مجتمع

العلماء والسياسة (الحلقة 4): بوخبزة.. فقيه السلفية المغربية الذي عزل بعد نصف قرن من الخطابة

هي سلسلة حلقات عن “العلماء والسياسة في المغرب الراهن”، في الكشف عن طبيعة السلوك السياسي لعلماء دين سبق أن ذكرت تجربتهم في أطروحتي للدكتوراه في العلوم السياسية” النخبة الدينية في النسق السياسي المغربي، العلماء نموذجا(2013-1999) وقد ارتأيت نشرها بتصرف في موقع “العمق المغربي” لإبراز الفعل السياسي للعالم المغربي والذي بموجبه يتحول الفاعل الديني إلى جزء من النخبة السياسية.

الحلقة الرابعة: الشيخ محمد بوخبزة.. فقيه السلفية المغربية

يعدّ الشيخ محمد بوخبزة رحمه الله من أشهر علماء الدين بمدينة تطوان وشمال المغرب ككّل، بل ذاع صيته في الأوساط السلفية العلمية حتى صار من أعلامها على الصعيدين العربي والإسلامي باعتباره امتدادا فكريا للمدرسة السلفية المعاصرة نظرا لتلمذته على شيوخها الكبار من أمثال: الشيخ الإسلام بن العربي العلوي والدكتور تقي الدين الهلالي و المحدث ناصر الدين الألباني.

لذا احتلّ الشيخ بوخبزة مكانة مرموقة لدى رموز وأتباع التيار السلفي في المغرب وخارجه، وقد تعاظمت مكانته الدينية هذه، بفعل علاقة المشيخة العلمية التي ربطته بالعديد من العلماء والدعاة السلفيين المشهورين في الحقل الديني العربي والوطني، نذكر من أبرزهم: المحدث المصري أبو إسحاق الحويني والداعية السعودي عبد الرحمن العريفي والشيخان عمر الحدوشي وحسن الكتاني وغيرهم…

ولد الشيخ محمد بوخبزة -المعروف بين طلبته وخاصة السلفيين منهم بأبي أويس- سنة 1932 بتطوان، وتميز العلامة التطواني عن معاصريه بتخصصه العلمي في تحقيق المخطوطات التراثية في العلوم الشرعية و الأدب مع دراية واسعة بعلم الحديث النبوي الذي تلقى أساسياته على يد الحافظ أحمد بن الصديق، بينما بزغ نجمه في علم التحقيق (الكوديكولوجيا) لما راكمه من خبرة كبيرة من تجربته المهنية السابقة في التوثيق والإطلاع التاريخي إبّان عمله موظفا في الخزانة العامة للمحفوظات بتطوان.

هذا الأمر أهله ليكون من الخبراء المعتمدين لدى المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) في مجال تحقيق المخطوطات الإسلامية، إذ سبق للشيخ الراحل أن عمل لصالح هذه المنظمة الدولية الإسلامية على مراجعة واستدراك الجزء الثاني من مشروعها في جمع تفاسير القرآن الكريم الموسوم “بمعجم تفاسير القرآن” الذي ضمّ مائة من التفاسير المتنوعة عبر التاريخ الإسلامي، وقد نشر الشيخ بوخبزة هذه الاستدراكات في كتاب عنونه بـ”نقد معجم تفاسير القرآن الكريم”، (مكتبة الصحابة، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة الطبعة الأولى 2009).

ألّف الشيخ محمد بوخبزة أزيد من 30 مؤلفا معظمها غير منشور ومخطوط بخطه الجميل في خزانته العامرة، نذكر منها:

_ جراب الأديب السائح، (مذكرات).
_ الشذرات الذهبية في السيرة النبوية.
_ صحيفة سوابق وجريدة بوائق( في الردّ على شيخه أحمد بن الصديق).
_ فتح العلي القدير في التفسير (تفسير لبعض سور القرآن الكريم).
_ نظرات في تاريخ المذاهب الإسلامية.
_ ملامح من تاريخ علم الحديث بالمغرب.
_ نشر الإعلام بمروق الكرفطي من الإسلام
_ الأدلة المحررة على تحريم الصلاة في المقبرة.
_ أربعون حديثا نبوية في نهي عن الصلاة على القبور واتخادها مساجد وبطلان الصلاة فيها.
_ نقل النديم وسلوان الكظيم.
_ رونق القرطاس ومجلب الإيناس.
_ تحصين الجوانح من سموم السوائح ( تعقيبات على رسالة السوائح للشيخ عبد العزيز بن الصديق)
_ إبراز الشناعة المتجلية في المساعي الحميدة في استنباط مشروعية الذكر جماعة.
_ ديوان الخطب.
_ النقد النزيه لكتاب تراث المغاربة في الحديث وعلومه.
_ الجواب المفيد للسائل والمستفيد (باشتراك مع الشيخ أحمد بن الصديق).
_ تعليقات وتعقيبات على الأمالي المستظرفة على الرسالة المستطرفة للشيخ ابن الصديق الغماري.
_ رحلاتي الحجازية.
_ إيثار الكرام بحواشي بلوغ المرام.
_ التوضيحات لما في البردة والهمزية من مخالفات.
_ الاحتلال الإسباني والهوية المغربية (نشر بعد وفاته عن مركز اليقين للدراسات في فبراير 2020).

تكشف هذه القائمة من عناوين الكتب التي ألّفها الشيخ محمد بوخبزة عن طبيعة القضايا التي استأثرت باهتمام الرجل في حياته، والتي خاض من أجلها معارك فكرية حامية الوطيس مع التوجه الصوفي ورموزه وممارساته، وقد بلغ صدى هذ الخلاف الحاد بين الشيخ بوخبزة مع الشيوخ الصديقيين بطنجة إلى جلسات المحاكم.

ونظرا لهذه المعطيات القانونية والقضائية كشفت أسرة الشيخ في بيان للرأي العام بعد وفاته أنها ستعمل على إخراج وطبع مؤلفاته الأدبية ومجموعاته كـ: “جراب الأديب السائح”، و”نُقل النديم”، و”سَقِيط اللآل”، و”رونق القرطاس”، و”عجوة وحشف”، و”عيون مراسلاته”، و”ديوان شعره”، و”مجموع خُطَبه” وغيرها من منوّعاته (بيان أسرة الشيخ بوخبزة، العمق المغربي 03 فبراير2020).

ويأتي توجه أسرة الشيخ الراحل في طبعه تراثه الأدبي والعلمي وتجنب طبع ردوده على أصهاره الصديقيين تنفيذا لوصيته رحمه الله التي وردت في نفس بيان الأسرة “بأن يُنظر في تلك الأوضاع والمنشآت، ويُنتقى منها ما يتأكدّ خيره ونفعه ، ويُتبصّر في إخراجها، ويُتغيّ الفائدة المرجوّة، والحسنة المتلوّة”.

وعلاوة على غزارة إنتاجه المكتوب تأليفا وتحقيقا وردودا، ظلّ الشيخ محمد بوخبزة على كبر سنه يدرس العلوم الشرعية في معهد الإمام الشاطبي بتطوان، ويستضيف جلسات ومنتديات علمية في بيته بحي سيدي طلحة الشعبي الذي كان قبلة للباحثين والمهتمين في مجال المخطوطات والتاريخ المغربي وبالأخص من طلبة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، إذ كانت خزانة الشيخ محمد بوخبزة ملاذا لهم في الاطلاع والتعرف على المخطوطات النادرة، ورغم ذلك لم تلتفت هذه الكلية العريقة بأي مبادرة لتكريم الرجل سواء في حياته أو بعد موته.

على مستوى السلوك السياسي، وكغيره من معظم العلماء المغاربة التقليديين المستقلين عن الحركات الإسلامية، تبنى الشيخ محمد بوخبزة موقفا سلبيا من الحياة الحزبية و المشاركة السياسية وتجلى ذلك في إحجامه الكبير عن إبداء المواقف إزاء القضايا الوطنية والدولية، وحتى في الحالات النادرة التي كان يبدي فيها بمواقف سياسية عامة، فكانت مواقف أقرب إلى الفتوى الدينية منها للرأي السياسي.

وفي هذ السياق نذكر موقفه المعارض لحديث أعضاء جماعة العدل والإحسان عمّا عرف إعلاميا وقتئذ بـ”رؤيا 2006″، وقد استند أتباع التيار السلفي على موقفه الفقهي هذا في الترويج لأشرطة ضد الجماعة وتصورها التربوي والسياسي في مدن المغرب وبالأخص في شمال البلاد.

وقبل ذلك بخمس سنوات، أي في سنة 2001، كان الشيخ بوخبزة من العلماء والخطباء الموقعين على الفتوى المحرمة لانخراط المغرب في الحرب الأمريكية على “الإرهاب” وقد ضمت لائحة الموقعين على هذه الفتوى الشهيرة توقيعات علماء ودعاة منهم إدريس الكتاني، عبد الله التليدي، حسن الكتاني وعمر الحدوشي وغيرهم، وعلى إثر رفض الشيخ بوخبزة التراجع عن هذه الفتوى في مواجهة الضغوط القوية للسلطة، تم توقيفه من الخطابة والوعظ.

وفي هذا المضمار علّق رحمه الله عن هذه الواقعة في تصريح نشر على قناة باسمه في اليوتيوب: “البيان الذي نُشر في الصحف أقام شوشرة، وبدؤوا يترصدون الموقعين ويُرهبُونهم ويلزمونهم بالتراجع عنه، حيث هددونا، وحين رفضتُ عدم التراجع عزلوني من الخطابة، بعدها جاء المجلس العلمي وقال إنني لا ألتزم بخطوطهم، و أُرسل إلي قرار الإعفاء عبر ناظر وزارة الأوقاف الذي كان برفقته رجل أمن، وجاء في القرار المكتوب: أنت موقوف من كل نشاط ديني” .

كان لتوقيع الشيخ بوخبزة على هذه الفتوى السياسية المعارضة لتوجهات السياسة الخارجية للنظام المغربي بعد أحداث 11 شتنبر 2001 بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس في علاقته بالسلطة، التي وظفت قضية الفتوى لتوقيف خطيب وعالم مزعج حظي بشعبية كبيرة تراكمت طيلة خمسة عقود بين خطبته للجمعة في مسجد العيون بالمدينة القديمة ودروسه للوعظ والإفتاء فيما بين العشاءين بمسجد سيدي طلحة قرب مقر سكناه بتطوان، خاصة أنّ الشيخ كان على خلاف مستمر مع المجلس العلمي المحلي حول حدود الامتثال والتأويل والاجتهاد في التعامل مع الثلاثية الإيديولوجية “الأرثودوكسية” الضابطة للشأن الديني المغربي المتمثلة في: العقيدة الأشعرية، المذهب المالكي والتصوف.

إذ يرى الشيخ بوخبزة أنه باعتباره عالم دين له الحق في الاحتفاظ بقراءة شخصية لهذه الثلاثية الناظمة للخطاب الديني المغربي؛ قد لا تتفق بالضرورة مع أسس المقاربة الرسمية في تحديدها وتأويلها (من تصريحه حول دواعي توقيفه من خطبة الجمعة في قناة باسمه على اليوتيوب).

ففيما يخص الموقف من الصوفية على سبيل الذكر، اعتبر الشيخ المعروف بنزعته السلفية بأن التصوف “هو المسؤول الأول عن تأخر المسلمين وقعودهم عن اللحاق بركب الحضارة السليمة الصالحة، والتقدم العلمي، الذي لا حياة كريمة بدونه. بما بثه ويبثه في النفوس والعقول من الخنوع والخضوع والخمول والذل، وإلغاء وظيفة العقل” (حوار مع الشيخ محمد بوخبزة على موقع الشبكة الإسلامية www.islamweb.net).

وضمن هذا السياق أوصى طلبته بتجاوز التراث الصوفي في علاقتهم مع الشيوخ فدعاهم إلى: “الاعتدال وعدمَ الغلُو، فإذا عَلم الطالب أن شيخَه وغيره من العلماء غيرُ معصومين، وأنه يُتوقع منهم الخطأُ والجهلُ والنسيان، وربما تَبدُر منهم بوادرُ لا يجوز السكوتُ عنها، ففي هذه الحالة يَجب الجهرُ بالحق والتنبيهُ على الخطأ، مع مراعاة الحمد والأدب، أما إذا كان الطالبُ ينظر إلى شيخه نظرةَ تقديس، وأنه فوق النقد اللاّزم، فهذا قد اختار الضلال ونالتْه لوثة صوفية” (محمد عادل التاطو، بوخبزة.. سيرة عالم.. العمق المغربي).

لم تنته المعاناة السياسية للشيخ محمد بوخبزة مع السلطة بمدينة تطوان على الرغم من توقيفه عن الخطابة والوعظ والإفتاء بمساجد المدينة منذ سنوات خلت، فتم في أبريل من سنة 2019 بقرار شفوي من السلطة منع زواره من المغاربة والأجانب من زيارته في بيته بعد تصريحاته الإعلامية للموقع الإلكتروني المحلي “بريس تطوان” التي انتقد فيها بشدة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق وسياسة الدولة في ضبط الشأن الديني.

رغم هذه المضايقات من الإدارة الدينية الرسمية، أدى تبني الشيخ محمد بوخبزة للفكر السلفي التقليدي المهتم بتحفيظ القرآن الكريم وتعليم العلوم الشرعية في معهد الإمام الشاطبي، إلى تخويله حظوة ومكانة فقهية مرجعية لدى فئات كبيرة من أتباع التيار السلفي والحركي بشمال المغرب، وبالأخص المنتمين منهم لحركة التوحيد والإصلاح.

وقد زادت هذ العلاقة وثوقا بوجود تقارب ايديولوجي ذي طابع سلفي بين الشيخ والحركة وفق خصوصيات المدرسة السلفية الوطنية، كما تدعّمت هذه الرابطة الفكرية على المستوى الاجتماعي برابطة العمومة التي تجمع الشيخ الراحل رحمه الله بقياديين مؤسسين لحركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية بتطوان وهما: الأمين بوخبزة وأحمد بوخبزة.

توفي الشيخ بوخبزة رحمه الله صبيحة يوم الخميس 30 يناير2020 وكانت جنازته عصر يوم الجمعة حدثا عاما بامتياز على المستوى المحلي والوطني، فكان تشييعه إلى مثواه حاشدا، وعرف مشاركة شعبية كبيرة في رسالة واضحة عن مكانة العلماء في وجدان المجتمع المغربي.

كما أبرزت هذه الجنازة على المستوى السوسيولوجي ثلاثة أصناف من تلاميذ الشيخ وكل ّصنف يبرز خاصية من خصائص الرجل، فحضر تلامذته الأكاديميون المشتغلون بعلم تحقيق المخطوطات الذي يكبرون فيه شخصية” المحقق”، وكذا الفقهاء والخطباء الذين درسوا على يديه في معهد الشاطبي للعلوم الشرعية الذين يجلون فيه شخصية “الفقيه المفتي”، ثم هيمن السلفيون من بين الحاضرين وهم الذين كانوا من محبيه ومستفتيه بالزيارة والفايسبوك واليوتيوب والذين يرون فيه بقية السلف الصالح المنافح عن “التوحيد” و”السنة”.

وبين كل هذه الأصناف والتمتلاث لشخصية الفقيد رحمه الله، يظل الشيخ بوخبزة في أعين المجتمع التطواني من فقهاء المدينة البارزين الذي تركوا أثرا قويا في تاريخها المعاصر بتواضعه ومخالطته للناس وبأسلوبه العفوي الممتزج بروح الدعابة في دروسه الفقهية الشهيرة بمسجد حي سيدي طلحة.

*عبد الرحمن الشعيري منظور / باحث في العلوم السياسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *