاريخية والجغرافية المغاربية لم يستثرها موضوع الغذاء لأن فعل الأكل لم يكن يشكل فعلا استثنائيا، إنه فعل يومي لا يستحق التوثيق، كما أن الثقافة الشفوية هي التي كانت تلعب دور الذاكرة التي تحكم انتقال المهارات الغذائية من الأم إلى البنت.

يشير الباحث المنقشي أيضا إلى أن المراجع  القليلة المتناولة لتاريخ الغذاء بالمغرب تعاني أيضا من البياضات التي تتخلل بعض الفترات التاريخية، كما أنها لا تمت إلى اليومي بصلة بقدر ما تنم عن تغذية القياد والقصور من خلال بعض الكنانيش المتوفرة.

من جهة ثانية  يشير روزنبرجي إلى أن التطور الذي كان قد وصل إليه الغرب في القرن الخامس عشر لم يقابله إلا جمود لا ينبئ عن أي تجديد تقني أو تحول اقتصادي في المغرب العربي، بل إننا إذا كنا نجد دراسات كمية حول الساكنة الأوروبية منذ القرن الخامس عشر، فإن الأمر لا يسري على شمال إفريقيا الذي لم يشهد تداولا للحالة المدنية قبل القرن التاسع عشر أو القرن العشرين .

أشار روزونبرجي أيضا إلى ندرة المصادر المتحدثة عن الغذاء في المغرب، وحدها نصوص بعض المعمرين أو بعض الرحالة تشير إلى بنية الوصفات التي كانت تقدم لهم.

لمحة عن تحول الذوق بأوروبا: النموذج الفرنسي 

سوف نحاول تقديم نبذة عن تاريخ الذوق الفرنسي في حين سنعرض لتاريخ الغذاء بالمغرب في القسم الميداني، وقد عمدنا إلى تقديم هذه النبذة في محاولة لكشف منطق تحولات العدات الغذائية بفرنسا .

يرى المؤرخ جون لوي فراندران أن الذوق رغم أنه يختلف من مكان لآخر ومن شعب لآخر، فإنه يعرف تغيرا كذلك عبر الزمن بالنسبة لذات الشعوب، فعبر العصور لم يقم الإنسان بحب،  رفض وطهي ذات الأغذية وبذات الطريقة: 

فالأغذية التي كانت تقدم على موائد الأمراء في فرنسا القروسطية: (الأطباق المحضرة بواسطة خنزير النهر،البجع ومالك الحزين) اختفت من موائد الفرنسيين، كما أن شرائح لحم العجل التي تشكل إحدى المتع الغذائية في فرنسا الراهنة، كان ينظر إليها كغذاء غير ذي قيمة يقدم للعمال.

إن الأحشاء أيضا التي لم يكن الملك لويس الثالث عشر يفضل غيرها، قد أساء تقدير قيمتها  باحثو القرن العشرين ، ولم يعرفوا بالتالي مكانها ومكانتها الحقيقية. أما بالنسبة للتوابل، لم يعرها الفرنسيون أي اعتبار إلا في القرن الرابع عشر والخامس عشر، فأصبحت بذلك ما يضفي على الأطباق قيمتها الذواقية، غير أنه منذ القرن السادس عشر سجل نفور للفرنسيين من التوابل.

لقد قلت منذئد، كمية ونوع التوابل المستعملة بل واختفى بعضها من المطبخ الفرنسي، كما هو الحال بالنسبة للإبزار الطويل، الينسون و حبة الجنة، في حين ظل استخدام القرفة، الزنجبيل والزعفران استخداما محدودا.

هكذا،  أصبح المطبخ الفرنسي يعتمد على ثلاث أصناف من التوابل وبكميات ضئيلة وهي: القرنفل، حبة  المسك  والفلفل الأسود، أما القرن الخامس عشر  فقد عرف سيادة الذوق الحامض  على  المطبخ  الفرنسي، فيما تم التوجه إلى استخدام الزبد منذ القرن  السابع عشر  كأساس للصلصات.

بالنسبة لقصة الحلو و المالح، نجد أن استعمال الفرنسيين للسكر في القرن الرابع عشر  كان قليلا مقارنة مع مثيلاته من المواد السكرية كالعسل، التين المجفف والعنب المجفف، وذلك خلافا للمطبخ الإيطالي، الكتلاني، الإنجليزي بل والعربي، غير أن هذه الخاصية التي كانت تطبع المطبخ الفرنسي سوف تختفي ابتداء من القرن الخامس عشر و السادس عشر مع الحظوة  التي نالها السكر.

إلا أن المطبخ الفرنسي الكلاسيكي سيكرس التنافر والتعارض بين الحلو المالح لأن ذلك كان يمس أصالته  حسب بعض الباحثين،  غير أن قبول هذا الأمر لم يتم إلا في القرن التاسع عشر، هذا الوقت  الذي سجل  شيوع الوصفات التي تمزج المالح والحلو وذلك إثر دخول أطباق التحلية التي غدت تقدم على الموائد .

يرى جون لوي فراندان أن الممارسات الغذائية التي تؤسس الذوق ترجع بالأساس إلى التمثلات السائدة حول التغذية الصحية في المجتمع المعني، بل إن بعض الممارسات الغذائية استمرت في الوجود عبر التاريخ نظرا لفضائلها الصحية.

وإذا كان الذوق والاختيارات الغذائية  بفرنسا تعبر عن الانتساب الطبقي(الأطباق البرجوازية، الأرستقراطية والشعبية)، فإنه ابتداء من القرن  السابع عشر  سيتم التعبير عن التمايز الاجتماعي بطرق أكثر تعقيدا قد ترتبط أيضا بمعايير الجمال السائدة (السمنة /النحافة)، وهي المعايير التي  كانت تحد من تعامل النساء  مع بعض الأغذية (السكريات)، وذلك باعتبارها أغذية  ارتبطت دوما بصورة المرأة  البدينة .

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *