وجهة نظر

قراءة في كتاب أسرار الرسم في خط النسخ

إذا كان الخط العربي عموما يحظى بأهمية كبرى لدى الخطاطين والمهتمين بشؤون الخط والفن ولدى المثقفين والنقاد والباحثين والمتتبعين فإن خط النسخ يشكل القاعدة الكبرى في ذلك باعتباره نواةً للكتابة النسخية والكتابة الاعتيادية والكتابة الجمالية. فهو قابل للتشكيل من خلال رسم حروفه، لأن به حروف كثيرة قابلة للاسترسال والمد، وحروف أخرى قابلة للتدوير. وأهمّيَتُهُ بالغةٌ مبلغَها في الجمال. لذلك سنقف اللحظة مع إبداعٍ قيّم ورائق ومتفرد، ويتعلق الأمر بكتاب أسرار الرسم في خط النسخ مبرراته الكاليكرافية والبصرية والجمالية –  للخطاط والفنان الخبير المبدع الأستاذ محمد أمزيل.

الكتاب هو من منشورات مركز الكويت للفنون الإسلامية، وقد تعودنا من هذا المركز أن نرى مثل هذه الإصدارات التي تقدم منتوجا هاما يسد الفراغ الذي تعرفه الساحة الثقافية في هذا المجال من جهة، وتثمن جهود الأساتذة والخبراء في البحث والدراسة والممارسات التطبيقية الناجعة، ليفيدوا بمعارفهم كل طالب علم في مجال الخط العربي الذي يتمتع بمكرمات الجمال والقدسية. فالشكر لمركز الكويت للفنون الإسلامية على كل ما يبذله من جهود لخدمة الفن العربي الإسلامي.

الكتاب الذي بين أيدينا استهل بتصدير من مركز الكويت، حيث ثمن التجربة الغنية للأستاذ محمد أمزيل التي مكنته من إدراك خصائص خط النسخ وجماليته وقواعده. خاصة وأن قلم النسخ مضبوط ومحكم.

يشتمل خطاب العتبة في الكتاب على كلمة أسرار وهي كلمة لها دلالاتها المعرفية والجمالية في الثقافة الخطية العربية الإسلامية، أولا لأن هناك خصائص في الخط وأسرار يتلقاها الطالبُ عن شيخِه أو أستاذِه يجب أن يعلمها الطالب من شيخه لأنه لا يمكن أن يباشر مجال الكتابة دون هذه الأسرار، وهو ما يستدعي معرفتها والالتزام بها. وأرى شخصيا أن تدليل عتبة الكتاب وأول كلمة في عنوان الكتاب بأسرار يُعد ذكاء وفطنة من الكاتب الأستاذ محمد أمزيل، وهو كذلك تَوَجُّهٌ مباشرٌ في الممارسة الخطية التي تعتمد الكيفيات التي تؤدي إلى إتقان هذا الخط وإجادة كتابته والحفاظ على شكله بعيدا عن الارتجال. لذلك حاول الأستاذ محمد أمزيل استخراج أغلب أسرار الرسم في خط النسخ من منظور تفسيري كرافيكي وجمالي. إذا ماذا يقصد الأستاذ محمد أمزيل برسم خط النسخ؟ إنه يعني كلَّ الأجزاء التي يتمُّ رفعُ القلم فيها قليلا للكتابة بثُلُثَيْهِ أو نصفِه أو الأجزاء التي يتم فيها فركُ القلم، أي تدويرُ زاوية كتابته للحصول على سمكٍ متدرجٍ نحو الأقل سمكا لتخفيف ثقل سواد الحرف واتصالاته. هذا في ص 9 من الكتاب، إذن هناك أجزاء يتم رسمها وفق كيفيات محددة وهي الأجزاء المرسومة الفاصلة في خط النسخ، وقد عبَّر عنها الأستاذ محمد أمزيل بأنها هي لب خط النسخ. وهي لا توزن بالنقطة بل بالإحساس، وبالوعي بها وبأسبابها.

وقد قام الأستاذ بهندسة حصيفة قويمة للنقطة باعتبارها وحدة قياس ودراسة نسبتها مقارنة مع سمك القلم. ولا شك أن وحدة قياس النقطة والحروف بواسطة النقطة ظل وسيلة ناجعة منذ  ابن مقلة لتحديد العلاقة العضوية بين أجزاء الشكل لضبط الحروف وتشكيل رسمها وفق الرسم الهندسي الصحيح. والأستاذ محمد أمزيل مطلع على معارف كثيرة في هذا المجال وله خبرة واسعة في كل ما يخص النقطة كأصل للحرف؛ وكأساس بنائي بوجود علاقة هندسية صحيحة تربط الخط بأساس قويم.

ورد في صبح الأعشى في جزئه الثالث: إن الأفضل أن يُبنى الخط على أصل يكون له أساسا. وقد قام الأستاذ محمد أمزيل بتشخيص دقيق لهندسة النقطة لأنها تشكل وحدة قياس كما سبق الذكر، وقدم هذا التشخيص من خلال ممارسة تطبيقية لَفَّها بشروحات دقيقة ليمحو الخلط الذي يقع فيه بعضُ الطلبة، مُبرّرا بأن نقطة القياس تُحَدَّد من خلال مساحة المربع الذي تشكله زوايا النقطة خارجيا وليس فضاء النقطة الداخلي. ومن تم يجب الوعيُ بالمساحةِ ونسبتِها وسمكِ القلم، ليتأتى التقديرُ الأمثلُ لأي مساحةٍ عموديا وأفقيا قبل وضع النقط. إذن فتقدير نسبة المساحة وتقدير الأبعاد يتأسس بناء على هذه الفرضية التي تروم رسم المربع وفق نسبة معينة تستمد جمالها من طبيعة الشكل  تماشيا مع  هذه النسبة التي أَسَّسَتْ لمنظور قياسي رصين، قَيَّدَ الخطَّ بنسبة ثابتة لا تتغير. ثم عرّج الأستاذ محمد أمزيل إلى أهمية معرفة سمك الخطوط العمودية كالألف مقارنة مع الأفقية كالباء. مقارنة الألف بالباء مثلا. وقدم أنموذجا لهذه المسلمة على أن الخطوط العمودية تكون رقيقة مثل الألف مقارنة مع الخطوط الأفقية مثل الباء أو المد. وهذا يدخل طبعا في تقديرِ رسمِ الحرفِ وفق نسبةٍ معينةٍ ورسمِ شكله وفق هندسةٍ محددة.

ولِيقوم بِحلّ بعض الإشكالات والمزالق التي يقع فيها بعضُ الخطاطين طرح الأستاذ محمد أمزيل سؤالا حول نسبة سمك الألف مقارنة مع سمك الباء بغض النظر عن تطبيق القواعد، وقياسا بما يقدمه الخطاطون من نماذج أو تركيبات تبدو سليمة فيما يخص مقاييس الحروف، إلا أن الشكل العام تظهر فيه بعض الاختلالات. فإما أن الخطوط العمودية سميكة عن المعتاد ما يجعل المنجز ثقيلا، أو أنها نحيلة جدا، ما يُبين غياب  التوازن ثم غياب معرفة مقياس هذه النسبة بالنقطة. ولحلّ هذا الإشكال وبثّ السر: فإن الأستاذ محمد أمزيل قد لجأ إلى حرف الكاف لتقديم توضيحات قيمة وفك اللغز، ووضع ثلاث نماذج تطبيقية للمقارنة، ثم خلص إلى طريقة بيداغوجية ناجعة ومبسطة تساعد على وضع الزاوية المقبولة للقلم وتعتمد على المربع موضحا الوضعية الصحيحة من خلال أنموذج تطبيقي عبارة عن مربع يستمد رسمه من ثلاث زوايا مقبولة في الخط تمتد من الخط الأفقي في الأسفل 0 درجة وخط مائل نحو اليمين 45 درجة في زاوية المربع ثم الخط العمودي 90 درجة، وفي توضيح تتراءى زاوية الخط نحو اليمين وهي تفوق 45 درجة وذلك لتفادي الحصول على السمكِ نفسِه في الألفِ والباء.

ثم توجه الأستاذ إلى توضيح أسباب الرسم في خط النسخ من خلال علامة الاتجاهات الأربعة، وقدم توضيحات قيمة تبين من خلال التحليل الهندسي على أن اتجاهات فن الخط تتكون من أربعة اتجاهات أساسية: هي الخط العمودي، والخط الأفقي، والخط المائل يمينا في اتجاه زاوية القلم، والخط المائل في اتجاه الأعلى يسارا. أما بقية الحركات الدائرية فهي عبارة عن اندماج للقوس الذي يحصل بين المفاصل الأربعة وما يحدثه من تغيير للسمك. وقدم نماذج تطبيقية للتوضيح. في ص 13 وص 14 من المؤلَّف، حيث قام بتحليلٍ مجهريٍ دقيقٍ للشكل الهندسي من خلال علامة الاتجاهات الأربعة، ودَرَسَ السمكَ المختلف لهذه الاتجاهات بتفصيلٍ، مع تقديم نماذج عملية. ثم انتقل إلى أسباب أخرى للرسم في خط النسخ بسبب التقاء الاتجاهات التي تشكل الزوايا الحادة، وتأثير تلاقي الأشكال بصريا وكرافيكيا على الحروف وهي أشكال تُشكل محور خصائص الرسم في خط النسخ الرشيق.

وقد بين الأستاذ محمد أمزيل علميا بأن الخط مخفي في تعليم الأستاذ، وأن قِوامَه في كثرة المشق، لكنه بالإيجاب أضافَ الجديد بأن قِوامَه في كثرة التأمل، وهذا طبعا شيء مهم جدا فكثرة التأمل تفضي إلى الحقائق الرصينة، وتخترق الأسرار الكامنة في المفردات وفي طرائق التركيب. وقد ذَيَّل الأستاذ أمزيل هذا المبحث بحكمة بالغة: إذا تَمّ التأمُّلُ نَقَصَ التدريبُ الزَّائد.

وقد قام بتحليل دقيق ومفصل لتأثيرات التقاء الاتجاهات التي تشكل الزوايا الحادة وما تضيفه من سمكٍ ثقيلٍ على الحروف، مُدلّلا بنماذج تطبيقية بالألوان، لتبيان الالتقاءات والتأثيرات المصاحبة. وأجملُ شيءٍ: هو أنَّ صاحبَنا يدخلُ مباشرةً في التحليلِ والتطبيق. وتابَعَ مُقارنةَ تأثير الزوايا الحادة والمتلاقية على الحروف اللاتينية في مقارنة لطيفة لجزء من بعض الأشكال مع بعض الحروف، حيث خلص إلى مقاربة سيميائية من خلال رسم الحروف وإبداء مناطق التلاقي، وما يترتب عن ذلك من تغيير ظاهر. وقام بتشخيص مناطق الاتجاه الأسمك في حروف خط النسخ حيث قارن العناصر الهندسية مع خط النسخ وذلك للتعرف على أسباب الرسم في بعض مفاصل وتلاقي حروف خط النسخ الذي يُكتب بحجم صغير مُقدّما الفرقَ بين خط النسخ وخط الثلث ليُبين بعض الحيثيات التي تؤثر على الجمال. وكالمعتاد فقد قدّم أنموذجا من حرفِ الألفِ ذي الخمسةِ نقطٍ طولا، وحرفِ الباء. وخلُص إلى قاعدة عامة.. وهناك العديد مما يمكن قوله في هذا، ولكن لا يسع الوقت. وقد وضع عددا من الأمثلة للحروف لإظهارِ الحَلَقَة الضعيفة، أو رسم الاتصال، أو الثقيل بدون رسم، أو الثقيل، موضحا معاني وأسباب رسمها كلٌّ على نحوه. لينتقل إلى تشخيص مناطق تلاقي الزوايا الحادة في حروف خط النسخ. ثم فَصَّلَ في كل حرف على حدة في حالة الإفراد أو في حالة الاتصال، مقدما حزمة من الضوابط والكيفيات التي تخص كتابة كل حرف مفردا أو متصلا.

فالكتاب غني بالمعارف والتطبيقات، ومن أهم محتوياته هو مجال الرسم في الخط الذي يروم الأجزاء التي لا تكتب بعرضِ القلمِ كُلِّه بل بجزءٍ منهُ، والعملية في شموليتها تتعلق بكيفيات التعامل مع القلم ومحاورته في تفاعل قوي مع صور وأشكال الحروف مفردة أو متصلة. وبذلك يكون الأستاذ محمد أمزيل قد عمل على تحقيق أسرار الرسم بمختلف حيثياته في خط النسخ، وكَشَفَها بما يضمن المعرفةَ الحقَّةَ في أشكالِ هذا الخط  من خلال وضعيات هندسية قويمة، تُؤصل بشكل هندسي ومنطقي لهذا الخط. وتقدم إضافة علمية ومعرفية وتطبيقية لقواعد خط النسخ. وبذلك، تُشكل هذه المبادرة قوة علمية ورياضية وهندسية وروحية وإحساسية في التفاعل مع مقومات خط النسخ، دعما لروح الإبداع في الخط، ودعما لحركة التأصيل المُقَيَّد بأسرار الرسم والكيفيات الناجعة لبعث الجمال في الخط. إنه سعي محمود من خبير خَبَرَ الأنواعَ الخطيةَ العربيةَ ومارسَها على أوسع نطاقٍ ليَخرُج بهذه المعارف التي تخص أسرار الرسم في خط النسخ مما يحتاجه طلبة الخط وعموم الباحثين في المجال.

وكما سلف الذكر فالكتاب غني وحابل بالمعارف المُجدية التي تسهل على المتناولين لخط النسخ معرفة أسرار الرسم في هذا الخط. وجديرٌ بكل خطاط وباحث أن تتوفر  خِزانَتُه على هذا الكنز الثمين الذي أبدعه الخطاط محمد أمزيل صاحب النبوغ الطافح والعبقرية الخطية الفذة. إنها مبادرة قيمة منه، سهلت على الممارسين تناول خط النسخ بأريحية علمية ومعرفة حصيفة. ولا شك أن هذه المبادرة قد أثْرَت الحمولةَ المعرفيةَ لخط النسخ، وأضافت للخزانةِ العربيةِ والإسلاميةِ كنزا خطيا جديرا بالمتابعة والدراسة. لذلك فإن جهود الأستاذ محمد أمزيل تربط العلوم والفنون بما يُسفر عن تحقيقِ الأهداف العلمية التنظيرية والتطبيقية لتمكين الطلبة من الاستيعاب الأمثل لخط النسخ، وهذا طبعا من حسن تدبيره لمجال الخط بالمغرب ومن خبرته وتجاربه الطويلة ومتوفراته العلمية والمعرفية والممارساتية والميتودولوجية، ما خول له التفاعل بشكل قويم ومبسط مع أسرار الرسم في خط النسخ، بسيولة معرفية، ووضعيات تطبيقية ملائمة ووفيرة. وهي تدخل في جهوده الكبيرة لخدمة الخط والخطاطين في كل الربوع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *