وجهة نظر

كيف نشأ التاريخ الهجري ؟

أجمع المؤرخون -أو كادوا- أن العرب قديما لم يكونوا متفقين على تاريخ معين متعارف بينهم يحددون به أحداثهم، ويضبطون بموجبه تواريخهم، خلافا للأمم الأخرى التي لها تواريخ معلومة يؤرخون بها للوقائع العظام التي ترفع مجدهم، وعادة ما تكون التقاويم السائدة يومئذ -وإلى الآن- مقيدة بالسنة والشهر واليوم، ويبقى وقتها مضبوطاً ومحفوظا في أرشيفهم التاريخي إلى الأبد.

ومن تتبع سبب استحداث تواريخ العرب قديما سيجد أنها لا تكاد تخرج عن الأحداث العظيمة التي وقعت لهم، وهذه الأحداث مزيجة بين السرور والأحزان.أما الأخيرةفكثيرة منها؛ هزيمة في حرب أو نكبة، أو انتشار الوباء والطواعين، وحدوث الزلازل، أما الأفراح؛ فكسقوط مطر غزير بعد وقوع الجفاف لسنوات، والانتصار في الحرب، أو قدوم ملك، أو تاريخ تسلطنه، وغيرها من الأمور التي لا تخرج عادة عن دائرة الأفراح والأتراح.

فاتضح أن تاريخ العرب له ارتباط كبير بالأحداث والوقائع التي غيرت مجرى تاريخهم، ولها شأن عظيم بالنسبة إليهم كوفاة كبراء رؤسائهم، أو وقوع مجاعة أصابتهم، أو حادثة أهلكتهم، أو مصيبة أراعهم، أو مسرة أفرحتهم. ويكفيك من ذلك تحديد ولادة أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم بعام الفيل.وكل هذه الحفريات المثارة على طول العصر الجاهلي، وصدرا من البعثة النبوية تجعلنا نتساءل:

هل للعرب تاريخ موحد قبل بداية التاريخ الهجري ؟

تتزاحم الأحداث العصيبة تارة والسارة أخرى في المجتمع العربي وتتوالى،لكن بعضها يُطوى سريعا ولا يروى، خلافا لبعضها الآخر الذي يبقى راسخا يُرمز به ليكون شاهدا متى أراد أحدهم تعيين وقت ما فيقول: بعد حادثة كذا بسنة، أو قبل وقوعها بكذا.

بيد أن أحداث القبائل العربية عادة ما تؤرَّخ بأحداثها الكبيرة كالانتصار على قبيلة معادية، أو بوفاة شاعرها، أو ولادة ابن رئيسها، أو تولية أبيه، خلافا للأخرى لا تبالي بكل ما سلف ولا تعده من تاريخها، بل تؤرخ هي الأخرى بأحداث متقاربة زمناً،ومتفقة مع صنوتها الأولى معنى ومبنى، وعادة ما يتركون التأريخ بحادثة قديمة إن حلت محلها أخرى جديدة، وتأتي حادثة أخرى أقوى تأثيرا فيبدأون التاريخ بها.

وكل هذا يدل على عدم وجود تاريخ موحد للقبائل العربية، ذلك أن آخر حدث أرخت به قريش قبل الإسلام؛ هو عام الفيل كما هو مشهور. ترى هل المسلمون تأثروا بأعراف العصر الجاهلي في تأريخ أحداثهم ؟ أم أنهم استقلوا واستحدثوا طرقا جديدة في بناء نشأة تاريخهم الحديث.

كيف كان المسلمون يؤرخون لوقائعهم قبل استحداث التاريخ الهجري ؟

يبدو أن هناك اختلافا جوهريا بين تأريخ المسلمين وغيرهم فالصحابة رضي الله عنهم عمدوا إلى ربط تاريخهم بهويتهم الدينية ومزجه بشعائر الإسلام. لاسيما بعد أن هاجروا من مكة إلى المدينة لذا سموا تلك السنة سنة الإذن بالرحيل، والسنة الثانية بعدها؛سنة الأمر بالقتال .. والسنة العاشرة سنة الوداع كما قال الجبرني في كتابه: تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار.

ترى من هو الآمر باستحداث هذه التواريخ والمدبر لها ؟ ومن أقر باقتصارها على السَّنة وتسمية التي بعدها باسم آخر ؟هل كان ذلك باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ أم هو اختيار لكبار الصحابة أجمعوا عليه طرا ؟ أو هو مزيج من المؤثرات الجاهلية على العادة القديمة.

بعد النظر والتأمل في النصوص التاريخية ظهرت رواية أسندها ابن جرير الطبري في تاريخه:2/ 388 إلى ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة في شهر ربيع الأول أمر بالتأريخ. وقال أبو جعفر: كانوا يؤرخون بالشهر والشهرين من مَقدمه إلى أن تمت السنة. وهكذا بإجمال كان تاريخ المسلمين في المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر.

أسباب ودواعي استحداث التاريخ الهجري:

لا شك أن كثرة الفتوحات في خلافة عمر ابن الخطاب (13-23هـ) أفضى إلى اتساع رقعة الدولة الإسلاميةلكثرة اختلاط العرب بالعجم.ولا غرو أن هذه الموارد البشرية تفرض تعيين الولاة، والقضاة، والمحتسبين واستحداث الدواوين، وتنظيم موارد الدولة، وتقنين طرق صرفها، كنظم الخراج،والجزية، والعشور، وغير ذلك من التنظيمات الجديدة التي أسهمت في تأسيس بنية الدولة الإسلامية الفتية، وإن شئت قلتَ: هيكلة أول قانون إسلامي ينظم إدارة الدولة، أو التراتيب الإدارية بتعبيرالعلامة عبد الحي الكتاني.

وغير خاف أن تنظيم الدولة المتسعة الأطراف شرقا وغربا يحتاج إلى دقة في ضبط أصول علاقاتها الخارجية، وكذا ختم وتاريخ مراسلاتهم اليومية. وقد لا تخفى تداعيات خطورة إغفال ذلك،كتقديم الأحداث على تأخرها والعكس من الإضرار بحقوق العباد، ويشتد ذلك أكثر في دواوين الأموال،ورسوم العطايا، ولعل أبا موسى الأشعري أحد ولاة عمر تفطن لهذا الخلل لما كتب إليه قائلا:”تأتينا منك كتب ليس لها تأريخ..” تاريخ الطبري 2/ 388.

ومضت الأيام والشهور والأراضي الشاسعة تنضم لخلافة عمر بحكم كثرة الفتوحات فاتسعت أرجاء البلاد، وفي خضم هذه التفاعلات رفع إلى الخليفة عمر يوما صك محله في شعبان، فقال عمر: أي شعبان ؟ الذي هو آتٍ، أو الذي نحن فيه ؟

ومن هنا أحس المسلمون بضرورة الاستعجال بتاريخ مقنن يضبط سير معاملاتهم. ولا شك أن خلافا حادا ننتظره حول تشاورهم واختلافهم بل وخلافهم حول وضع أول تاريخ مستقل للمسلمين فكيف وضع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين هذا التاريخ ؟

تباين آراء المسلمين حول وضع تاريخهم:

بعد وقعتَـيْ صك شعبان، ورسالة أبي موسى الأشعري؛ استشعر الخليفة عمر ضرورة استحداث تاريخ للمسلمين فاختلفوا؛ فبعضهم اقترح التأريخ بتاريخ الفرس فقالوا: يجب أن نتعرف على الحيلة من رسوم الفرس فأحضروها فشرح لهم الهرمزان كيفية التاريخ الفارسي والرومي، فكلاهما بعد التمحيص استبعده المسلمون لأن تاريخ الروم طويل جدا، أما الفرس فلم ينضبط لأنه كلما قام ملك أسقط التاريخ قبله وبدأ بتاريخ تولية حكمه فلم ينضبط.

ومما لا شك فيه أن عددا من الأحداث العظام مرت في المرحلة المكية والمدنية جديرة بأن تتخذ شعارا خالدا يحسن أن يبدأ به التاريخ الإسلامي، وكذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم لما واصل سيدنا عمر استشارتهم بحيث لم ترقه جميع الاقتراحات السابقة فصار يستشير كبار رؤوس الصحابة فقال بعضهم: كما روى الطبري: أرِّخ لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: مولده وآخر وفاته، فقال عمر: لا بل نؤرخ لمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم،فإن مهاجره فرق بين الحق والباطل، ثم اتفقوا أن وقت الهجرة أفضل المناسبات الإسلامية الجديرة بأن يؤرخ به التاريخ الإسلامي.

وبعد ذلك اختلفوا في الشهر الذي سيبدأ به ذاك التاريخ، فقال أحدهم رمضان، وتكلم آخرون وكل واحد منهم علل بما رآه مناسبا إلى أن اتفقوا على شهر الله المحرم، وعللوه بأنه منصرف الناس من حجهم فبدؤوا به وكان ذلك في العام السادس عشر بعد الهجرة الموافق لـيوم الخميس 15 يوليوز 622 ميلادية.والحاصل أن التاريخ الهجري استمد شكله من التقاويم السابقة، وجوهره من أصول الشريعة الإسلامية.

خاتمة:

اتضح من هذه الحفريات التاريخية لأصول نشأة التاريخ الهجري؛ أن المسلمين حاولوا تقليد غيرهم من الفرس والروم، فأبى حسهم الإسلامي الرفيع؛ إلا أن يختار مناسبة عظيمة لها وثيق الصلة بديننا العزيز، تلكم هي الهجرة من مكة إلى المدينة التي فرقت بين الحق والباطل، وأظهرت براعة استقلالهم الفكري، وتمييزهم عن غيرهم من الأجناس الأخرى .

فيجب أن نعيد الاعتبار لهذا التاريخ ونعلمه للصبيان والولدان، لتأمين مستقبل تاريخنا الإسلامي للأجيال اللاحقة، ونحثهم على حفظ شهوره وكيفية نشوئه، ونبرمج التزاماتنا على وفقه، مع عدم إغفال العكوف على تدريس علم التوقيت والفلك لتكوين علماء قادرين على حسن مراقبة الأهلة واستخراج حصص الصلاة، وكل هذا يساعد في ربط المسلمين بقيمهم الإسلامية، ويحافظ على تاريخنا الهجري باعتبارهما مظهرا من مظاهر الوحدة الإسلامية، ورمزا من رموز نهضتها واستقلالها.

* وكتبه ببيوكرى الحسين أكروم صباح يوم الجمعة 8 محرم 1442 هجرية، الموافق لـ: 28 غشت 2020.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *