مجتمع

نوابغ مغربية: المختار السوسي.. معلمة فقهية ودائرة معارف متنقلة عانى من النفي والاعتقال وخلدته مؤلفاته

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

الحلقة التاسعة: المختار السّوسي.. مَعْلَمَةٌ فقهية وقامة وطنية متكامِلة الأركان

في بيتِ تديُّنٍ كانَ مولده سنة 1900 وفيه كان مَنْشأه، مُحاطاً بأسرةٍ مرتبطة بالدين واللغة العربية والقرآن والتراث الأمازيغي، وذات نَفَس وطني مناضِل. حفظ القرآن الكريم إلى مَطالع سورة النّبأ على يد والدته السيدة رقية الأدوزي وهو ابن عشر سنين. ونهَل مِن مَعين التصوّف السُّـنيِّ النّقي منذ بواكير حياته.

فيما بين 1911 و1914 تَـنقَّل بين مدارس إيلغ وتزنيت وإفران الأطلس الصغير مُتَلَقِّيا مَبادئ العربية وعلوم الدين على يد شيوخ المنطقة. فيما وُسِمت مرحلة 1918 – 1928 من حياته الأولى بِـتَــنــقُّله بين فقهاء ومدارس الصويرة ومراكش كأبي شعيب الدكالي ومولاي الحسن السرغيني ومولاي أحمد العلوي، ثمَّ تفرُّغهِ زهاء خمسة أعوام في جامع ابن يوسف للتعمق في العلوم والمعارف، مع اهتمام بتزكية النَّفْس وارتباط مستمر بالتصوّف.

انتقل إلى فاس وانضمّ للقرويين ناهلا من علماءها الكبار (الشيخ محمد بن العربي العلوي وأحمد البلغيثي وابن جعفر الكتّاني والحجّــوجي..)، وفي العاصمة العِلمية أَسَّسَ جمعية (الحماسة)، خَصَّصَها لحفظ وتلاوة ديوان “الحماسة” للشاعر العربي الكبير (أبو تمّام) وكتاب “نور اليقين” بالتّناوب. وفي ذات المدينة ساهَم في تأسيس جمعية سرية يوم 26 يناير 1926 انتخَبوا لرئاستها أصغر الأعضاء من بين الحاضرين؛ الأستاذ علال الفاسي. ثم رحل الأستاذ المختار إلى الرباط وأخَذَ عن مشايخها وعَزَّز رصيده مِن العلم على يد العلّامة الـمدني بن الحسني ومحمد السائح وغيرهما.

بَعْدَ مرحلة التّحصيل؛ جَعَل من مراكش قاعدة انطلاق دَوْرِهِ في التّـنزيل والتّأصيل والتّأطير، فَمَارَس التّعليم والتربية الوطنية للنشء المناضِل ضدّ الاستعمار، وخَدَم اللغة العربية في مساجد المدينة، ومنها وقَّع مَعية بَعض الشرفاء والعلماء عريضة تَــمَّ رَفْعُها للسُّلطان محمد الخامس سنة 1934 يطالبون فيها بتأسيسِ الجمعية الخيرية المراكشية، وتَمكَّن في هذه المدينة العريقة مِن مُعانقة “الوطنية والسّلفية” على حدّ تعبيره رحمه الله.

وعَلى غِرار قادة الكفاح الوطني وأعلامه المبرَّزين؛ اعتُقِل الأستاذ المختار السوسي ونُفِيَ؛ إلا أنه استَـثمَرَ مرحلة النّفي والاعتقال التي امتدّت مِن (1937 إلى 1945) في التّأليف والكتابة.

سَنَةً بَعد إطلاق سراحه؛ اختير ضمن تشكيلة الوفد الرسمي المغربي الذّاهب لحجّ بيت الله الحرام. ثمَّ حضر في السنوات التاليات مُؤتَمَرين عالميين في تونس سنة 1948، كما شارك في فعاليات عربية وإسلامية أخرى، في بغداد ودمشق وبيروت والجزائر وباريس وروما.

استَقَرَّ بالدار البيضاء سنة واحدة مَلَأَ مساجدها وعْظًا وتأطيرا، وكَثّفَ التَّعبئةَ الوطنيةَ في صفوف خلايا المقاومة والفداء بالمدينة، إلى أنْ حَالت مَرارة الاعتقال تارة أخرى دون إكمال مشوار التأطير، حيثُ اقْــتيدَ إلى أعماق تافيلالت مُعتَقَلا على خلفية مشاركته في احتجاجات ضدّ اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشّاد، ولَم يُفرَج عنه إلى بعد عودة السلطان محمد الخامس.

محمد المختار السّوسي شهِدَ له مُعاشِروه ومَن تتلمذوا عليه ومَن صاحَبه زَمَنَ النضال وبَعْد الاستقلال؛ أنه رجلٌ متصوّف، متجرِّد، شاعِري ومولَع بالتاريخ والتّأريخ، لا يَترك شاردةً ولا وارِدةً إلّا دوَّنها، متفرِّدٌ في الإبداع، غزير العطاء؛ تأليفاً وحديثاً.

وبفضْلِ تقييداته ونَباهته التوثيقية وذاكرته الـقوية أمْكَننا التعرُّف على المغرب العميق، وعلى تراث سوس ومدارسها وعلمائها وطُرُقها الصوفية وجهاد رجالها وعَبَق تراثها الشفهي والمكتوب، وبفضل جهوده التوثيقية تعرَّفنا على نُظم التربية والتعليم والإقراء وحياة البُسطاء والصُّلحاء والنّبوغ الـمغربي في موسوعة “الـمعسول”.

وبإمكاناته الذِّهنية وحِرصه الدقيق على التوثيق؛ استطعنا _ على سبيل المثال _ الإحاطةَ بالأصول الاجتماعية والفكرية والثقافية والتّحيزات السياسية لرجالات الحركة الوطنية الذين ضمَّهم مُعتَقَل (اغبالو نكردوس)، الذي اعتُقِلَ فيه الأستاذ المختار، وبوجوده ودروسه التي كان يُلقيها على المعتقلين ليلَ نهار؛ أطْلَق الأستاذ المهدي بن بركة على سجن (اغبالو نكردوس) وَصْف “الـجامعة الكـرْدوسية”.

هذه النباهة، والاجتهاد، عزّزّهما لدى العلّامة الـمختار نبوغٌ في الكتابة ووفرة التأليف، وقد اشتُهِرَ في هذا المضمار أكثر من غيره، وخلَّدته الـمُؤَلَّفات في صدور الأجيال وفي ذاكرة الوطن عقوداً من الزمن.

كتَب الأستاذ السوسي في مجالات عديدة؛ ففي الأدب وفنونه، خلّف ذخائر وازنة، منها ما نُشِر؛ كرواية “بين الجمود والمـيع” و”ديوان الزَّهر البليل” و”الرسالة الـمختارية”، و”مِن ضمير إلى ضمير” و”نَوازع الغربة” و”أنا والأدب”، ومَا لم يُنشر في هذا الباب يَصل 22 كتابا. أمّا الشِّعر؛ فقد كان فيه مُبَرَّزا، وقَارَبَ شِعره 10.000 بيت حَسب شهادة ابنه عبد الوافي السوسي.

وفي مَـجَال المعرفة التَّاريخية والتوثيق، لَهُ مُصنَـّفات قيّمة مطبوعة: “إيليغ؛ قديما وحديثا”، “حول مائدة الغذاء”، “طاقة ريحان مِن رَوضة الأفنان”، “سوس العالمة”..، والذي ما يَزال في هذا المجال مخطوطاً؛ يَـتَجَاوَز 8 كــتب.

وفي مجال العلوم الدِّينية طُبِع له “المجموعة الفـقهية في الفتاوى السوسية” و”مَعنى الوَلِـي في الشَّرع” و”مُذكّرات الشَّيخ الجليل في تارك الصلاة”، فيما لا تَزال 7 كتب أخرى عبارة عن مخطوطات.

وفي مجال الثّقافة الشعبية؛ مُعظَم ما تركه الرجل بقي مخطوطا؛ كـمَخطُوطه “قطائف اللَّطائف” و”أمثال الشّلحيين وحِـكَـمُهم” و”الألفاظ العَربية في الشّلحة الريفية” وغيرها.

أمّا في مَـجال الرّحلة؛ فللرّجُلِ خَمْسُ رحلات مطبوعة ومنشورة وهي “الرحلة الأميرية”، “الرحلة الوزيرية”، “الرحلة الأولى للحواضر”، “أصفى الـمَوارد في رحلة الوالِد”، “مِن الحمراء إلى إيلغ”. وما لم يُطْبَع في هذا المجال؛ مخطوطانِ هما “الرحلة الـحجازية” و”الرحلة التُّونسية”.

كما اختَصَّ في التَّراجم والسِّــيـر الذّاتية والمذكّرات، فقد خَلَّفَ لنا 6 مخطوطات، و4 كُـتب مطبوعة وهي: “مَشْيَخَة الإلغيين مِن الحضريين”، “التّرياق الـمُداوي”، “مُـنْـية الـمتطلِّعين”، “رجالات العلم العربي في سوس”، و4 كُتبٍ مطبوعة وهي: “ذكريات” و”على قِمّة الأربعين” و”مذكِّرات عن المعتقل” و”الإلغيات” التي جاءت في ثلاثة أجزاء.

ناهيك عن عشرات المقالات والمشاركات الإذاعية والدروس الرمضانية والخطب الـمنبرية والمخطوطات التي قام بتحقيقها وتهييئها للطبع والنشر.

إنَّـنا أمام دائرةِ معارِف متنقِّلة.. عالِمٌ عانَق الاستِثناء، وجَـعَل العلم والقلم سلاحين في مواجهة الاستعمار والتخلّف.

عُيِّن العلّامة رضا الله المختار السوسي بعد الاستقلال، وزيراً للأحباس، ثمّ وزيراً في مجلس التاج، فقاضيا بالقصر الملكي في الرباط سنة 1960، حيث بقِيَ يشْغلَ هذا المنصب لحين وفاته سنة 1963.

وَصَفَه الملك الراحل الحسن الثاني في كلمته التي ألقاها في أربعينية الفقيد المختار السوسي “لا نفقد رجلا عاديا كالرجال العاديين؛ وإنّما نفقِد بَـقية من السَّـلَف، وواحدا من الصّفوة”، وقد كان كذلك؛ رجلا فريدا، عالِما متبحِّراً، وطنيا غيورا، زاهداً تأتيه الدنيا ولا يأتيها، شَغوفاً باللسان العربي وخادما وفيا للعربية والأمازيغية.

رحمه الله وأحسن له الثواب.

مصادر ومراجع

* (السوسي) محمد المختار: “أصفى الموارد في تهذيب الرحلة الحجازية للسيد الوالد“، طبعة إلكترونية، 2010
* (عبد الوافي) السوسي: “دليل مؤلفات ومخطوطات العلامة رضى الله محمد المختار السوسي“، نسخة إلكترونية.
* “العلامة محمد المختار السوسي؛ رمز الوطنية الخالصة ومثال المفكر المغربي الأصيل“، أشغال ندوة علمية بمدينة الرشيدية، دجنبر 2008، منشورات المندوبية * السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة الأولى 2010.
* “معلمة المغرب“، مجموعة مؤلفين، مطابع سلا 1989، الصفحة 5185

* إعداد: عـدنان بـن صـالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • Ridallah . abdelouafi@gmail . com رضى الله عبد الوافي بن محمد المختار السوسي
    منذ 4 سنوات

    بعض المعلومات في الترجمة مغلوطة أو غير مدققة مع اختلاط في كتبه المطبوعة أو المخطوطة وأشياء أخرى