وجهة نظر

أي مجتمع نريد في مرحلة ما بعد “كورونا”؟

يجب أن نستفيد من دروس ” كورونا”. وأن لا تصبح هذه الجائحة حكاية في خبر كان، تروى للأجيال القادمة. وإذا كان بعض السياسيين والباحثين يرون أنها قد أعادت إلى الأذهان أهمية دور الدولة، وهي حقيقة فرضتها، وستفرضها أكثر، المخلفات الاقتصادية والاجتماعية لهذه الجائحة التي فتكت بحياة الإنسان في أغلب دول العالم.
فإن السؤال المركزي الذي يفرض طرحه الآن في بلدنا لأن الظروف الموضوعية متوفرة، هو: أي مجتمع نريد في مرحلة ما بعد كورونا التي ستصبح في الغد القريب من التاريخ؟.

في دور الدولة

أكدت الدولة المغربية حضورها القوي في مواجهة جائحة كورونا، من خلال الإجراءات والمبادرات الاستباقية التي اتخذتها والتي مازالت تتخذها من خلال مخطط مدروس وعبر مراحل. وقد أكدت حرصها على الحفاظ على حياة الإنسان المغربي مهما تكن المخلفات الاقتصادية لمرحلة الحجر الصحي. وهي حقيقة لا يمكن إنكارها. وهنا نقف احتراما وتقديرا للجسم الصحي. ولرجال ونساء الأمن. وللقوات المساعدة. ولرجال ولنساء التعليم. وللجسم الإعلامي المهني.

لكن، هناك حقيقة أخرى، كشفت عنها هذه المرحلة الصعبة لمن لم يكن يريد الاعتراف بذلك. وهي أن في المغرب هناك فئات واسعة من الفقراء والمحتاجين. وقد حاولت جمعيات المجتمع المدني والمغاربة أفرادا وجماعات، التخفيف من وطأة صعوبة عيشها اليومي.

هذه الهشاشة الاجتماعية، تفرض وجود الدولة الحامية والراعية للفقراء والمحتاجين. هؤلاء يعانون يوميا من أجل كسب القوت اليومي. ولا يستطيعون شراء الأدوية.

وهي مناسبة لإثارة انتباه هؤلاء الذين يتبجحون في القنوات التلفزيونية، بنصحهم للأسر بضرورة تخصيص جزء من الدخل للتوفير (épargne)، (الانتباه) إلى أهمية الاحتكاك بالمجتمع. فالنظريات التي لا تستمد روحها من الواقع المعاش لمختلف شرائح المجتمع، لا تستحق أن تدرس في المعاهد والكليات.

كما كشفت مرحلة الحجر الصحي عن وجود شريحة أخرى من المتضررين، وهي تتكون من الأجراء، وذوي الدخل اليومي، والمياومين من سائقي الطاكسيات، والحرفيين(…). هؤلاء إلى جانب الممثلين والفنانين بصفة عامة في حاجة إلى ضمانات في مجالات الصحة والتقاعد(…). والمطلوب، حوار الدولة المستمر مع ممثليهم.

وإذا كانت بعض المنظمات المالية الدولية ” تنصح ” دول الجنوب بالحد من التوظيف العمومي لأنه يستنزف أموال الدولة في تصورها، ففي حالة المغرب يحتاج الموضوع إلى معالجة مغربية/ مغربية. لماذا؟ لأن الحاجة ما زالت ماسة إلى العديد من الأطر في المجالات التقنية والمعلوماتية والإدارية والقانونية والاقتصادية والمالية في الجماعات الترابية من جهات وعمالات وأقاليم وجماعات، على سبيل المثال لا الحصر. ومن بين التحديات التي تفرضها الجهوية المتقدمة كورش ينتظر الإقلاع : الحاجة إلى الموارد البشرية المتخصصة في المجالات المذكورة أعلاه.

نعم، أكدت مرحلة الحجر الصحي أن الرقمنة لم تعد اختيارا. وهذا يعني في تقديرنا، أن الدولة مطالبة بإعادة النظر في طرق عمل الإدارة العمومية، وفي مناهج التكوين الجامعي، وفي مؤسسات التكوين المهني، وفي التعليم الابتدائي والثانوي(…) وأن يتم التنسيق المسؤول بين هذه المؤسسات وذوي القرار السياسي لسن سياسات عمومية فعالة.

وقد اتضح أنه لا يمكن الاستغناء عن التدريس المباشر، حتى نكون واقعيين. واتضح أن هناك من لم يستطع شراء هاتف يمكنه من متابعة الدراسة عن بعد، والوقائع متعددة. ولذلك، يتعين التعامل مع الواقع الجديد بصدقية، بعيدا عن المزايدات السياسية فمصلحة المواطن في صلب مصلحة الوطن.

والدولة مطالبة بحماية الفلاح الصغير والمتوسط ودعمه ماديا ومواكبته وتتبع أعماله الفلاحية. وتكوينه في مؤسسات يمكن إحداثها لذلك. وقد سمحت لنا الظروف بإدراك مدى قوة التقنيين والمرشدين الفلاحيين على التواصل الفعال مع الفلاحين. وهو أمر ليس سهلا.

ومن أدوار الدولة، حماية حقوق العاملين بأي مؤسسة عمومية أو خاصة. والحرص على تحقيق العدالة الاجتماعية. وتطبيق القوانين. وتحقيق الأمن والاستقرار. ولا تنمية في غياب الحريات العامة، وحقوق الإنسان في التفكير والتعبير والحياة.

في الاقتصاد

إذا كان الإصغاء إلى خبراء الصحة في بلدنا وتمكينهم من حرية القرار، قد جنبنا الأسوء في الحرب ضد العدو الخفي ” كورونا “. فإنه بإمكان ذوي القرار السياسي تجنب الأسوء في مجال الاقتصاد كذلك ، شريطة الإصغاء إلى الخبراء المغاربة في هذا الميدان. ولسنا في حاجة إلى نصائح المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية.

وإذا كانت الإجابة على سؤال أي اقتصاد لمجتمع ما بعد كورونا مطلوبة للمؤسسات العلمية المتخصصة، فإن ذلك لا يمنع من تقديم الرأي والرأي المخالف من طرف كل من يرى في نفسه القدرة على ذلك. فالمشاريع الكبرى سبب وجودها في أغلب الأحيان، أفكار بسيطة. ولنا الدليل في المنظمات الاقتصادية اليابانية بالخصوص.

لذلك لا نرى مانعا للإعلان عن اقتناعنا بضرورة مراجعة منظورنا الاقتصادي إن نحن نريد أن يسترجع اقتصادنا عافيته في أسرع وقت ممكن. خاصة أن الانفتاح على الاقتصاد المعولم، الذي كان يتبجح به صناع العولمة، قد يصبح في خبر كان. وفي أحسن الظروف سيصبح مقيدا بالشروط الوطنية لكل بلد. وقد عادت أمريكا إلى الحمائية الاقتصادية.

وبعيدا عن التجريد الأكاديمي، إذا كنا بلدا يومن بالانفتاح الاقتصادي منذ بداية الاستقلال فمضمون درس كورونا، يجب تقوية اقتصادنا داخليا وخارجيا. ولا يمكن تحقيق النمو الاقتصادي من دون التعاون والتكامل بين القطاعين العام والخاص.

ولا يمكن رفع وثيرة التشغيل من دون الاستثمار العمومي والخاص. والأمل معقود في المديين القريب والمتوسط على المقاولة الصغرى والمتوسطة. ولذلك فهما في حاجة إلى الدعم القوي للدولة.

ومن دروس كورونا الاقتصادية، ضرورة الاهتمام بالسوق الداخلية. والاهتمام بالسياحة الداخلية. وإعادة هيكلة الصناعة التقليدية. فمن حق المواطن المغربي أن يستفيد من منتوجاته الوطنية مما ينعكس مباشرة على الاقتصاد الوطني.

وعلى الدولة أن تسن قوانين جديدة تسهم في الحد من الفساد الذي يشل الاقتصاد الوطني. وتمكن من الضرب بيد من حديد على كل من يفسد الخدمات السياحية والصناعة التقليدية، في المدن التاريخية بالمغرب. وقد اتخذت الدولة المغربية سابقا، إجراءات صارمة في حق المتلاعبين بأثمان المنتوجات الصناعية والخدمات، حماية لسمعة المغرب أولا وقبل كل شيء. وكانت القنوات الإعلامية المغربية تقدم لوحات تواصلية، لتوعية المغاربة والأجانب في هذا الشأن.

في التربية والتعليم

إن التعليم بدون تربية مثل الجسد بدون روح. فالحديث عن الإدارة المواطنة، وعن تقديم الخدمات الإنسانية الواجبة في المستشفيات وفي كل المؤسسات العمومية. والتفاني في العمل. وعدم الارتشاء. والشخصية المتخلقة بالخلق الحسن (…) هي وغيرها قيم تتم تنشئة الفرد عليها في الأسرة والمدرسة منذ سن مبكر. ويمكن لوسائل الإعلام الوطنية الإسهام في ذلك بقدر وافر إذا توفر لها شرط الحرية.

ومن دون التربية الصالحة، لا يصبح العلم نافعا مهما بلغ عدد ومستوى الشهادات الدراسية لدى المتخرج من أي مؤسسة. ونستحضر هنا معا كلاما بليغا للفقيه الدستوري والعالم الدكتور عبد الهادي بوطالب (رحمه الله) وقد جاء في أحد كتبه الجديرة بأكثر من قراءة: ” إن المنظور الإسلامي للجرائم والعقوبات، يظهر أن الإسلام يعي كامل الوعي أن إقامة الحدود الجنائية وحدها، لا تحل مشاكل النزوع إلى الإجرام وأن القضاء على ظاهرة الإجرام يمر حتما بالتربية الصالحة (…)”.

والتنبيه إلى أهمية التربية الصالحة في هذا الكلام عميق الدلالات، ومما يوحي إليه في حدود فهمنا أن انعدام التربية يؤدي إلى العنف في المدارس والمنازل والشوارع، وقد يتطور إلى الإجرام. فالمجتمعات تصلح بتربية أبنائها على الأخلاق والصدق قولا وفعلا، والمواطنة، واحترام حقوق الإنسان منذ الصغر.

ونعتقد أننا لا نجانب الصواب بالقول إن علينا العمل كثيرا في هذا الاتجاه، دولة وحكومات، وأحزابا، ومجتمعا مدنيا، وأسرا، ومدارس، إن نحن نريد الرجوع إلى سكة الصواب. فثقافة العولمة المتوحشة فتكت بالأخضر واليابس مما تبقى من القيم النبيلة، حتى في الدول الغربية نفسها. ولمتشكك أن يتابع القنوات الأجنبية لمدة زمنية معينة، ليلاحظ معاناة الأسر مع فلذات أكبادها. وليست العديد من الأسر في مجتمعنا المغربي، أحسن حالا من ذلك.

ولا حل لذلك في تقديرنا المتواضع من دون ربط التربية الصالحة بالتعليم المتطور والمتقدم الذي يستجيب لمتطلبات العصر الذي نعيشه.

إن العلاقة بين التربية والتعليم علاقة عضوية وتلازمية. وللخبراء والممارسين في هذا المجال الدراية العلمية الواسعة في مجالات التربية والتعليم والمناهج والنفس والاجتماع، والمطلوب الاستماع إليهم لبناء مجتمع أوفر حظا للاندماج في حياة ” ما بعد كورونا”.

خلاصة القول، نريد أن يكون مجتمع مرحلة ” ما بعد كورونا ” مخالفا لمرحلة ما قبلها. ولذلك لابد وأن يجعل من بين مرتكزاته:

في المستوى الأول وهو الأساس: التربية الصالحة والتعليم المتطور الذي يجيب على أسئلة عصره.

وفي المستوى الثاني وهو مستوى الاقتصاد والاجتماع: التعاون والتكامل بين القطاعين العام والخاص لخلق الثروات وفرص الشغل. ولكل وظائفه ومجالاته.

وفي المستوى الثالث: التشجيع الفعلي للبحث العلمي الذي لا يتجسد إلا من خلال تخصيص ميزانيات مهمة له.

وفي المستوى الرابع: حرية الإعلام. وهي القاطرة والآلية الحقيقية لتجسيد حرية الرأي والتعبير. وهي المقياس لمدى الديمقراطية في أي بلد.

وفي كل هذه المستويات، تكون الدولة حاضرة من خلال ضمان حقوق الأفراد والجماعات، وخاصة حقوق الفقراء والمحتاجين. وحماية حقوق العاملين بكل المنظمات العامة والخاصة. وتحقيق الضمانات المستقبلية للشرائح التي أفرزتها مرحلة الحجر الصحي.

والدولة مجسدة في مؤسساتها العمومية مطالبة بالحرص على تطبيق القوانين. وتحقيق أمن المواطنين والمواطنات.

وتبقى العدالة الاجتماعية هي الغاية والمبتغى في المجتمع المغربي في مرحلة ” ما بعد كورونا “. ومن دون تحقيقها يصبح الحديث صعبا عن العدل والمساواة والمواطنة.

* إعلامي وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *