وجهة نظر

محزن جدا أن ترى قوما يستأجرون من الخارج من يهدم بيوتهم

إن “هجرة العقول” أو “هجرة الأدمغة” هو مصطلح يطلق على هجرة العلماء والمتخصصين في مختلف فروع العلم و المعرفة من بلد إلى آخر طلبا لرواتب أعلى أو التماسا لأحوال معيشية أو فكرية أفضل، وعادة ما تكون هجرة العقول من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة، كما تعد المنطقة العربية أكثر المناطق التي يضطر علماءها وكفاءاتها إلى الهجرة وهم من المهندسين والأطباء وعلماء الذرة والفضاء، حيث أن أكبر نسبة مهاجرين للأدمغة في العالم من سكان المنطقة العربية، وهذا نموذج من هذه العملة العربية النادرة، إنه البروفيسور الدكتور

نوار ثابت الباحث الجزائري الدولي في مجال الفيزياء وهندسة علوم المادة. و الدكتور نوار ثابت، علامة مسجلة نفيسة واسم ارتبط عبر العقود الأخيرة بعلوم الفيزياء وتحديات تطوير الطاقة الشمسية في العالم.. الدكتور ثابت خريج الجامعة الجزائرية وحاصل على ماجستير من جامعة أورساي الفرنسية عن أطروحة متخصصة حول «نشر شوائب أول أكسيد الكربون و المغنيسيوم في أكسيد النيكل النقي المنشط بالكروم»، و في سنة 1988 أتم الدكتوراه بنفس الجامعة وعاد للتدريس و العمادة في الجزائر، حيث تقلد منصب عمادة الجامعة لسنوات بجامعة قسنطينة، ثم غادر بعدها الجزائر إلى دول الخليج في نهاية تسعينات القرن الماضي، ليتقلد مناصب سامية في الجامعات العربية و الدولية هناك الى يوما الناس هذا..
استوقفتني في المدة الاخيرة ندوات هذه الشخصية المميزة عبر صفحات التواصل الاجتماعي، ورجاحةعقله و بساطته وتواضعه مع طلبته وأساتذته، بالإضافة لاهتمامه بشؤون البحث العلمي وتطوير الجامعات العربية واهتمامه بهموم العلم و العلماء عموما.. وكما لا يغيب على من خالطه من الاساتذة او سمع اليه من الطلبة، .. أما عن التزامه ونخوته الوطنية فلا يمكن لأحد أن يزايد عليه، على تعبير أحد زملائه، علما انه يشتغل لأكثر من عقدين خارج الوطن.

البروفيسور نوار ثابت ، كتب هذا الاسبوع عن تجارب مريرة مر بها، هذه القصة الشيقة رغم مرارتها، فقال:

كنت سنة 2012 أعمل بجامعة البترول والمعادن في الظهران بالسعودية، إذ دخل مكتبي يوما باحث عربي تعرفت عليه في أحد المؤتمرات، وعرض علي هذا الاستاذ الفاضل الالتحاق بالمعهد الذي يعمل به لتطوير برنامج بحث في مجال الطاقة الشمسية، ثم أردف الدكتور نوار، فقال ” ترددت قليلا” ، لأنه من الصعب مغادرة مكان عملي الذي مكثت فيه ما يقارب العقدين من الزمن وطورت فيه مختبرا لبنة لبنة ـ حجرة حجرة ، و”بنيت فيه علاقات لا تقدر بثمن”.. بعدها قررت أن التحق أخيرا بمعهد “كان في بدايته” ولم توضع بعد قواعده ، لكني وجدت فيه “باحثين عربا وعجما متميزين، أتوا من مختبرات عالمية مرموقة معروفة.. وضعنا له برنامج بحث وخطة عمل”. كان هدفنا بناء قدرة محلية على تطوير ثلاثة تكنولوجيات مهمة خلال خمس سنوات فقط وهي: تكنولوجيا الخلايا لتحويل الطاقة الشمسية، وتكنولوجيا البطاريات لتخزين الطاقة الكهربائية وتكنولوجيا تحلية المياه.

يقول الدكتور ثابت في شهادته :”كنا ندرك أهمية التعاون مع أحسن معاهد البحث لنقل التكنولوجيا .. وزرنا عدة مختبرات في أوروبا واليابان وطورنا برامج تعاون مع أحسنها في المجالات التي تهمنا.. وتم استقطاب المزيد من الباحثين بمعدل ثلاثة في كل شهر ليقارب عددنا 150 باحثا بعد ثلاث سنوات…وتم بناء وتجهيز المختبرات بأحسن ما كان موجودا من الاجهزة العلمية قد تزيد قيمتها عن 100مليون دولار. وشرعنا في العمل.. وبدأت نتائج زرعنا تظهر للعيان ولله الحمد.. من منشورات علمية في أحسن المجلات العلمية العالمية إلى تحقيق رقم قياسي لمردود الخلايا الشمسية المصنعة من السيلكون شبه البلوري، وتصنيع خلايا البيروفسكايت بمردود يقارب 20 في المئة.

ربما كان من السذاجة أن نتوقع استمرار مثل هذه التجربة الفريدة على أرض عربية { دون أن يذكر اسم البلد} زاد طموحها عن حجمها، وتحت رعاية مؤسسة أصبح همها منحصرا في البحث عن تحسين الصورة الإعلامية الآنية بدل بناء المستقبل..؟؟

و تنتهي قصة هذه الانجازات الواعدة بسياسات عرجاء وبتصرفات فجة أتت على الأخضر واليابس، حيث أكمل الدكتور ثابت شهادته متحسرا بقوله “في نهاية سنة 2017 أوتي برجل “أوروبي نكرة”، “عاطل عن العمل”، “تم إنهاء عقده بعد عامين فقط من العمل الإداري في جامعة عربية”..” نظرنا في سيرته العلمية فلم نجد شيئا يذكر…وبدأت عملية الهدم الممنهج..؟؟” و قد تم ايقاف أهم البرامج البحثية حول تطوير تكنولوجيا البطاريات والخلايا الشمسية… أدركنا سريعا أن المعهد سقط في قبضة مرتزقة أتوا بمهمة التدمير لا التعمير.. استقال بعض الباحثين وهمش أحسن من بقي منهم وتم توظيف أو ترقية من تشبه سيرهم الذاتية سيرة المدير الجديد في فراغها”

! !

كنت مع الاوائل الذين استقالوا… جاءني احد المواطنين وقال لي” لا يحق لك أن تستقيل فأيام هذه الادارة معدودة”. فقلت له.. عذرا، لا يمكن توقيف هدم وطن وأهله غافلون.!

استمرت عملية الهدم سنة كاملة بعد رحيلي من هذه المؤسسة. وبلغني هذا الأسبوع أن أزيد من 20 باحثا ممن بقوا تم تسريحهم من العمل فجأة عشية بداية العام الدراسي!

بعضهم جزائريون. اثنان منهم أتوا من المانيا وآخر من أمريكا له أزيد من 30 براءة اختراع والثاني من أكثر الباحثين إنتاجًا في المعهد!

نظرت في القائمة فلم أكد أجد فيمن بقي من هو أحسن منهم كفاءة وعلما. وبذلك قطعت إدارة الهدم الشك باليقين: لن يبق في المعهد الموءود من يفكر في

البناء

! !

و ختم شهادته المهمة للأجيال والدول، بحكمه المعهودة: “محزن أن ترى قوما يستأجرون من يهدم بيوتهم.”

يا أسفاه .. قصة محزنة فعلا و سيناريو متكرر في عالمنا المعاصر، وعلى حد تعبير أحد المعلقين ” هذه منهجية لوأد كل نجاح عربي لضمان هيمنتهم الغربية و استرزاقهم من ثرواتنا، لكن ما يؤلم الشجرة أكثر ليس الفأس، إنما عموده المصنوع منه.” و علق أحد الاساتذة بقوله:” محزن فعلا وشيء مخز في نفس الوقت…. يبدو أن العرب أصبحوا أدوات للغرب لتطبيق نظرية المؤامرة التي لا تريد للعرب والمسلمين أن تقوم لهم قائمة…” و علق آخر :” الغرب يريد استغلال الكفاءات العربية والمسلمة خدمة لمصالحهم لكن تطوير قدراتهم الذاتية ومنافسة الغرب هذا ما لا يريدونه… والمشكلة أن المتواطئ مع الغرب هم إخواننا في العقيدة واللغة … فعلا إنه لأمر محزن ويدمي القلب من شدة الحسرة..”

ورغم فوات الاوان في الكثير من مشاريعنا التنموية، على أهل الحل و العقد في أعلى هرم السلطة في دولنا، أن يتفطنوا لويلات هذه المصائب الوافدة قبل فوات الأوان، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *