وجهة نظر

ادعاءات تحوم حول اختيارات التوجيه التربوي

من بين القرارات التي خرجت بها وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، قبل أيام قليلة، بشأن مصير السنة الدراسية (2019-2020)؛ تدبير عملية التوجيه المدرسي والمهني والجامعي عن بعد، من خلال إنشاء منصة إلكترونية لهذا الغرض، والتي تم تفعيل خدماتها ابتداءً من يوم 18 ماي من العام الجاري.

في سياق هذا المستجد، غالبا ما يتبادر إلى الذهن أن هناك مشكل حقيقي بخصوص هذا التوجيه في وسطنا، حيث تجد معظم المعنيين بالتعبير عن رغباتهم (تلاميذ وطلاب)، عاجزون عن تحديد اختياراتهم (تخصص) وفق ميولاتهم الدراسية، وهذا ناتج بالأساس عن القيمة الهزيلة التي تُعطى لثقافة التوجيه، ليس فقط من لدن معظم المتعلمين، بل كذلك على مستوى منظومة التربية والتعليم ككل. هذا في الوقت الذي يتعين فيه، أن تكون هذه الثقافة من المرتكزات الأساسية، لتتبع المسار الدراسي والمهني للمتعلم منذ أن تطأ قدمه التعليم الأولي، لأن الميولات قد يبدأ ظهورها في سن مبكرة دون أن يكون الطفل المتعلم على وعي بذلك، كما قد يكون هذا الظهور متأخرا.

وللتأكيد، فالوسائل والأدوات الحديثة التي يتم اعتمادها في عملية التوجيه التربوي من قِبل العديد من الدول المتقدمة، أبانت عن فاعليتها في تعبيد الطريق أمام المتعلمين للأخذ بالاختيار الصائب في مسارهم التعليمي والمهني. والذي يجعل هذه الدول تركز اهتمامها على عملية التوجيه، هو الحرص على جعل كل أفراد المجتمع منتجون، وتجنب أن يكونوا عالة على الدولة أو على فئة من المنتجين، لذلك، فأغلب من يواصلون دراستهم بعد السن الإجباري للتعليم، هم الذين يجدوا في التعليم تحقيق ذواتهم؛ حيث يكون هناك تناغم بين مواصلة الدراسة والتخصص المختار؛ سواء أكان هذا في المرحلة الثانوية أم الجامعية بمختلف مسالكها. والمحصلة النهائية لهذا، هي تكوين مجتمع يتميز أفراده بمهارات متنوعة، تستجيب لشتى مناحي الحياة اليومية. هكذا إذن، يتم تحقيق مردودية وإنتاجية مرتفعتين، تنعكس إيجابيتهما على المنظومة التعليمية أولا، وعلى المحيطين الاقتصادي والاجتماعي ثانيا، ثم على المتعلم ثالثا.

وأمام غياب هذا التوجه، تحوم حول اختيارات التوجيه التربوي مغالطات، أقل ما يمكن القول عنها أنها موروثة ومتداولة ولا أساس لها من الصحة، وهي التي تحاول أن تختصر مُخرجات عملية التوجيه التربوي في الإبقاء على العموميات التي تجعل من التخصص المستقبلي منقسم إلى قسمين: العلوم والآداب، واعتبار جوهر القسم الأول يكمن في الذكاء واستخدام العقل، بينما الثاني يركز على الحفظ ومن ثم غياب التفكير. ولا غرابة أن تجد هذه الفكرة يحتفظ بها حتى من تخرج من الجامعة -وربما عند الحاصل على الدكتوراه-، كما تجدها سائدة في الأوساط العائلية ولو كان أفرادها من النخبة.

ولعل السبب في ذلك يرجع إلى عدم فهم الهدف العام من وراء التعلم، مهما كان ميدانه. والذي يتجلى أساسا في القدرة على معالجة مشكلات الحياة وإيجاد حلول لها؛ أو بعبارة أخرى هو تعبئة التعلمات ثم تركيبها وتحليلها لتجاوز المشكلات المطروحة من أجل الرقي بمستوى معيشة المجتمعات. من هذا المنطلق، يظهر أن جميع التعلمات التي يتلقاها المتعلمين، سواء أكانت علمية أم تقنية أم أدبية أم علوم إنسانية الخ، لا قيمة لها إن لم يتمكن حاملها من جعلها مجرد مادة خامة لعملية التفكير العميق (الذكاء)، من أجل صناعة حياة متقدمة على جميع المستويات.

وعليه، لا يمكن اعتبار التخصصات العلمية والتقنية، أنها تخصصات مبنية على الذكاء واستعمال العقل، إن كان أصحابها يدورون في رحى اكتساب التعلمات النظرية وحفظ الحلول الجاهزة للتمارين، لكي يتم استظهارها للإجابة عن الامتحان. كما لا يمكن اعتبار تخصصات الآداب والعلوم الإنسانية، مجرد تخصصات للحفظ، إن تمكن أصحابها من تجاوز المكتسبات النظرية إلى مرحلة المساهمة في بناء المجتمع.

والحقيقة أن كل التخصصات تعتمد على أعمدتين أساسيتين: الحفظ والتفكير، بما في ذلك العلوم البحتة التي يعتقد الكثير أنها خالية من الحفظ؛ لأنه لا يمكن الشروع في التفكير إلا بعد اكتساب وحفظ المعارف النظرية للمادة (الخاصيات في الرياضيات ولغات البرمجة في الإعلاميات … الخ)، ودائما في إطار رفع هذا اللبس، هناك من يعتبر الطبيعيات وخاصة البيولوجيا تخصص أقرب إلى العلوم الإنسانية منه إلى العلوم البحتة، لكون ماهيتها يغلب عليها النص أكثر من الحساب؛ ولكن أليس العالم كله، يعلق أمله، في الوقت الحالي، على هذا التخصص لإيجاد حل للمشكل المطروح الذي هو الفيروس التاجي (كوفيد 19)؟ أما بالنسبة لتخصصات الآداب والعلوم الإنسانية والعلوم الاقتصادية، أليست هي من تصنع لنا الشاعر والأديب ورجل الدين والفيلسوف والمؤرخ والسوسيولوجي والجغرافي والإعلامي والقانوني والاقتصادي الخ؛ فكلها تخصصات تقوم على عملية التفكير إلى جانب المكتسبات النظرية.

وإلا فكيف يمكن للشاعر والأديب أن يصل إلى هذه المرتبة إن لم يكن ذكيا في تجميع وتركيب المادة والتحكم -إلى حد كبير جدا- في قواعد اللغة؟ أو كيف يمكن لرجل الدين أن يكون له قول في الأحكام الشرعية إن لم يوظف عقله في تحليل النصوص الدينية والربط في ما بينها وبين الواقع المعاش؟ أو كيف يمكن للمتخصص في الفلسفة أن يرتقي إلى مستوى فيلسوف إن لم ينغمس في التفكير العميق للبحث عن الحقيقة وإزالة اللبس والغموض عن الأشياء الغامضة بغية تجديد الواقع المعاش؟ أو كيف يمكن للمؤرخ أن يقدم ويبسط الأحداث التاريخية ويجعلها دروسا للاقتداء بها في الحاضر إن لم يمتلك ذكاء التنقيب والتحقق والتنقيح؟ أو كيف يمكن للسوسيولوجي أن يدرس سلوكات المجتمعات (أفراد أو مجموعات بشرية) إن لم يتحكم في فهم القوانين التي تحكم تطورهم وتغيرهم؟ أو كيف يمكن للجغرافي أن يعالج الظواهر المجالية إن لم يكن محنكا في دراسة العلاقات بين الإنسان ومحيطه البيئي التي تقوم على ذكاء استعمال الأدوات الجغرافية؟ أو كيف يمكن للإعلامي أن يصبح جذابا ومؤثرا في الجمهور إن لم يجعل مكتسباته النظرية تعمل لصالحه، وذلك طبعا عن طريق استعمال الذكاء الإعلامي؟ أو كيف يمكن للقاضي أن يتوفق في إصدار أحكام في قضايا معقدة إن لم يستعمل ملكة التفكير العميق في النصوص القانونية المُنظِمة -على كثرتها- والربط في ما بينها؟ ومعه كذلك المحامي الذي يشاركه نفس المهمة لكن من زاوية النجاح في الدفاع عن القضايا القانونية؟ أو كيف يمكن للاقتصادي أن يحرك الدورة الاقتصادية ويزيد من سرعتها إن لم يكن ذكي التفكير في استخدام القواعد الاقتصادية؟ …

والخلاصة هي أنه يمكن الحديث عن الذكاءات المتعددة بدل الحديث عن الذكاء الأحادي الجانب، كما تناول ذلك “هاورد غاردنر” في نظريته المعروفة بنظرية الذكاءات المتعددة. لأن كل فرد يمكن أن يُعطي من زاوية ميولاته التي استنبطتها له عملية التوجيه التربوي لا الادعاءات المتداولة وسط المحيط ولا الخنوع لرغبات الأسرة. هكذا يكون هناك مائزين بمهارات متنوعة، تتفاوت بين الحرفيين ورجال الأعمال ورجال الدين والقادة والأكاديميين والأطباء والمهندسين والفنانين الخ، بحيث يكون كل هؤلاء في ظل وجود عملية التوجيه التربوي السليم مشتغلون منتجون لا مشتغلون عالة.

* دكتور، وإطار عالي بوزارة إعداد التراب والتعمير والإسكان وسياسة المدينة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *