مجتمع

أجيال إعلامية: بنعيسى الفاسي.. إذاعي خاطبه الحسن الثاني من وراء الميكروفون ووصفه عبد السلام ياسين بالفيلسوف

إعلامي

تقف وراء وسائل الإعلام بمختلف أشكالها، طاقات بشرية هائلة تسهر على إدارتها وتشغيلها والقيام بكل المهام الإعلامية، بهدف إيصال رسالتهم النبيلة في تبيلغ المعلومة للمجتمع عبر وظائف الإخبار والتثقيف والترفيه، وهو ما يُسهِم في تشكيل البناء الإدراكي والمعرفي للأفراد والمجتمعات.

فالإذاعة المغربية التي تعود سنة انطلاقتها إلى 1928، والتلفزة المغربية التي شرعت في بث برامجها سنة 1962، وعلى مدار تاريخهما، مرت أجيال وأجيال من الإعلاميين أثرت وتأثرت بهذا لكيان الذي ترك بصماته عليهم وعلى ذاكرتهم، وكلما احتاجوا لغفوة منه رجعوا بذاكرتهم للخلف ينهلون منها أجمل الحكايات.

وتبرز في هذا الإطار، أطقم البرامج والنشرات الإخبارية من مخططي البرامج ومذيعين ومحررين ومنشطين وفنيي الروبورتاج والتوضيب وتقنيي التصوير والصوت وعمال الصيانة ومسوقو الإعلانات التجارية الذين يقومون بتنظيم الأعمال التجارية، إلى جانب مسؤولي العلاقات العامة والأعمال الإدارية المرتبطة بإنتاج البرامج والسهر على إعداد النشرات الإخبارية من اجتماعات التحرير إلى بثها عبر الأثير.

فطيلة أشهر فصل الصيف، تسترجع معكم جريدة “العمق” من خلال مؤرخ الأجيال الإعلامية محمد الغيذاني، ذكريات رواد وأعلام بصموا تاريخ الإعلام السمعي البصري المغربي عبر مسارهم المهني والعلمي وظروف اشتغالهم وما قدموه من أعمال إبداعية ميزت مسار الإعلام الوطني، وذلك عبر حلقات يومية.

الحلقة 74: بنعيسى الفاسي

يعتبر الراحل بنعيسى الفاسي أحد الوجوه الإعلامية التي ارتبطت بالإعلام المغربي منذ الستينيات، وكان الفاسي أحد الإذاعيين المغاربة المتميزين، اشتهر بأنه أحد الأصوات التي واكبت عام 1975 انطلاق المسيرة الخضراء إلى الصحراء المغربية التي كانت تحت الاحتلال الأسباني آنذاك.

وكان حضور الإذاعة الوطنية قويا وحاضرا في في فترة التهيء والإعداد والمواكبة والمتابعة والتحليل وحسن الإلقاء، وكان الواصفون للحدث في منتهى التمثيل والنقل والإلقاء الجيد وكان التناوب بين أبناء الإذاعة المغربية في هذا المشهد في منتهى روعة التنسيق والتبادل حتى الكلمات كانت موزونة وحماسية تخرج من القلب.

وكان المرحوم بنعيسى الفاسي في أوج عطائه وفي عنفوان شبابه وهو ينقل لنا حدث مسيرة معجزة القرن.

وتحتفظ له خزانة المحفوظات الصوتية للاذاعة المغربية بسلسلة من البرامج التي تعتبر سجلا وثائقيا لمراحل المسيرة الخضراء منذ الاعداد لها ومتابعة مختلف مراحلها الى حين رجوع المتطوعين والسياسيين والاداريين المشرفين على التنظيم الى اماكنهم.

وكان بنعيسى الفاسي ضمن الاذاعيين الذين عملوا في إذاعة طرفاية الموجهة الى إخواننا في الصحراء قبل الاعلان عن المسيرة، وكان من بين الاذاعيين كل من محمد جاد ومحمد الغربي ومحمد ضاكة وسعيد الجديدي وبنعيسى حجي.

وعايش بنعيسى الفاسي مرحلة مهمة في تاريخ الاذاعة المغربية، وهي مرحلة بداية البرامج التفاعلية بالاذاعة، حيث تم فتح الهاتف للمستمعين لإبداء آرائهم وطرح تساؤلاتهم مباشرة على ضيوف البرامج الاذاعية سنة 1978.

وقد ساهم الفاسي في هذه التجربة الى جانب مصطفى العلوي وامحمد الجفان وامحمد البوكيلي ومحمد السباعي، ومن بين البرامج التي ساهم في تقديمها برنامج 12- 13، كما أنجز سلسلة من البرامج الفنية والتراثية خلدت لطرب الملحون بالمغرب استضاف لها مهتمين وشيوخ ومنشدي هذا الفن الأصيل.

تميزت المسيرة المهنية لبنعيسى الفاسي بعمله مراسلا لمحطة بي بي سي في الرباط منذ الثمانينيات، واشتهر أيضا بإعداد العديد من البرامج الاجتماعية والسياسية في الإذاعة، تقلد إلى جانب عمله الإذاعي والصحفي مناصب في دواوين الحكومة المغربية، وتوفي بنعيسى عن عمر يناهز الثامنة والخمسين عاما.

كان بنعيسى الفاسي يصر على قراءة البسملة، على عادته كلما اقترب إلى ميكروفون ”أستوديو 4” في الإذاعة المركزية. وكان يقدم برنامجا إذاعيا ليليا، يسهر على أن تكون فقراته مزيجا من القراءات الشعرية والأغاني الخالدة والموسيقى الحالمة.

تعلم فن الإلقاء في معهد الفنون الدرامية في الرباط. وبدل أن يصبح ممثلا اختطفه ميكروفون الإذاعة الذي يتميز بجاذبية أشبه بآلة مغناطيسية لا يمكن المرور بمحاذاتها دون الانجذاب إليها، بوعي أو بدونه.

لكن أفضل المذيعين في التلفزة والإذاعة المغربية، قبل الانحدار إلى قاع الهاوية، كانوا في غالبيتهم ممثلين أو مخرجين.

انضم الشاعر عبد الرفيع الجواهري إلى فرقة التمثيل الإذاعي قبل أن يتعرف عليه الجمهور مذيعا وإعلاميا كبيرا. وشارك محمد جاد في تقديم تمثيليات، ثم انعطف إلى تقديم نشرات الأخبار.

ولم يكن مسار امحمد الجفان وبنعيسى الفاسي وغيرهما مختلفا. برع الأول في الإخراج الإذاعي ثم اكتشفه الجمهور مقدم نشرة أخبار تلفزيون من طراز فريد، ليظهر كواحد من الإعلاميين القلائل الذين ”قرصنتهم”فضائيات عربية في سنوات الانطلاق الأولى لهذه الموجة العارمة، فيما انضم الفاسي إلى هيئة الإذاعة البريطانية، قبل أن يتوقف قلبه عن النبض في نهاية السير والمطاف والطواف.

دمغ الفاسي نبرة الإذاعة بصوت هادئ ومجلجل. وذات ليلة سيحول اتجاه برنامجه، مثل ربان طائرة قيل له أن يحلق على مسافة أبعد عن الأرض. لاشيء يوحي بحدوث أي تغيير على فترة بث برنامجه الإذاعي وفقراته التي يختارها بعناية. فقط هي مكالمة هاتفية غير متوقعة، جعلته يتسمر في مكانه. لم يكن البرنامج يهتم بسجال المكالمات. الأغاني مختارة سلفا وفقرات الربط توجد على أوراق المذيع الذي يقطف منها ما يلائم سباق الأغاني.

من على الخط؟ تساءل بنعيسى الفاسي الذي عرف بمشاكسته وشغبه المقبولين، انساب الصوت من الطرف الآخر: أنا الحسن الثاني ملك المغرب، يا للصدمة والغرابة. الصوت يعكس نبرته والكلمات منتقاة بعناية ولطف وتواضع، ماذا.. الحسن الثاني على الخط؟ ! لم يصدق ما كان يسمعه، استبد به الارتباك والحيرة، ثم استعاد صوابه قائلا: أنا بنعيسى الفاسي، أي خدمة يا مولاي؟ رددها أكثر من مرة.

سأله الملك إن كان برمج إحدى أغنيات المطربة المصرية فايزة أحمد، وتحديدا ”ست الحبايب”. اعتذر بلباقة، وقال إنه يستطيع أن ينزل حالا إلى خزانة الإذاعة لجلبها، لولا أن الخزانة ستكون مغلقة في هذا التوقيت.

ردد مع نفسه، مجرد أغنية لا يستطيع أن يقدمها في الوقت المناسب. ولعن الزمن الذي أوجده في اللحظة التي لا يقدر فيها على الاستجابة لرغبة ملك البلاد.

استفسره الحسن الثاني عن الأغاني المبرمجة تلك الليلة، فعرض إليها بتفصيل، وصادف أن إحداها كانت للمطرب عبد الحليم حافظ. قال له الملك: سجل في مفكرتك أسماء الأغاني التالية وقدمها في نفس التوقيت على امتداد الأسبوع الجاري، كان من بينها روائع لفايزة أحمد وعبد الحليم حافظ، ومقطوعة: ”آش داني” وأخريات من فن الملحون والأندلسي.

انتشر خبر المكالمة على نطاق ضيق. لم يعد الأمر سرا. فقد اضطر الفاسي إلى وضع المدير العام للإذاعة والتلفزة أبو بكر بنونة في صورة ما حدث. لاحظ أنه كان يأمل لو اشتغل موزع مكالمات في تلك اللحظة، كي يحظى بشرف تلقي المكالمة الهاتفية الملكية. في اليوم الموالي كان بنعيسى الفاسي وضع كل الأغاني المحتمل أن يطلبها الملك على رفوف المحافظة العامة. لم يطل انتظاره فقد رن جرس الهاتف وكان الحسن الثاني على الخط.

سأل إن كان أعد الأغاني جميعها. وطلب إليه أن يبثها تباعا، في نطاق الاحتفاظ بسيرورة برنامجه، من دون أي تغيير. تلعثم بداية لأنه كان يعرف أن مستمعا من نوع خاص يرصد كلماته، ثم انخرط في قراءاته كالمعتاد. كان المدير العام ومسؤولون آخرون يرقبون الموقف من خلف زجاج ”أستوديو رقم 4”، وتمنوا جميعا لو وهبهم الله قدرة بنعيسى الفاسي في التذييع. فيما كان يفكر لو وهبه سبحانه بعضا من ”مناصبهم وثرواتهم”.

انقطعت المكالمات بعد ثلاث أو أربع مرات. ولم تفارق الفاسي فكرة أنه يخاطب الحسن الثاني من وراء الميكروفون، وقد تأتى له ذلك في مناسبات لاحقة إبان متابعة الرحلات الملكية أو مؤتمرات قمم عربية وإفريقية وأخرى لدول عدم الانحياز.

كان محبوبا لدى الجميع، وقد اكتسب هذا الحب من ثقافته الواسعة وصوته الشجي وطريقة إلقاءه وتقديمه للبرامج التي قدمها سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو فنية.

ومن السياسيين المعجبين بالصحفي بنعيسى الفاسي الراحل الأستاذ عبد السلام ياسين، وقد عبر الراحل عن هذا الإعجاب أثناء عقده لندوة صحفية بعد رفع الحصار عنه وذلك يوم السبت 20 ماي 2000، في منزل مجاور لإقامته بسلا.

وقد وجه الفاسي الذي كان يمثل آنذاك إذاعة ”بي بي سي”، وكان سؤال بنعيسى ”طبعا نحن نقدر الظرف الذي تعيشه جماعة ”العدل والإحسان”، فبعد الإفراج عن سماحتكم وبطبيعة الحال نحن لا ننتظر تصريحات سياسية ولكن بما أن الإسلام دين ودنيا وأنتم تدعون إلى تربية النشىء وإلى النهي عن المنكر. والواقع أن المجتمع المغربي، وهذا بشهادة الحكومة نفسها، يعيش فوارق طبقية ويعيش مشاكل اجتماعية وعدم تطبيق العدالة الاجتماعية كما يدعو لها العاهل المغربي. بطبيعة الحال لكم تصور أو بديل. لنفرض أنه سمح لكم بالممارسة السياسية ودخلتم الانتخابات قبل أوانها، وبدون شك الناس يعرفون النتائج ومن سيفوز ولكن إذا سمحتم سيدي أن تعطونا تصورا ولو سريعا عن بديلكم…

وكان جواب الشيخ عبد السلام ياسين: ”جزاك الله خيرا، السيد بنعيسى الفاسي ليس رجلا صحافيا فحسب بل هو رجل فيلسوف، وأنا استمعت إليه في بعض البرامج الإذاعية وهو رجل له أفكار ولديه عمق، وبالنسبة إليك السيد بنعيسى الفاسي عليك بكتاب العدل فستجد فيه مأربك، وسأجيبك بالفرنسية فذاك أحسن”.

* المصدر: كتاب “للإذاعة المغربية.. أعلام”، وكتاب “للتلفزة المغربية.. أعلام” – محمد الغيداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *