مجتمع

نوابغ مغربية: محمد بن مصطفى بوجندار.. راقم الأسطار وتارك الآثار وناشر تراجم العلماء الكبار

شخصية تاريخية

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

الحلقة 20: محمد بن مصطفى بوجندار.. راقِم الأسْطار وتارِك الآثار وناشِر تراجِم العلماء الكبار

راقِم الأسْطار وتارِك الآثار وناشِر تراجِم العلماء الكبار

مُـثقَّفٌ وشاعرٌ ومؤرّخٌ وكاتبٌ واسعُ الاطلاع، نَذرَ حياته لدُرَر المخطوطات وغزيرِ الكنانيش والـمَسانيدِ والمصنّفات، ونَــقَّب في طُولِ وعَرض تاريخ بلادنا عن كِبارِ علمائها وسادَتها الفقهاء وأعيانها القُضاة وأقطابها في الزّهد والتصوّف، فَخلَّدَ ذِكْرهم في أسفارٍ جديرةٍ بالتنويه والاغتراف منها حالَ البحث والكتابة عن الشّخصية العلمية المغربية.

أدْرَكنا قيمةَ هذا الرجل وسيرته مما خَلَّفه كِبار المؤلِّفِين في مجال التَّـراجم والسِّير الذاتية، كالعلّامة (الزّركلي) الذي عرَّف بـمُتَرْجَـــمِـنا في الجزء السّابع مِن موسوعَـته “الأعلام”، والأستاذ (عبد السّلام بن سودة) في الجزء الثاني من مَرجِعه “إتحاف الـمطالع”، والبَحّاثة (القبّاج) في كتابِه “الأدب العربي في المغرب الأقصى”، كما خَصَّه الـمحقِّق الدكتور (أبو الهيثم الشَّهبائي) بترجمة وافية في الـمقدِّمة التّـحقيقية لـكتاب “مقدّمة الفَتح في تاريخ رباط الفتح”.

فمن يكون هذا العلَم التقِّي المتبحِّر في شتّى العلوم؛ أحمد بن الحاج مصطفى بوجندار؟

ينحدِر من أصول عائلة كبيرة توطَّنت في الساقية الحمراء بالصحراء المغربية، ثم انتقل فرْع منها إلى عاصمة البلادِ، رباط الفتح، حيثُ سيكون مولِدُ العلَّامة (أحمد بوجندار) سنة 1889.

وفي بعضِ زوايا الرباط تَلقَّى أصول العربية وحَفِظ القرآن الكريم وتَعَلَّم فنّ الخط العربي، وحين أيْفَع؛ دُفِع به إلى رحاب المسجد الأعظم بمدينة الرباط لأخْذِ الدّروس في الحديث والفقه والسيرة والنّحو؛ بتأطيرٍ من نُخبةِ شيوخ وعلماء الرباط؛ أمثال السّيد (علي بن أحمد دينية)، والصّوفي الـمُربّي (أحمد بن عاشر الحدّاد)، والأديب الـمُحدِّث (أحمد بن القاسم جسّوس)، والفقيه (أحمد بن إبراهيم)، والقاضي ((الجيلالي بن إبراهيم) الذي وَصَفَه لاحقاً تلميذُه بوجندار بـأنه كان “رُكْنًا عظيماً من أركان العلم في الرباط ومِن أعظَمِ فُحولِه، وقاموساً مُحيطاً بقواعد المذهب وأصولِه، ومِصْباحاً مُرشِدا في أحكام الفقه وأبوابه وفُصولِه (..) إذا جَرى في الكلام وانْسَحَب؛ كان كأنّما يَنْحَدِرُ مِن صَبَب، لِــمَا كان عليه مِن الـحِفْظ والاقتدار، واتّساع العارِضة والاستِحضار”، والشّيخ التونسي (أبو حامِد البطاوري)، والعالِم الكبير (محمد أبو السّعود الكتاني). ولقد كان مِن حَظّ عَلَمِنا هذا أنْ زامَن في عصره _ ومنذ مَرحلة طَلب العلم _ خِيرة الأقران الـمثقّفين والعلماء والشعراء؛ كالأديب (محمد بن محمد الجزولي)، والمؤرِّخَـيْـن (محمد بن علي الدكالي) و(عبد الرحمن بن زيدان)، والشاعر (محمد الشنقيطي)، والعلّامة (أحمد السّكيرج)، فكانت له معهم مُسامرات ومُراسلات وأحاديث في الثقافة والتاريخ والفقه والأدب.

زَاول مهمّة الترجمة بمكتب الترجمة التّابع للحماية الفرنسية، وعُيِّن سنة 1914 أستاذاً بمعهد الدُّروس العليا، فكانت فرصة له لملاقاة المستشرقين والباحثين الغربيين، ومِن قَبْلُ؛ امتَهَن الصحافة أيضا، فكان _ لسنواتٍ _ مراسلاً لجريدة (السَّعادة) المشهورة وقتئذٍ.

حفرياتٌ في الذَّاكرة العلمية والعُلمائية بمدينة الرباط؛ تخصُّصٌ أخَذَ مِن العلّامة (محمد بوجندار) أثمنَ أوقاتِ عمره، ومَلَك عليه قَلْبَه، وشُغِفَ بالتنقيب في سِيَر الرجال ومَدِّ الأجيال بتراجِم عن الماضِينَ من الأسلاف، أطباءَ وعلماءَ وصلحاءَ وأدباءَ وقُضاةً ودُعاة. وكان دافعه في ذلك؛ التزكية، والتربية، والتعريف بخيرة نبغاء البلاد المغربية، لا سيما رباط الفتح.

تَرْجَم في مَطالِع القرن الماضي لأزيدِ من 30 قاضيا من قُضاة الرباط، واضِعاً بين أيْدي المجلس البلدي آنذاكَ ودائرة المراقبة المدنية التابعة لسلطات الاحتلال الفرنسي مرْجِعاً نفيساً في التأريخ لتاريخ القَضاء بالمغرب الأقصى، اتخذَ له عنوان “تَعطير البِساط بِذِكْرِ تَراجِم قُضاة الرباط”، وطُبِع الكتاب وصار في متناول الباحثين لأوّل مرة سنة 1918.

أَعْقَبه بموسوعته الرباطية الفريدة “مُقدِّمة الــفتح في تاريخ رباط الفتح”، وَقَف فيها عند ذِكْر أهَمّ العائلات العلمية في الرّباط، فضلاً عن تاريخ المدينة وأبوابها ومساجدها ورِباطاتها الصّوفية وآثار السّلاطين فيها. وما سقَط سهْوا؛ استدْرَكه بجُهدِ البحّاثة المدقِّق في كتابه اللّاحق “الاغتباط في تراجم علماء الرباط”.

ثم جاء كتابُه “القِسطاس في تلخيص وتَذييل القرطاس” تقديماً مُختَصَراً لأشهر كُتِب العلَّامة (ابن أبي زرع) المشهور في أوساط المؤرِّخين والفقهاء بــ”الأنيس الـمُطرِب بروْض القِرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس”. وفي كُتَـيِّـبِه “ذِكْر خَتْم الـبُخارِي” يؤرِّخ لنا السيد (بوجندار) رحلة خَتْم الشيخ الأكبر (أبي شعيب الدكالي) رحمه الله لصحيح الإمام البخاري سنة 1338 هجرية.

وذَكر الأستاذ (عبد السلام بن سُودة) في مَرْجعه القيِّم “دَليل مؤرِّخ المغرب الأقصى” الصادر عن المطبعة الـحَسنية في طبعته الأولى سنة 1950، أنَّ العلَّامة بوجندار صَـنَّف كتاباً في وصْفِ شمائل أحد أهمّ شيوخه وهو (أبو حامد البطاوري) أسْمَاه: “أزهار الـخمائل الـمَسكية بأخبار الشَّمائل الـمَكّية”، وله كتابٌ آخر أيضا بعنوان “فَـتْحُ الـمُعـجَم من لامية الـعَجَم”.

إلا أنّ عمَله الأشهر وأثَره الأكبر؛ كتابه الواقع في مُجلَّدين “الاغتباط بتراجم أعلام الرِّباط” الصادر في طبعة أنيقة مُحقَّقةٍ سنة 2013، والذي تَـرْجَم فيه لأزيد من ثلاثمائة شخصية علمية وأدبية وفكرية وصوفية عَبْر امتداد تاريخ المدينة؛ حتى لكأنّه يُجيبُ بلسانِ العَمل والحال عمّا رُمِيَ به المغرب الأقصى من عُقْمٍ في العلماء، وضُعفٍ في التعريفِ بالأموات منهم والأحياء، وعدم اهتمام علمائنا بالكتابة والتأليف، فقامَ رحمه اللهُ بِـنوعٍ من الجهاد في التعريف بالشخصيات الأدبية والفكرية والعلمية والصوفية التي يزخر بها تاريخُ بلادنا، وأماط اللثام عن أدوارها، وعراقة أصولها، ونفيسِ مخطوطاتها وخَزائنها العلمية.

ولَهٌ بالعلِم كبير، وتقديرٌ خاص للعلماء والأدباء صاحَبَ السيد (أبو جندار) مذُ أنْ كان تلميذاً بزوايا ومدارس الرباط، فقرأ وألَّفَ وافتتحَ نادياً أدبيا في الرباط ارْتَادَتْهُ نُخبة من الأدباء والشعراء والعلماء ومُحبِّي الفِكر والثقافة والتاريخ، ومَن اطَّلع على كِـتابه الثَّر “مقدّمة الفتح من تاريخ رباط الفتح” سيندهش لِلكمِّ الهائل من المصادر والمراجع وأمّهات كُتب التاريخ التي وظَّفها الرجل في كل صفحة من صفحاتِ كِتابه الـمذكور، بعزيمة ومصابَرة وعنايةٍ ناشئة من نبوغ، وصادِرة من هدفٍ مُخطَّطٍ ونَفْسٍ توّاقة.

كما كان يمتلك ذائقة شعرية فائقة، أبْدَع بها قصائدَ وأبياتٍ ما تزال محفوظة، وكثيرٌ منها غير مُتدَاوَلٍ بين القُرّاء ولا معروف لدى الأجيال الحالية. ومن نماذج شِعره؛ قوله:

أحِنُّ إليكم شَوقاً وذِكرى
لأيامِ التّداني والتّلاقــــــــــــــــــي
لأيـــامٍ وددتُ لهــــا فِــــــــــــداءً
بأيامي السَّوالِفِ والبَـواقي

وفي قصيدةٌ غَزلية وصْفية جميلة، يقول:
ما للغَزال فَجَــلَّ اللهُ مُـــنْشِــــــــيـهِ
إذا كـــتمْتُ هواهُ الدَّمعُ يُفْشِيــــــهِ
حديثٌ حُسْنُهُ في قلبي له أثرٌ
عن واقدِ الوَجَنات اللَّحظُ يَرْويهِ
تاللّهِ ما ليَ في هواهُ مِن جَلَدٍ
وقد سَقَانيَ كـأسًا مِن تَـجَــــنِّيـــــهِ

كَتَب عنه الأستاذ (محمد احْميدة) كتابَه “من الأدب المغربي على عهد الحماية؛ محمد بوجندار الشاعر الكاتب”، وطُبع سنة 1993، عرَّف فيه بالإرث الشِّعري للرجل، ونبوغه في مَيدانَيْ التأليف والكتابة الشِّعرية.

وبعد حياةٍ قصيرة؛ دَاهَمَ عالِمَ الرباط الكبير مَرَضٌ عُضال أقعَده عن العمل، وملاقاة السادة العلماء، إلا أنَّه لم يقتُل منه الهمة والحيوية العلمية، فاعتكَف ببيته يَقْرأ ويُطالِع ويَبْرَع في التصنيف والشِّعر، مُعبِّراً في خاتمة إحدى كُتبـه قائلاً: “..وكَتَبه خَديمُ العِـلم والأدب والتاريخ، محمد بن مصطفى بوجندار، الرّباطي الأصل والدّار، شَفاه الله، آمين، آمين..”، إلى أنْ جاءه القَدر المحتوم فانتقل إلى جوار ربّه عن عمْرٍ ناهز سبعاً وثلاثين سنة، وكان ذلكَ عام 1926.

فرحِم الله عالِمَ الرباط، ومثقَّفَها وبحّاثتها الصَّبور، الذي تُعَلِّمُنَا سِيرتُه أنَّ الحياة ليست بِعداد السِّـنين، ولكن بِعداد الإنجاز الـمثمِر والتأثير الـمستمِر.

مصادر ومراجع

* (بوجندار) أحمد: “الاغتباط بتراجم أعلام الرباط”، تحقيق الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب، الطبعة الثانية 2014، دار المذهب للطباعة والنشر والتوزيع.
* (بوجندار) أحمد: “مُقدِّمة الفتح من تاريخ رباط الفتح“، دراسة وتحقيق الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب، الطبعة الثانية 2014، عن دار المذهب للطباعة والنشر والتوزيع.
* (بن سودة) عبد السلام: “دليل مؤرخ المغرب الأقصى“، الطبعة الأولى 1950، المطبعة الحسنية بتطوان، 576 صفحة، من الحجم الكبير.
* (القباج) محمد بن العباس: “الأدب العربي في المغرب الأقصى“، الطبعة الأولى 1929، مطبعة دار المناهل، وزارة الثقافة المغربية، النسخة الإلكترونية طبعة 2018

* إعداد: عـدنان بـن صالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *