أدب وفنون

“طفولة مبدع “.. ركاطة: لولا تكسير “الكنبري” لكنت اليوم “الشيخ” حميد

“طفولة مبدع ” هي نافذة نلتقي من خلالها مع المبدعين المغاربة للحديث عن عوالم طفولتهم، وتأثيرها على كتاباتهم، وما الذي بقي راسخا في الذاكرة من ذلك الزمن البعيد، وملامسة حضور تيمة الطفولة في نصوصهم الإبداعية، هي نوستالجيا لزمن البدايات في دروب الحياة.

حلقة اليوم مع الروائي والقاص والناقد حميد ركاطة، من مواليد مدينة مكناس، عضو اتحاد كتاب المغرب، ورئيس مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام بخنيفرة، من أعماله: “دموع فراشة ” مجموعة قصصية قصيرة جدا عن دار التنوخي 2010 “، و “ذكريات عصفورة” قصص قصيرة جدا دار الوطن بالرباط في طبعتين 2013، “القصة القصيرة جدا قراءة في تجارب مغربية عن وزارة الثقافة المغربية2013.

صدر له أيضا،” تجليات الملمح الساخر في كتابات مباشرة جدا لجميل حمداوي” منشورات أنفو برانت الرباط 2014، و”مذكرات أعمى”، رواية عن مطبعة نجمة الشرق ببركان ضمن منشورات جمعية الأنصار للثقافة بخنيفرة الطبعة الأولى 2015، “وحياة واحدة لا تكفي” رواية منشورات الموجة الثقافية 2020، وفيما يلي نصه الموسوم بعنوان “الموت من الضحك”:

“لم يكن باستطاعة أي أحد أن يقيد جموحه، أو أن يحد من سعة أفاق أحلامه كطفل صغير، كان مهوسا بشكل رهيب، باللعب، وصيد العصافير، وصناعة الآلات الموسيقية، والغناء، لايتذكر كيف دخل المدرسة أول مرة، ولا كيف انضبط داخل فصل دراسي يقيد حريته. طفلا كان، وظل طوال كل تلك السنوات، يعيش بعقله، ووجدانه خارج أسوار مدرسة، كانت تتكون من أقسام متباعدة بشكل كبير، أشبه بتوابيت بيضاء، وسط حي لا تختلف فيه هندستها، عن هندسة مساكن بقية أهل الحي، حجرات مستطيلة، مرفقة بساحة داخلية، عند مدخلها باب خارجي، توجد بقربه المرافق الصحية، وصنبور ماء دائم الجريان يتدفق ماؤه بسخاء داخل صهريج، يشبه قبعة شرطي مرور، منكفئة بشكل كبير.

شكل ذلك الصهريج ظل راسخا في مخيلته، ولم يبرحها أبدا. كما ظل ذلك المكان، الحيز المفضل بالنسبة إليه، لفترات طويلة، إلى أن تحولت القسم الدراسي، إلى مسكن لأحد الوافدين الجدد، إلى الحي.

حي خاص بموظفي القوات المساعدة، لم يكن باستطاعة أي أحد اقتحامه بسهولة، في الوقت الذي كان فيه شبان الحي يفرون منه نحو أحياء راقية، تعانق المدينة الجديدة، لممارسة طقوسهم الطفولية، بعيدا عن الأعين، ورقابة الأهل.

ذات سنة، حل رمضان في منتصف شهر غشت، وكانت حرارته المفرطة تقض مضجع الكبار، قبل الصغار، طوال فترة يوم تتحرك فيه عقارب الساعة بتثاؤب كبير، يتذكر أن والدته أمرته بأن يصوم الفاتح من الشهر، ومنتصفه، وكذلك ليلة السابع والعشرين. لم يعترض على قرارها، وأذعن مكرها.

كان ” حميد” واسطة عقد، ضمن كوكبة من ستة أطفال. تعتمد عليه أمه كثيرا في مساعدتها خارج البيت. توكل إليه مهام إيصال وصلة الخبز إلى “فران “الحي، أو اقتناء مواد غذائية من الدكاكين التي كانت تتمركز في الجزء الثالث من الحي، الذي كان مكونا من مجموعة من المنازل، متراصة بشكل هندسي، خال من الجمال، كانت أشبه بعلب سردين. قطع اسمنتية مكونة من أربعة منازل في كل حيز، تشكل أحيانا دربا مغلقا على نفسه، في حين كانت هناك منازل أخرى، متراصة جنبا إلى جنب على طول طريق معبد كان يطوق محيط الحي بشكل أفعواني.

كان ينزل مجموعة من الأدراج مخترقا الجزء الأول، ثم الثاني، فالثالث، الذي توجد به مجموعة من الدكاكين، ومنها كان يطل على الجزء الرابع من الحي. كانت النظرة من الأعلى نحو الأسفل رهيبة جدا، لا يهون وطئها سوى ظل أشجار الأوكاليبتوس، التي كانت تشرئب بأغصانها معانقة عنان السماء. ترنو في جلال إلى فضاء أخضر بهيج، مكون من عرصات، وضيعات بها الكثير من الأشجار المثمرة بحي الفخارين، الذي يفصل بين حيهم، و أسوار المدينة العتيقة التي يرقد خارج فضائها ضريح “الشيخ الكامل”.

كانت رحلة الذهاب والإياب إلى تلك “الحوانيت” تستنزف كل طاقته، فكان يلوذ بساحة قسمهم، الظليلة، بحثا عن ماء الصهريج، الذي كان ينقذه من العطش. يلهو بمحيطه. يبلل ملابسه، التي لم تكن تتكون في الغالب، سوى من سراويل من النيلون(الكرسون)، وقميص بدون أكمام بنفس اللون، مفتوح عند الرقبة.

ظلت أمه تتباهي به أثناء حديثها مع جاراتها كل مساء، وهي تخبرهم عن طاقة تحمل ابنها “حميد” وصبره، وقدرته على الصيام في شهر، لا يطيق عنته الكبار. ظل سره محفوظا طوال أيام معدودات، إلى أن ضبطه أحد أبناء الجيران، رفقة أطفال الحي وهو يتنافس معهم، حول من باستطاعته أن يشرب أكبر قدر ممكن من ماء الصنبور. لم يكن لينتبه حينها، أن ابن جارتهم هو الأخر ،كان يتسلل خلسة عبر إحدى النوافذ ليدخل إلى الحجرة الدراسة، رفقة صديقة له، كان يختلي بها هناك، بعيدا عن الأعين.

في مساء ذلك اليوم عاقبته أمه، وقررت حرمانه من الخروج لمدة ثلاثة أيام، بعدما قيدته إلى جدع دالية، كانت تتوسط باحة منزلهم. وأقسمت له بجهد إيمانها، أنها لن تتراجع عن قرارها، وهي تذيقه بحزامها الجلدي أشد العقاب، وتملأ فمه بمسحوق الفلف الحار. قرار أمه بالمنع، أشعره لأول مرة في حياته بالاختناق. حينها لم يكف أصدقائه من الطرق على باب منزلهم، فكانت أمه تأمرهم منهم، بأن يدعوا إبنها وشأنه. يومها لم يستطع أي أحد أن يخلصه من أسره سوى ” الخالته عيشة” وهي جارة وقورة، امرأة كانت ذات هيبة بين النساء، والرجال في الدرب، احتضنته بحرارة، وهي تخاطب أمه بحسرة، وتمسح دموعه:

” تعاقبين صبيا لأنه أفطر في رمضان، وهو لم يبلغ بعد مبلغ الراشدين، ماذا كان بوسعك أن تفعلي مع من وشي، به وقد ضبط متلبسا بالجرم المشهود، مع فتاة من خارج الحي”.

أطبقت أمه بيدها على فمها، وهي تتلقى الخبر، في الوقت الذي أردفت فيه ” أمي عيشة” مضيفة:
– لقد تصرف الغبي تصرفا مشينا، عندما وشى بالأطفال الصغار، لكي يبرحوا ساحة المدرسة، ليخلو له الجو، ويمارس طقوسه بكل حرية.
– ومن الذي ضبطه؟ سألت الأم
– زوجي، “عمك موحا” هو الذي أخبرني بذلك، وقد لقنوا الصعلوك درسا لن ينساه أبدا
– – والفتاة، ماذا فعلوا معها؟
– لقد تم إخبار والديها بالأمر
كان يعرف أن بعضا من شبان الحي، يشغرون ذلك الوكر خلال عطلة الصيف، لكي يدخنوا، أو يحتسوا داخله ماء الحياة بعيد عن الأعين، لكنه لم يكن يتصور مطلقا أنه كان المختبر السري، الخاص باكتشاف مفاتن الجسد.

اتفق رجال الحي إغلاق باب المدرسة جيدا، وحراستها بالتناوب، غير أن هذا الأمر لم يستمر طويلا، فسرعان ما عاد الجميع إلى نفس المكان، بعد انقضاء أشهر معدودات، وتعلم الأطفال، والشبان كيف يتناوبون على الحراسة، كلما تسلل أحدا منهم إلى الوكر خلسة.

مع مرور السنوات، تحول الفصل الدراسي إلى مسكن، وانتقلت أنشطة شبان الحي، لتعانق فضاءات أرحب، يمارسون فيها هواياتهم المفضلة. أما هو، فقد ابتلي باصطياد العصافير قرب معمل قديم للأجور، في قلب أجمة عمية متشكلة من تراب طيني، تتحول خلال الفترات الممطرة، إلى برك مائية مترابطة، تستقطب الطيور، وحيوانات أخرى كالكلاب الضالة، والأرانب من أجل الشرب.

في ذلك المكان علمه “الهاشمي ” الذي كان يدرس معه بنفس المدرسة، مختلف تقنيات نصب الفخاخ، وصنع الأقفاص، واصطياد العصافير باستعمال مادة لاصقة، كان يحضرها من إذابة القفازات المطاطية التي كانوا يجلبونها من مطرح “الكاستيني” الكبير.

صيد الطيور، لم تكن الهواية الوحيدة الذي كانت تطوح به بعيدا عن الحي، بل حتى صناعة الآلات الوترية ” الكنبري” التي كان يبحث عن موادها الأولية في أماكن نائية، ويصنعها فوق سطح منزلهم خلال فترة قيلولة والديه. اهتمامات، وهوايات كانت تعتبرها أمه سببا في تعثره الدراسي، فتعمد إلى تكسيرها فوق  رأسه كلما حصل على نقط متدنية، وهي تصيح:” هاك ألشيخ حميد؟ هاك ألشيخ حميد”. كان يدرك بشكل جلي، أن آخر شيء يمكنه أن يفكر فيه، هو أن يتقيد بالجلوس دخل حجرة دراسية، تبرع بداخلها معلمة قاسية الملامح، بالتنكيل به وأصدقائه في كل وقت وحين. لم يكن يحب النحو، و لا الأعراب، أوتصريف الأفعال، التي كانت تبدو له كعش زنابير بمجرد ما ترجه، تبدأ الزنابير بالهجوم عليك، وأنت لا تدرك عواقب تصرفك الأرعن.

ما كان يشغل باله في الواقع، هي أعشاش الفراخ التي بدأت تتكاثر تحت السقيفة المغطاة بساحة المدرسة، وزقزقتها الصاخبة وهي تمارس طقوسها في مجون، بينما كان هو يموت عليها من الضحك، من أعماق قلبه. يخطط سريا للكيفية التي تمكنه من تسلق الحائط الخارجي للمدرسة ليصل نحو سقفها دون عناء. لم تكن الصور التي تزين جدران الفصل تثيره، ولا إجابات زميلاته وزملائه، وهم يتنافسون برفع أصابعهم بغثة كأشواك قنفذ يستعد للقتال. كل محاولات الأستاذة في أن تعيد عجن”حميد”، وتشكله على مزاجها، لم تفلح إلا خلال مرات قليلة، وهي تترنح متباهية أمام بقية التلاميذ بكونه تمكن من ذلك أخيرا. في حين كان هو يردد في أعماقه، أنه سمع ذلك السؤال من قبل، و تكرر أمامه حد السأم.

الصورة الوحيدة التي كانت تملأ عقل ذلك الطفل الصغير، هي التي كانت تؤثث نصوص كراسة القراءة بالفرنسية. تثيره فيها وجوه الأطفال، التي لم تكن تشبه مطلقا وجوه بنات، أو أبناء حيهم، المحترقة من شدة الحرارة، وأرق السهر، و جوه يعلوها الشحوب بسبب سوء التغذية، والمكوث أمام شاشة تلفاز بالأبيض والأسود، لساعات طوال. تلفاز لا يعقل كيف دخل حيهم في غفلة من الجميع. كانت برامجه رغم بساطتها تشكل بالنسبة إليه، ملاذا للسفر نحو أفاق رحبة، وعوالم أشبه بعوالم صور “مينة، وغوني، وميكي، وبوبي..” كان يغبط أصحاب تلك الصور، وسؤال عريض يلفه، هل كان غوني هو الأخر مثله، يحب اصطاد العصافير؟ لكنه سرعان ما كان يستبعد هذا الجواب ، وهو يردد في أعماقه، أن أصحاب الملابس النظيفة، وذوو البشرة الصافية، واليانعة “كغوني”، لا يصطادون العصافير، ربما يصطادون أشياء أخرى، هو لا يعرفها. كانت “مينة” ذات العينين الزرقاوين، أشبه بماء ضاية كاللجين في هدوئها الساحر، وقد حفتها أشجار السنديان المنحنية في خشوع المصلين، بينما “مينة” التي تدرس معه بنفس الفصل، كانت بالكاد تستطيع فتح عينيها، من كثرة ما تراكم حول رموشها من عمش. بين “مينة” الجميلة في الكراسة، ومينة” التي تجلس بجانه، بون شاسع، لا يقطع حبل تخييله الفاره، سوى رائحة البول العطنة التي تنبعث من سروالها، كلما همت بالنهوض نحو السبورة لتنجز تمرينا ما.

أما عندما يأتي دوره هو وأصدقائه، فكانوا يقفون كنصب تذكارية، فوق مصطبة قرب السبورة، وهم يبسطون أيديهم، أو يتناوبون على نزع سراويل بعضهم البعض، ليتلقوا ضربات مبرحة على مؤخراتهم العارية. طقس دأبت المعلمة على ممارسته بسادية كبيرة، معللة تصرفها بأنهم حصلوا على نقاط متدنية، بعدما صححت دفاتر التمارين. رغم قسوة الألم لحظتها، ظلت السخرية من سلوك بعضهم البعض، وهو يطلعون على مؤخرات أصدقائهم ، مناسبة لاختلاق قفشات، ونكت يتداولونها خارج الفصل بصخب كبير.

هكذا ظلت فترة الطفولة بشغبها الرهيب، وصعوبة التأقلم داخل المدرسة، مع ما رافق تلك المرحلة من تعثر الدراسي، كان يواجه بسادية كبيرة، أهم السمات التي لا يمكن أن تنمحي من ذاكرة طفل صغير، سيعيش منعطفا فارقا في حياته بعد اجتيازه قسم” الشهادة الابتدائية”، ليبدأ مسارا مغايرا أدهش الجميع بعد ذلك”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *