وجهة نظر

دور الثقافة السياسية الاسلامية في تدعيم الممارسة الديمقراطية

في إحدى الدراسات القليلة لاتجاهات الرأي العام العربي سنة 1980(1) جاء الاهتمام بقضية الديمقراطية والمشاركة السياسية في المرتبة السادسة ضمن لائحة تشمل سبعة هموم رئيسية، وبعد الدراسة المذكورة بعشر سنوات سئلت عينة قومية شملت 18 قطرا عربيا عن أهم التحديات المستقبلية التي تواجه الوطن العربي، وضمن ثمانية تحديات رئيسية جاءت المسألة الديمقراطية في المرتبة السادسة مرة أخرى.

إن هذه الحقيقة تعطي تفسيرا لاستمرارية الاستبداد في الوطن العربي طيلة عقود طويلة، وتفسر كذلك لماذا تحدث الانتكاسات لمسيرة التحول الديمقراطي في بعض الأقطار في السنوات الأخيرة، و الأكثر مدعاة للخيبة هو أنه حتى بين فئات الرأي العام العربي الأكثر تعليما فإن نسبة المهتمين بقضية الديمقراطية تبقى متواضعة، و هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن ثمة أمر في ثقافتنا يعادي الديمقراطية أو لا يعيرها أهمية مركزية في منظومة القيم والمعايير السائدة في مجتمعاتنا.

إن للثقافة السياسية التي يؤمن بها أي شعب أعظم الأثر في وجود بناء مؤسساتي يسمح بالممارسة الديمقراطية أو يرفضها، فالإجماع يكاد ينعقد بين علماء السياسة على أن الديمقراطية ليست مجرد مؤسسات فحسب، ولكنها أيضا مجموعة قيم واتجاهات ومشاعر، فالعبرة في النظام الديمقراطي ليست في وجود الإجراءات والأجهزة السياسية (الدستور، الانتخابات الدورية، فصل السلط، الأحزاب، المجالس النيابية…) وإنما في توفر ثقافة سياسية ملائمة تشجع على الممارسة الديمقراطية الفاعلة ليس من طرف المحكومين وحدهم بل الحكام كذلك.

لقد مكنت الرموز الثقافية العربية التقليدية الاستبداد السياسي من إحكام قبضته وترسيخ قدمه، ولقد وعت النخب الثقافية والسياسية العربية هذه الحقيقة حينما سمح لها التواصل مع أوروبا في العقود الأولى من القرن 20 الاطلاع على المجتمعات الغربية والرموز الثقافية التي تسودها، ولقد حاولت هذه النخب التي تأثرت خصوصا بمبادئ الثورة الفرنسية تغيير القيم الثقافية المحلية بما يساعد على اقامة الحكم الديمقراطي، غير أن هذه النخب التي كانت تستمد مرجعيتها من مبادئ علمانية دخيلة لم تستطع تعبئة الشعوب بالرغم من التراكمات النظرية العالية المتوفرة لديها، و سبب هذا الإخفاق يرجع إلى القطيعة التي كانت تحول بينها وبين عموم الشعب فقد كانت تخاطبه من برج عاجي وبلغة لا يفهمها غير ملتفتة لما في الإسلام من قيم ورموز سياسية وثقافية معادية للاستبداد، وبدلا من إحياء هذه القيم و العمل على تلقينها للناس فقد تجاهلتها بل و أعلنت العداء لها في بعض الاحيان.

مبدأ الشورى:

فلسفة الحرية في الإسلام بطبيعتها تفرض وجود مجتمع حر يرفض الاستبداد من قاعدته إلى قمته، فمبدأ الشورى الذي وضعه الإسلام والذي يمكن اعتباره كأحد الأسس الأولى للنظام الديمقراطي ليس مفروضا على الحكام فحسب بل يعتبر جزءا لا يتجزأ من نسيج المجتمع بأكمله.

فبالنسبة للحاكم الأمر في القرآن واضح “وشاورهم في الأمر”، واذا علمنا إن هذا الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم بعد غزوة أحد التي تخلى فيها عن رأيه وعمل بمشورة المسلمين فهزموا ومع ذلك أمر الله نبيه بالاستمرار في الالتزام بالشورى فإن هذا يؤكد مدى تمسك الإسلام بوجوب رجوع الحاكم للرعية في جميع الظروف، وإذا كان العمل بالشورى أمرا واجبا بالنسبة للرسول عليه الصلاة والسلام وهو المؤيد بالوحي فإن الأمر إذن بالنسبة لباقي حكام المسلمين يعد من أعظم الواجبات.

والمسلم الذي يعد في اتصال دائم مع القرآن الكريم فيمر على سورة كاملة هي ســـــورة “الشورى” – سميت بذلك نظرا لأهميتها المركزية بين المبادئ الإسلامية – ويمر على آيتين تحضان على الشـــورى:” وشاورهم في الأمر”، “وأمرهم شورى بينهم” في وصف المفلحين من المسلمين، من المستبعد أن يتخلى عن هذا الحق المقدس في الشورى المكفول ليس بمجرد وثيقة قانونية أو دستورية عادية بل بكتاب نزل به الوحي ويحظى بالقدسية الكبيرة والمكانة العظيمة في نفوس المسلمين.

و بالإضافة إلى أحكام القرآن فإن السنة النبوية و سيرة الخلفاء الراشدين كلها تؤكد أهمية الشورى في حياة المسلمين، فالحالات التي كان يستشير فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من حوله لا تعد، وكان عليه الصلاة والسلام في حالات كثيرة ينزل عند الرأي الذي يراه صوابا أو عند رأي الأكثرية وكذلك كان يفعل خلفاؤه رضوان الله عليهم، ونورد مثالا واضحا يبين المقصود بمبدأ الشورى كما فهمه الجيل الأول من المسلمين، فقد اقتطع الخليفة أبو بكر أرضا لنفر من المسلمين فسأله عمر: أهذه أرض تخصك وحدك؟ قال: لا، قال الفاروق فهلا استشرت في أمرها؟ قال الخليفة: لقد استشرت من حولي، فرد عمر: أهي ملك لهم؟ قال أبو بكر: لا هي للمسلمين جميعا، فقال عمر: فهلا أوسعت المسلمين مشورة؟

إن مبادئ الإسلام تعتمد على الشورى أولا قبل اعتمادها على الهياكل و المؤسسات السياسية والدستورية التي تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويذهب المفكر الاسلامي الكبير مالك بن نبي إلى أن قيام حكم دستوري على أرض الواقع يرتكز على أسس ثلاث:

أولا: الشورى كشعور نحو الأنا: أي شعور الفرد بأنه يحمل نفسا حرة ترفض العبودية.

ثانيا: الشورى كشعور نحو الآخرين: أي شعور السلطة بحرية الأفراد وشعورها بكراهية الاستبداد.

ثالثا: الشورى كمجموعة الشروط الاجتماعية و السياسية اللازمة لتكوين و تنمية هذا الشعور لدى الفرد (2).

فالفكر السياسي الإسلامي يؤسس مشروعه السياسي و الدستوري على الأسس الثلاثة السابقة ،فهو يغرس الشعور الحر في نفس الفرد بما يمنعه من الوقوع في هاوية العبودية كما يزرع نفس الشعور في نفس الحاكمين بما يمنعهم من الوقوع في هاوية الاستعباد، ثم يأتي دور المؤسسات السياسية والدستورية بعد ذلك كنتيجة شكلية لذلك الشعور، فالديمقراطية ليست عملية إقامة هياكل فحسب بل يجب أن تقوم في ضمير الشعب أولا ، والمؤسسات الديمقراطية ما هي إلا النتيجة الحتمية للمشروع الديمقراطي عندما يصير واقعا اجتماعيا توحي به عادات وتقاليد الجماعة في ظروف معينة (3)

الاستعداد للمشاركة السياسية:

الممارسة الديمقراطية الحقيقية تقتضي مشاركة أغلب المواطنين على الأقل بوعي و إيجابية في صياغة السياسات والقرارات واختيار الحكام وأعضاء المؤسسات التمثيلية على الصعيدين المركزي والمحلي، وتفيد الأدبيات السياسية تدرج مستويات المشاركة بدءا من مزاولة حق التصويت مرورا بالمشاركة في المناقشات السياسية وتقديم الاقتراحات واكتساب عضوية التنظيمات الحزبية و الترشح للمناصب العامة و انتهاء بالوجود الفعلي في بنية السلطة، وتتطلب الممارسة البناءة لكل هذه الأنشطة اقتناعا بضرورة وجدوى المشاركة بحيث ترقى إلى مرتبة الالتزام بالواجب (4).

و يستمد مبدأ الاستعداد للمشاركة السياسية أصله في القيم الإسلامية من قاعدتين أساسيتين:ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم الاهتمام بأمر المسلمين (من بات لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فإقصاء السلبيين والمنكفئين على ذواتهم من دائرة المسلمين يعتبر تهديدا كبيرا لا يمكن للمسلم أن يتجاهله ببساطة، والمشاركة السياسية ما هي إلا أداة للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الأمر بالمعروف السياسي الذي يخدم مصالح الأمة والنهي عن المنكر السياسي المتجسد في التسلط والانتهازية والرشوة و الفساد… الخ ” ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون “، ففي الآية بيان وجوب لأن ظاهر الأمر ” ولتكن ” الوجوب، وسائر التوجيهات القرآنية والنبوية تحت على ضرورة مخالطة الناس والنصح لهم ودعوتهم إلى الخير، وثمة قاعدة شرعية وهي (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، فإذا كان تحقيق العدل السياسي واجب بذاته فإن المشاركة من أجل تحقيقه تعد واجبا حكما، و بهذا تكون المشاركة السياسية ” فريضة اجتماعية” واجبة على كل مسلم والنهوض بهذه الفريضة هو المعيار الذي تكون به الأمة الإسلامية خيرة في حياتها الدنيا “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر “، ويجب ألا تقتصر المشاركة السياسية على الرجل وحده، بل يجب أن تشمل المرأة كذلك، والملاحظ أن المشاركة السياسية للمرأة العربية تعرف قصورا صارخا، ويرجع السبب في ذلك إلى العقلية الذكورية التي لا زالت تتحكم في المجتمع العربي، ففي استطلاع للرأي في احدى دول الخليج العربي بلغت نسبة الرافضين أعطاء المرأة حق الانتخاب و الترشح نسبة 7’73% ، إن الأعراف و التقاليد والقيم الثقافية الموروثة عن عصر الانحطاط و المخالفة في جوهرها لمبادئ الإسلام وتعاليمه لا زالت تحظى بتقديس واحترام كبيرين بحيث أصبحت مرجعا لا يصح بحال التنازل عنها ومناقشتها أو استبدالها بواقع جديد، فرغم وضوح موقف الإسلام من المشاركة السياسية والاجتماعية للمرأة، فإن عقلية ما قبل الإسلام ما تزال تطغى على تصرفات فئات واسعة من المجتمع العربي ، ففي بعض الاقطار لا زالت المرأة تجبر على المكوث في البيت لا تخرج لطلب العلم ولا للعمل ولا تشارك في أي نشاط يخدم الصالح العام كما تعامل أحيانا معاملة قاسية أساسها القهر والتسلط والإهانة والحرمان من الحقوق المادية والمعنوية وبهذا ترسخ في ذهنية المرأة تقبل المهانة والرضا بالدونية و التهميش.

إن تطهير المجتمع العربي من هذه الرواسب الفكرية ليس أمرا سهلا فهو يفترض أن يكون البديل يحظى باحترام وتقدير يفوق تقديس الموروث الثقافي المستمد من عصر الانحطاط، ولا توجد ثقافة بديلة تستطيع أداء هذه المهمة أفضل من الثقافة الإسلامية، لقد شاركت المرأة في المجتمع الإسلامي في العمل الميداني بجميع أنواعه، إن الدخول في الإسلام مع معارضة الأهل والسلطة الحاكمة ثم ما يتبعه من الاهتمام بأخباره أو التعرض للتعذيب بسببه أو الهجرة من الوطن في سبيله كل هذا يعتبر نشاطا سياسيا حسب التعبير المعاصر، وقد كان وراء ممارسة المرأة المسلمة لكل هذه الصور من النشاطات عقيدة راسخة تدعوها إلى مشاركة الرجل في نصرة الدين الجديد، بل إن المرأة شاركت في الجهاد بالخدمات والتطبيب والقتال أحيانا من أجل بناء قواعد الدولة الإسلامية، ثم إن بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم والتي يعتبر مضمونها سياسيا شاركت فيها المرأة بدورها، وفي جميع صور العمل السياسي كان الرجال والنساء سواسية في الحضور والفعل دون تمييز وتفاضل.

إن ضرورة رفع الوعي السياسي لدى المرأة لدفعها نحو المزيد من المشاركة السياسية لا ينبع من كونها تمثل نصف المجتمع من الناحية العددية الإحصائية بل لأن تأثيرها إيجابا أو سلبا في محيطها وخصوصا في عملية التنشئة السياسية للأولاد يعد أكثر من ذلك.

الشعور بالاقتدار السياسي:

حتى تتحقق فاعلية وحيوية العملية الديمقراطية، لا بد أن يشعر كل أو غالبية أفراد المجتمع بالقدرة على التأثير في مجريات الحياة السياسية سواء من خلال توجيه النقد البناء إلى أي مسؤول حينما يخطئ دون خوف من لوم أو عقاب أو من خلال إبداء الرأي في مختلف القضايا التي تواجه المجتمع مع الاقتناع بأن لهذا الرأي قيمة ويمكن أن ينصت إليه، هذا الشعور كما يرى ذلك علماء السياسة أساس وركيزة لأي نشاط سياسي إيجابي هادف (5).

ان هذا الشعور يستمد جذوره في الثقافة السياسية الإسلامية من مكانة الإنسان أولا: “ولقد كرمنا بني أدم”، ومن مبدأ الاستخلاف في الأرض، و أخيرا من مفهوم الحرية في الفلسفة الإسلامية الذي يرتكز على الركن الأول من أركان الإسلام و هو التوحيد ، فمن منطلق هذا الركن يؤمن الفرد و الجماعة بأن الله هو المعبود في الأرض و أن الناس بعد ذلك هم بدون استثناء أشباه و أنداد ، و من الثمار الرئيسية لهذا الاعتقاد أن يصبح تفكير الفرد و ممارسته الاجتماعية و السياسية في حالة تحرر كامل لا يقيدها إلا مبادئ الشرع و القانون .

من هذا التأصيل الإسلامي للحرية و جعلها قرينة التوحيد يظهر التقديس الذي يحف به الإسلام الفرد، وهذا التقديس يفوق أي تقديس سياسي للإنسان أو المواطن وبذلك يعتبر حجر الزاوية للتغيير اللازم في نفس الفرد لما يولده من شعور بالثقة، فالإنسان الذي يحمل في نفسه الشعور بتكريم الله له لا بد أن يشعر بوزن هذا التكريم في تقديره لنفسه و في تقديره للأخرين فيتجنب بذلك الوقوع في هاوية العبودية (6).

توفر روح المبادرة:

لا شك أن الشعور الذي ينتاب الأغلبية بالمبادرة أمر ضروري سواء لمناهضة الظلم و الفساد أو للمشاركة في الجهود الإنمائية، ويبدو أن الغالبية العظمى في العالم العربي تنقصهم هذه الروح حيث يتصورون أن أي قرار وكل مبادرة ينبغي أن تأتي من الأعلى وأن الحكومة هي المسؤولة عن كل شيء، فالدولة في نظر الإنسان العربي دولة أبوية تتكفل به من المهد إلى اللحد، وكثيرا ما يعلم الفرد بقصور أو انحراف معين و لكنه لا يبادر باتخاذ موقف ايجابي بل ينتظر غيره أن يقوم بذلك، وما دام كل فرد ينتظر مبادرة الآخر فليس غريبا أن يستمر التردي في مؤسساتنا (7).

إن المبادرة لإصلاح أي خلل أو فساد أو اسداء خدمة للفرد أو الجماعة يعد عبادة في الإسلام ولا ينتظر صاحبها أوامر ولا قرارات من أحد ، كما لا يطلب على ذلك جزاء ولا شكورا لأنه عمل طوعي خيري يرجى ثوابه من عند الله وحده، فالمسلم المستنير يرفض أن يكون انسانا تواكليا متقاعسا أو أن يعيش خانعا في مجتمع مخدور ليس لأنه إنسان متمرد بطبعه أو ميال الى العنف، ولكن لأن الإسلام أعطاه حقوقا سياسية واقتصادية واجتماعية وجعل تمسكه بهذه الحقوق جزء من تدينه وتخليه عنها يعد خروجا عن روح الإسلام (8).

إن الحركة والتفاعل وروح المبادرة هي ثمرة من ثمرات الإسلام نفسه وأكثر ما يجب أن تتوفر هذه المبادرة عند مقاومة الطغيان ففي الحديث الشريف (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، (لو رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها)، وهذه المقاومة للاستبداد هي مقاومة تلقائية تطوعية تصدر عن نفس ترفض بطبيعتها الاستبداد، غير أن روح المبادرة في مقاومة الفساد خصوصا عندما يتعلق الأمر بانحراف السلطة يجب ألا يترك لجنوح فرد أو جماعة فالمبادرة لا تعني الفوضى بل يجب أن يتم ذلك من خلال القنوات والأساليب الشرعية السلمية فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يصلح على اللين ما لا يصلح على العنف)، وفي حديث آخر (ما وجد اللين في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه) .

الثقة السياسية والتسامح الفكري المتبادل:

يقصد بذلك أن يسمح لكافة الآراء والتوجهات بأن تعبر عن نفسها دون قيود طالما انها لا تشكل تهديدا لنظام المجتمع العام، ولا يكفي في ذلك وجود النص الدستوري الذي يسمح بتعددية الاتجاهات، وإنما ينبغي أن يتوفر لدى الجميع حكاما ومحكومين قبولا بمبدأ التنافس و احترام الرأي الآخر، بل يجب أن يسود اقتناع عام بأن اختلاف وتعدد الاتجاهات والآراء ظاهرة صحية ومطلوبة (9).

ولنجاح الديمقراطية لابد من الشعور بالثقة المتبادلة بين المواطنين والنظام السياسي وفي علاقة المؤسسات السياسية بعضها ببعض ،إذ بغير هذا الشعور تنتاب المجتمع حالة من الفردية العارمة يصعب معها وجود مناخ صحي للتنافس السياسي الذي يشكل جوهر الديمقراطية، ولا يتصور أن ينمو ويتكرس الشعور بالثقة السياسية ما لم تكن هناك ثقة متبادلة بين أفراد المجتمع بوجه عام(10).

هذا الشعور لا يبدو أن له قدما راسخة في ثقافتنا السياسية العربية، فالشك المتبادل يكتنف العلاقة بين الحكومة والمعارضة، وتشوب الريبة بين الحركات السياسية بما فيها تلك التي تتقارب في الأصول الإيديولوجية، وكل المؤشرات تدل على عدم تجدر قيم التسامح في بنائنا الاجتماعي والسياسي، فبعض التيارات لا تعترف سوى بالحزب الواحد والإيديولوجيا الواحدة ويعتقد أصحابها أن ما يرونه هو الحق وأن ما عداه الباطل وتضيق صدور المسئولين بالنقد والرأي المخالف وان تم زعم غير ذلك، ويقترن الانتماء الحزبي بنعت المخالفين بأوصاف شتى كالرجعية والعمالة أو الخيانة والكفر.

فماذا تستطيع الثقافة الإسلامية تقديمه لإصلاح هذا الوضع؟ إن قيم الإسلام لا تؤكد فقط على مبدأي الحوار والتسامح بل تربط الالتزام بهما بالثواب والمغفرة والاجر في الدنيا والآخرة، وتقوم قواعد الحوار والتسامح في الإسلام على جملة مبادئ مهمة يكون من نتائج الالتزام بها اشاعة مناخ الثقة والتقارب بين الاتجاهات المختلفة، ونذكر من بين هذه المبادئ:

– ضرورة احترام الرأي الآخر: فمن الدعائم المهمة لتقريب الثقة وتقليل حدة الخلاف احترام الرأي المخالف وتقدير وجهات نظر الآخرين وإعطاء آراءهم الاجتهادية حقها من الاعتبار والاهتمام وذلك مبني على أصل مهم وهو أنه كل ما ليس قطعيا من الأحكام هو أمر قابل للاجتهاد وإذا كان يقبل الاجتهاد فهو يقبل الاختلاف، ومن المعروف أن القطعيات تمثل مساحة قليلة جدا من الأحكام العملية، فرحمة بنا سكت الشارع عن أشياء كثيرة لم ينص على حكمها لا في كتاب ولا سنة وما نص عليه جعل معظمه قابلا لتعدد الأفهام والاختلاف في التفسيرات والاستنباطات حتى يتسع للأصناف المتباينة من الناس ” وإذا كان من حقي أن اجتهد في فهم النصوص أو فيما لا نص فيه فلا بد أن أعطي غيري الحق الذي لي وإلا فما الذي يميزني عن غيري؟ “(11).

– التحرر من التعصب للأشخاص والهيئات: فالتعصب للحزب والجماعة أو المذهب من شأنه أن يضفي عليها من الصفات ما يشبه القداسة، ومن مظاهر هذا التعصب ألا ينسب للحزب إلا المزايا والحسنات ولا يذكر للأحزاب المخالفة سوى العيوب والسيئات، والإسلام يوجب أن يكون المرء عدلا مع من يحب ومن يكره يقوم لله شهيدا بالقسط ولو على نفسه والأقربين ” يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين “، ” ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى “، ولا عجب إن رأينا المنصفين من علماء المسلمين وأئمتهم يرجحون رأي الغير ويتركون مذهبهم إذا تبين لهم قوة حجة المخالف.

– حسن الظن بالناس ونبذ الطعن والتجريح: من أسباب التواصل والتقارب ترك طعن المخالف وتجريحه بل يجب التماس العذر له إن كان يبدو مخطئا من وجهة نظر البعض لأنه قد يكون في حقيقة الأمر هو المحق وليس العكس، إذ لا يقين في الاجتهادات بانفراد أحدها بالصواب والحقيقة، فما يساعد على التسامح عند الاختلاف الاعتقاد بإمكانية تعدد الصواب، وفي جميع الأحوال فإن المخطئ في اجتهاده لا يجوز الطعن فيه أبدا لأنه ليس معذورا في اجتهاده فحسب بل مأجورا أيضا كما ورد في الحديث الشريف، وهذا هو منهج السلف في اختلافهم فلم يجرح بعضهم بعضا بل أثنى بعضهم على بعض بالرغم من اختلافهم في الرأي.

الاستعداد لتداول السلطة

تقوم الديمقراطية على مبدأ التناوب على الحكم وتداول السلطة، فالأغلبية لا تحتكر السلطة إلى الأبد والأقلية غير محكوم عليها ان تبقى دائما في المعارضة فهي تتوفر على وسائل دستورية وتنظيمية وإعلامية لكسب الرأي العام وبالتالي الوصول إلى الحكم عند حيازتها ثقة الأغلبية الشعبية، غير أن هذا التداول لا يتوقف فقط على وسائل سياسية ودستورية تنظم عملية التداول بل أيضا على مبدأ استعداد النخب الحاكمة القبول بالهزيمة السياسية والاعتراف بها مع تحمل نتائجها كاملة بما فيها التخلي عن السلطة لصالح القوى التي حازت على ثقة المواطنين، وهذا الاستعداد لتداول السلطة غير متوفر حاليا لدى النخب العربية الحاكمة، فالسلطة في الوطن العربي لها بريق خاص والحاكم يريد البقاء على هرم السلطة بأي ثمن ولو كان هذا الثمن هو التضحية بالأرواح والوحدة القومية والاستقلال والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، فبدون الاستعداد لتداول السلطة تبقى أية محاولة للتغيير الديمقراطي محاولة فاشلة.

لقد أخفقت الثقافة السياسية التي روجت لها العلمانية في خلق هذا الاستعداد وجعله شعورا جماهيريا لدى الحكام والمحكومين، فالرغبة في الحكم وممارسة السلطة سائدة على جميع الأصعدة والمستويات وفي جميع الهيئات والأجهزة السياسية بما فيها الأحزاب طبعا، بل إن بعض الاتجاهات العلمانية تكرس الرغبة في احتكار السلطة بما تروجه من أفكار معادية لتداول السلطة بخلعها رداء العلمية والعقلانية والتقدمية على بعض الإيديولوجيات التي جعلت منها إيديولوجيات مطلقة ومن ثم إعطائها الشرعية للاستحواذ على السلطة

إن الثقافة السياسية الإسلامية بما تقدمه من أفكار تدعو للزهد في الحكم بل تحذر منه أحيانا قد تخفف من حدة الرغبة الجامحة لامتلاك السلطة، فالإسلام يجعل من الحكم أمانة وهو يشدد على ضرورة احترام الأمانة التي يعد تضييعها مسا باعتقاد المؤمن وعلامة من علامات النفاق، بيد أن السلطة ليست مجرد أمانة عادية بل عظيمة وثقيلة فهي كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (خزي وندامة) غدا يوم القيامة لمن ضيعها، وإذا تتبعنا سيرة السلف الصالح من صحابة وتابعين والتي تعد من مصادر ثقافة المسلم ومن تم تعد عنصرا مهما من عناصر تشكيل ” عقله السياسي” نجد صفحات مشرقة من التجرد وتقدير جسامة المسؤولية عندما يتعلق الأمر بممارسة السلطة التي اعتبرت وسيلة لبلوغ أهداف سامية لا لتحقيق أهداف مادية أو مجرد تلبية غريزة ممارسة الحكم، ولذلك لم يكن ينظر فيها سوى إلى الجانب التكليفي ولم يكن السلف الصالح يتردد في رفض تولي مهام السلطة أو طلب الاستقالة منها تقديرا لجسامة المسؤولية وإحساسا بوطأة التكليف، فهذا سلمان الفارسي يرفض الإمارة ويقول: “إن استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميرا على اثنين فافعل”، وعندما كانت تفرض عليه فرضا فيكره عليها إكراها في ظروف لا يصلح لها سواه، كان يرفض أن يأخذ راتب الإمارة ويكتفي بعمل يده لتفادي كل محاولة للخضوع لإغراء وبريق السلطة، وحينما عرضت الإمارة على أبي ذر رفضها قائلا: “لا والله لن تميلوا علي بدنياكم “، وعبد الله بن عمر عرض عليه منصب الخلافة مرارا وهدد بالقتل إن لم يفعل فلم يزده ذلك إلا رفضا لهذا المنصب وقال عن الخلافة: “والله ما أحب أن يكون لي سبعين عاما ويقتل بسببي رجل واحد”، ويضرب خالد بن الوليد أعظم مثال في التجرد ونكران الذات حينما يتعلق الأمر بالمصلحة العامة، ففي أوج انتصاراته ومجده الذي حققه كقائد عسكري تأتيه أوامر الخليفة بإقالته من منصب القيادة العسكرية فلم يحتج خالد ولم يعلن تشبثه بالقيادة أو انشقاقه عن الدولة المركزية وهو الذي توجد تحث إمرته آلاف الجنود، بل لم يزد رد فعله على أن سلم زمام القيادة لأحد مرؤوسيه واستمر في أداء مهمته كنجدي بسيط في جيش المسلمين، ونفس المواقف تتكرر مع عبد الرحمان بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبادة بن الصامت وغيرهم كثير.

إنها عقيدة الإسلام التي صاغت الشخصية الإسلامية صياغة مثالية فلم تعد تلتفت لامتيازات الحكم وبريق السلطة ولم تنظر فيها سوى إلى الجانب التكليفي وكيف لا تفعل وهي تقدر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما من راع استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا حرم الله عليه رائحة الجنة)، وهكذا تقوم العقيدة بدور رائع في تربية الناس بشكل عجزت كثير من المنظومات الفكرية والسياسية عن تحقيق مثله في أرض الواقع ومن ثمة وجب رد الاعتبار لدور المبادئ الأخلاقية والقيم الدينية في الحكم والسياسة، ونحن لا نطمح أن تكون ثمرة هذه القيم والمبادئ إنتاج قادة سياسيين من أمثال عبد الله بن عمر أو سلمان الفارسي ولكن مجرد قيادة سياسية عادية قد تصيب وقد تخطئ ولكن فقط أن تتخلى عن الحكم عندما تكثر أخطاؤها وترفضها الشعوب من خلال انتخابات ديمقراطية شفافة ونزيهة وهذا أضعف الإيمان.

إن المجتمعات العربية لفي أشد الحاجة اليوم إلى استثمار قيم الثقافة السياسية الإسلامية من اجل إحداث الانتقال الديمقراطي المنشود وذلك لعدة اعتبارات:

– قوة تأثير الثقافة الإسلامية التي من شأنها إصلاح كثير من أشكال الخلل الحاصل في جوانب الشخصية العربية والذي جعل منها شخصية مسلوبة الإرادة مترددة مستكينة فاقدة للثقة في نفسها وفي الأخرين.

– لا تفرض الثقافة الإسلامية خطابا معقدا كما لا تتطلب قنوات تواصلية معقدة ولذلك فهي سريعة الانتشار، فبساطة المقولات التي تحملها يجعلها تصل إلى جميع الشرائح الاجتماعية وعدم الاقتصار فقط على النخبة.

– الثقافة الإسلامية تتفق والقيم العامة للأمة لذلك فالحاجز النفسي الذي كان يفصل النخب العلمانية وباقي شرائح الأمة لا وجود له.

الهوامش
1سعد الدين إبراهيم: المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي، مجلة الديمقراطية، الكتاب الأول دجنبر 1991
2مالك بن نبي: تأملات، دار الفكر دمشق، الطبعة الرابعة 1979 ص 73,
3مالك بن نبي: نفسه، ص 75.
4كمال المنوفي: الثقافة السياسية وأزمة الديمقراطية في الوطن العربي، مجلة المستقبل العربي، العدد 88.
5نفس المرجع السابق.
6صالح حسن سميع: أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي، الزهراء للإعلام العربي الطبعة الأولى 1988، ص 189.
7كمال المنوفي: المرجع السابق.
8حامد سليمان: ألغام في طريق الصحوة الإسلامية، الزهراء للإعلام العربي طبعة 1990، ص 233.
9كمال المنوفي: المرجع السابق.
10كمال المنوفي: نفسه.
11يوسف القرضاوي: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، دار الصحوة للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة 1991 ص 160— 161

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *