لنا ذاكرة

في حارات معزولة.. هكذا نبذ المغاربة المصابين بالجذام قديما

هو “الوحش” الذي يسكن الكهوف المظلمة ويتحاشاه الناس، و”الغول” الذي تنسج حوله الكثير من الحكايات المتخيلة لتخويف الصغار، وهو أيضا “الخطر” الذي وجب إبعاده عن المدينة أو القرية ونبذه في مكان قصيّ حتى لا ينقل العدوى للأصحاء.. هكذا تعامل المغاربة قديما، بنوع من المغالاة، مع المجذومين، إذ تحول الاحتراز من الجذام في أحيان كثيرة إلى احتقار المصابين به والهجوم عليهم حتى.

عرّف داود الانطاكي الجذام في “تذكرة أولي الألباب” بقوله، “الجذام من الجذم بمعنى القطع، سمي لأنه يقطع الأعضاء أو النسل أو العمر، ويعرف بداء الأسد لجعله سحنة الإنسان كسحنة الأسد أو لأنه يعتريه أو يفترس البدن كافتراسه. وهو علة معدية موروثة.. وعلاماته بريق بياض العين محمرا، وهي أول ما يبدو حتى قيل عنها تتقدمه بنحو سبع سنين. واستدارتها، وكمودة اللون واحمرار البدن والبول ثم اسودادهما، ثم العرق الكثير الملون ثم نتنه، ثم تغير الصوت بالخشونة فالبحوحة فنتن النفس فتقلص الأنف واستدارة الوجه فتدرن البدن فتقيحه إن كان الجذام مقرحا، واعوجاج الأطراف ثم سقوطها”.

منبوذون

على الرغم من شح المصادر التاريخية التي أسهبت في الحديث عن وباء الجذام بالمغرب، إلا أن ما توفر منها اتفق على أن المصابين بهذا المرض الفتاك ينبذون بالمجتمع، ويعزلون في أحياء خاصة، في خارج المدن، وتسمى بـ”الحارات”، أو “الربض” كما سماها حسن الوزان في كتاب “وصف إفريقيا”.

وجاء في موسوعة “معلمة المغرب” أن المجذومين كان يفرض عليهم ارتداء لباس خاص وطربوش من الدوم ويحملون أجراسا يقرعونها حتى يتحاشاهم المارة في طريقهم، وكانت هذه الفئة تعزل أحيانا خارج الدوار وتترك تحت خيمة في نهاية مجرى مائي، حيث يكون المجذومون آخر من يستعمل مياه النهر، حتى لاتنتقل أوساخهم إلى الآخرين، وكان سكان الدوار يأتونهم بالأكل، حيث يضعه حامله على بعد بضعة أمتار من الخيمة، فيأخذه أحد المجاذيم بعد أن يكون الشخص الذي أتى قد توارى.

وفي وصفه لإحدى حارات الجذامى بفاس في القرن السادس عشر، يقول حسن الوزان: “ربض يسكنه المجذومون يحتوي على مائتي دار تقريبا… يقدم إلى هؤلاء المرضى كل ما هو ضروري بحيث لا يحتاجون إلى شيء، ويقوم رؤساؤهم بتخليص المدينة من كل مجذوم، ولهم السلطة لإخراج كل من رأوه مصابا بهذا الداء من فاس وإسكانه بالربض”.

وأوضح الباحث في التاريخ الحسين بولقطيب في كتابه “جوائح وأوبئة عهد الموحدين”، أن الدولة المغربية في العصر الوسيط كانت تلجأ إلى جمع المصابين في “حارات” عرفت بحارات الجذامى تبنى خارج المدن، ففي مدينة مكناس كانت حارتهم تقع خارج باب الخوخة، حتى تأخذ الريح الغربية روائحهم بعيدا عن المدينة ويكون تصرفهم من المياه وغسلهم بعد خروجه منها.

ورجح الباحث أن يكون يعقوب المنصور الموحدي قد شيد حارتين مماثلتين بكل من سلا والقصر الكبير، وأضاف أن انتشار الجذام خلق مشاكل اجتماعية ونفسية للمصابين به وللأفراد المحيطين بهم، الأمر الذي دفع بالبعض إلى طلب الفتوى من الفقهاء.

وهكذا، فالفقهاء بدورهم، حسب ما توضح كتب النوازل، بفتاواهم التي تدعو لإبعاد المصابين عن الأصحاء، فاقموا عزلة المجذومين، وضربت حول هذه الفئة حواجز اجتماعية سميكة، إذ كان المجذوم شخصا مرفوضا اجتماعيا مما كان يضطره للعيش في عزلة تامة إلى حين وفاته.

بل إن هذا النبذ و”الإقصاء” من المجتمع، الذي كان منطلقه الاحتراز من العدوى بهذا الوباء، يلاحق المجذومين حتى بعد وفاتهم، إذ يدفنون في زاوية منعزلة من المقبرة أو تخصص لهم مقبرة لوحدهم وتوارى جثتهم دون غسل.

وحسب بولقطيب، فإن العامة كانت تستغل أوقات الاضطرابات والفتن، مع ما يصاحب ذلك من غياب للسلطة المركزية، للانتقام من المجذومين وطردهم بعيدا عن التجمعات البشرية، مستدلا برواية المؤرخ ابن أبي زرع، التي تشير إلى انتقال جذامى فاس أيام المجاعة والفتنة الممتدة من 1222 إلى 1239 للسكنى بالكهوف الواقعة خارج باب الخوخة.

أما في عهد المرينيين فقد أمر يعقوب بن عبد الحق، عامله على مدينة فاس أن ينقل المجذومين إلى برج الكوكب الذي بخارخ باب الجيسة، بعد أن اشتكى إليه السكان من قيام المصابين بالجذام بغسل أدرانهم في نهر المدينة.

مجذومو القرن 19

وحتى جذامى القرن التاسع عشر ضربت عليهم الذلة والاحتقار، فقد رصدت دراسة أنجزها أحد المراقبين المدنيين في عد الاستعمار الفرنسي يسمى دوميزير، وجود ثلاث حارات للمجذومين في جنوب منطقة دكالة، كانت توجد خارج التجمعات السكنية، ومحاطة بنباتات الصبار الشائكة، وكانوا يخضعون فيها لنظام خاص.

وتقع إحدى هذه الحارات، حسب الدراسة التي أشارت لها “معلمة المغرب”، في قبيلة “أولاد عمرو لغنادرة”، على بعد عشرة كيلومترات من خميس الزمامرة، وتسمى “حارة بخليجة” وهي عبارة عن تجمع يضم المصابين بالجذام محاط بنبات الصبار، وبالقرب منها توجد مجموعة من الآبار ذات المياه العذبة تسمى.

وكانت هذه الحارة تأوي المجذومين زمن المولى سليمان، حيث كان الجذامى يملكون يومئذ أراض يزرعونها، ناهيك عن إعفائهم من أداة الزكاة والمكوس، كما لم يكونوا يخضعون لأي نوع من السخرة، وكات تأوي هذه الحارة ما يقارب 200 مجذوم معظمهم من دكالة وبعضهم من عبدة، والرحامنة وحمر الشاوية،وفي عهد المولى عبد العزيز أصبحت الحارة خلاء من أهلها قبل أن تتحول في ثلاثينيات القرن الماضي إلى رسوم عافيات.

الحارة الثانية التي رصدتها الدراسة تسمى “بخشني”، وتقع على بعد خمسة كيلومترات من شرق سيدي بنور قرب ضريح سيدي محمد العوني حيث يخصص جزء من المقبرة لدفن الموتى من المجذومين، كانت هذه الحارة مزدهرة في عهد المولى الحسن، وكانت تقع على مساحة كبيرة كما يبدو من آثارها، وكانت محاطة بأحواش من الصبار، كما كانت تتوفر على خمسين بئرا من الماء العذب، بالإضافة إلى سوق يقام قربها كل سبت.

حارة “أولاد عمران”.. هذا هو اسم الحارة الثالثة التي رصدتها دراسة المراقب المدني الفرنسي، حيث اختفت معالمها تمام قبل الثلاثينات من القرن الماضي، غير أن قدماء القبيلة آنذاك كانوا يعرفون مكانها حيث يذكرون أنها كانت في الأول قرب سوق أربعاء أولاد عمران، قبل أن يتم نقلها إلى الضفة الأخرى لنهر بوشان عند بني دغوغ. وكانت هذه الحارة، التي ازدهرت أيام المولى الحسن الأول، تضم خمسين عائلة من المجاذيم، وكانت تسمى “الحارة” فقط، ، قبل أن تندثر في بداية عهد الحماية الفرنسية.

الملاذ والدواء

على الرغم من أعراض ومضاعفات الجذام الخطيرة، التي تصل حد التقرحات وفقدان الإحساس بالأطراف وسقوطها وتشوهات الوجه، فإن الكثير من المصابين به لم يفقدوا الأمل في الخلاص من هذا العذاب الذي تفاقمه نظرة المجتمع، إذ لجؤوا إلى الأولياء والأضرحة كما لجؤوا إلى الحمّات.

وكان من أشهر الأضرحة التي لجأ لها المجذومون لبثّ شكواهم وطلب الخلاص، ضريح أبي العباس السبتي، وهو واحد من “سبعة رجال” الذين عرفت بهم مدينة مراكش، وكان المجذومون يعتبرون السبتي شيخهم وكاشف ضرهم، حتى إن الناس يطلقون عليهم اسم “أولاد سيدي بلعباس السبتي”.

وكان المجذومون بالمغرب على مر العصور يتوافدون أيضا على الحمّات، حيث كانت مياهها الكبريتية تضمد تقرحاتهم الجلدية وتخفف آلامهم، وفي هذا الصدد ذكر ” لياريد” في كتابه “morocco and moors” أنه زار حارة الجذامى بمراكش سنة 1875 ولاحظ أنه لم يكن يسمح لهم بدخول المدينة وأن العلاج الوحيد كان هو الاغتسال بماء سقاية سيدي بنور وهو ولي يوجد قرب باب الحارة، حسب ما ورد في “معلمة المغرب”.

وكانت مدينة فاس في فترات مختلفة مزارا يقصده المجذومون من بقاع المغرب المختلفة، حيث كانوا يستحمون في حماتها الشهيرة بمياهها المعدنية الكبريتية الساخنة، ومن هذه الحمات “حمة عظيمة تعرف بحمة خولان، ماؤها أشد ما يكون إلى السخانة وبالقرب منها أيضا حمة وشتاتة وحمة أبي يعقوب وهي الحامات المشهورة بالمغرب”، حسبما ذكر ابن أبي زرع في “الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *