منتدى العمق

جذور التوتاليتارية في العهد الراشدي

التوتاليتارية شكل من أشكال الحكم القائم على الديكتاتورية ، وهي عبارة عن نظام حكم هرمي يقبع الزعيم المطلق على رأسه وهو نظام يغيب الحرية الفردية ولا يعترف بها ويدعو بدل ذلك إلى بيع الذات، وقد كتب ماركس في هذا السياق داعيا إلى العبودية الحرة “قومية العامل ليست فرنسية ولا إنكليزية ولا ألمانية، قوميته هي العمل، العبودية الحرة، بيع الذات. حكومته ليست فرنسية ولا إنكليزية ولا ألمانية، حكومته هي رأس المال. هواؤه العليل ليس فرنسياً ولا إنكليزياً ولا ألمانيا، هواؤه هو هواء المصنع، الأرض التابعة لـه ليست فرنسية ولا إنكليزية ولا ألمانية، إنها تمتد لعدة أقدام تحت سطح الأرض1، وفي سياق هذا الاستعباد يتحدث ماركس وانجلز عن التحرير من الظلم الرأسمالي ” إذ أكدا أن تحرير البروليتاريا من الظلم الرأسمالي سوف يقود إلى الزوال السريع للتناقضات والفوارق القومية بقولهما “العزلة والتناقضات القومية تزول شيئاً فشيئاً مع تطور البرجوازية، مع التجارة والسوق العالمية، مع تماثل الإنتاج الصناعي وشروط الحياة الموافقة لها”2.

ومن أهم خصائص التوتاليتارية إمساك الزعيم وتحكمه بكل السلطات والصلاحيات، بعد ترسيخ إيديولوجيا جديدة قائمة على أفكار ومبادئ بديلة للأفكار والمبادئ السابقة، ويتأتى تأسيس نظام توتاليتاري على تأسيس حزب وحيد يضم قسرا كل افراد المجتمع دون استثناء، ومن شذ عن الانتماء إلى حزب الزعيم الأوحد اعتبر خارجيا وعدوا للوطن وجب تصفيته والتخلص منه، كما يعمل النظام التوتاليتاري على امتلاك وسائل الانتاج والإعلام والأمن والجيش، وينشر الرعب والإرهاب والتخويف من أجل ضمان الولاء وتفادي الثورة، وإنهاء كل مظاهر المعارضة السرية والعلنية، ومن ثمة تكون الدولة تحت تصرف فرد أو أسرة أو فئة أو فصيل واحد.

ومن أجل تحقيق ذلك يحرص النظام الشمولي على وجود نظام بوليسي متضخم يهدف إلى فرض إيديولوجيته والسيطرة والرقابة على المجتمع، ووجود نسق من الاحتكارات تشمل ثلاثة احتكارات أساسية وهي احتكار وسائل الإعلام وجعلها تحت إشراف الحكومة، احتكار السلاح والقوة، وإدارة مركزية لتسيير الاقتصاد والمنظمات الاقتصادية والاجتماعية. وقد برز النظام التوتاليتاري كممارسة سنة 1925 من خلال الشعار الذي رفعه موسوليني وصيغته “الكل في الدولة، ولا قيمة لشيء إنساني أو روحي خارج الدولة، فالفاشية Fascisme شمولية. والدولة الفاشية تشمل جميع القيم وتوحدها وهي التي تؤول هذه القيم وتفسرها، إنها تعيد صياغة حياة الشعب كلها”. كما برز من الناحية النظرية والأكاديمية من خلال مقال نشره الفيلسوف الإيطالي جيوفاني جنتيلي ـ 1875 (Giovanni Gentile) بالإنكليزية عام 1928 بعنوان “الأسس الفلسفية للفاشية”.
رغم ظهور الحكم الشمولي كمصطلح سياسي في نهاية الربع الأول من القرن العشرين إلا أن تاريخ الخليقة عموما وتاريخ المسلمين خصوصا ليس خِلْوا من حكم سياسي مطابق للحكم الشمولي أو قريب منه،وفي أغلب الأوقات حكما أشمل وأعم وأشد كلية منه، وطبعا وجب بداية الوقوف عند التزايل البين بين الإسلام كديانة وشريعة سماوية لا يعرض لها التبدل والتحول والميل والهوى، وبين المسلمين كوصف لإنجاز وتطبيق للدين الإسلامي اتكاء على فهم مخصوص لهذا الدين ومنه الممارسة التي تصدر عن هذا الفهم الذي قد يقترب وقد يبتعد عن جوهر الدين الحقيقي، وقد يعارضه إذا أمعن الممارس في الاجتهاد الذي لا يستند إلى أسس وقواعد صلبة، وبالتالي فإن الدين كوحي نابع من مصدر علوي لا يفترض فيه أن ينتج حكما منحرفا ومائلا.

ومما يؤسف عليه أشد الأسف أن مظاهر الميل والانحراف نحو الشمولية قد تسلل إلى الملأ من حكام المسلمين منذ عهد الخلافة الراشدة ، ونقصد هنا بالتحديد السنوات الأواخر من خلافة عثمان بن عفان، وقد مضت السنوات الأول كباقي أيام أبي بكر وعمر وفي ذلك يقول السيوطي : ” قال الزهري : ولي عثمان الخلافة اثنتي عشرة سنة يعمل ست سنين لا ينقم الناس عليه شيئا و إنه لأحب إلى قريش من عمر بن الخطاب لأن عمر كان شديدا عليهم فلما وليهم عثمان لان لهم ووصلهم ثم توانى في أمرهم و استعمل أقرباءه و أهل بيته في الست الأواخر و كتب لمروان بخمس إفريقية و أعطى أقرباءه و أهل بيته المال و تأول في ذلك الصلة التي أمر الله بها و قال: إن أبا بكر و عمر تركا من ذلك ما هو لهما و إني أخذته فقسمته في أقربائي فأنكر الناس عليه ذلك”3.

مما يعني أن الناس قد بدأوا يتبرمون من سياسة عثمان بن عفان في عزل وتولية العمال والتي طبعها تقريب بني أمية وتفضيلهم على باقي المسلمين وقد نقل الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء(الخلفاء الراشدون ) حوارا بين عمر بن الخطاب وأحد الأساقفة جاء فيه : ” قال عمر :الله أكبر ،قال (عمر ): فالذي بعدي؟ قال: رجل صالح يؤثر أقرباءه، قال عمر: يرحم الله أبن عفان.”4 (ص 155- 156 ).
كما جاء في مسند الإمام أحمد :” حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ يَعْنِي ابْنَ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ : دَعَا عُثْمَانُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكُمْ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَصْدُقُونِي: نَشَدْتُكُمُ اللهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْثِرُ قُرَيْشًا عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَيُؤْثِرُ بَنِي هَاشِمٍ عَلَى سَائِرِ قُرَيْشٍ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: لَوْ أَنَّ بِيَدِي مَفَاتِيحَ الْجَنَّةِ لَأَعْطَيْتُهَا بَنِي أُمَيَّةَ حَتَّى يَدْخُلُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ.”5، وقد جاء هذا الحديث بلفظه ولكن دون نقص أو بتر في كتاب تاريخ المدينة لابن شبة والذي سنعرضه في ما يستقبل من الفقرات.

وقد كان بر عثمان بن عفان بأهله أكبر مما كان من النبي الذي لم يقرب أهله من شؤون الدولة إلا ما كان من استعمال علي بن أبي طالب،كما أن النبي قد رفض تسليم مفاتيح الكعبة لأحد من بني هاشم وقد أحبوا حيازتها، كما أن أبابكر الصديق لم يستعمل أحدا من قرابته،أما عمر فلم يول إلا واحدا من بني عدي وسرعان ما عزله،أما عثمان فقد استبدل أقرباءه من بني أمية بباقي الولاة والعمال من الصحابة والسابقين، وبذلك وضع عثمان دون قصد بذور دولة عبشمية أموية حكامها من بيت واحد، كما قال أبو الأعلى المودودي في كتابه” الخلافة والملك”: “…ثم جعل ( عثمان رضي الله عنه ) ابن عمه مروان بن الحكم أمينا عاما (سكرتيرا ) للدولة. مما جعل نفوذه يسيطر على الدولة وما فيها ومن فيها وهكذا اجتمعت السلطات كلها في يد أسرة واحدة… فمجرد الكفاءة إذن لم تكن حجة كافية لأن تخضع الدولة كلها من خراسان شرقا إلى شمال إفريقيا غربا لحكام من بيت واحد.”6.

وما كان للمسلمين الأوائل الذين صحبوا الرسول وعاصروا أبا بكر وعمر وكبار الصحابة السابقين أن يسلموا ويرضوا بأن يحكم “أفراد هذه العائلة الذين ارتقوا في عهد عثمان كانوا جميعا من الطلقاء”8. ولما سار العمال والولاة من بني أمية في الناس سيرة غير حميدة ولا مرضية غضب منهم عثمان غضبا شديدا لما أحدثوه فوصفهم بأخابث خلق الله في الحديث المرفوع عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الذي جاء فيه:” حدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفُضَيْلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: دَعَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِمْ عَمَّارٌ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكُمْ، أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْثِرُ قُرَيْشًا عَلَى سَائِرِ النَّاسِ وَيُؤْثِرُ بَنِي هَاشِمٍ عَلَى سَائِرِ قُرَيْشٍ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: «لَوْ أَنَّ مَفَاتِيحَ الْجَنَّةِ فِي يَدِي لَأَعْطَيْتُهَا بَنِي أُمَيَّةَ حَتَّى يَدْخُلُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ، وَاللَّهِ لَأُعْطِيَنَّهُمْ وَلَأَسْتَعْمِلَنَّهُمْ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ مَنْ رَغِمَ». فَقَالَ عَمَّارٌ: عَلَى رَغْمِ أَنْفِي؟ قَالَ: «عَلَى رَغْمِ أَنْفِكَ». قَالَ: «وَأَنْفِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟» فَغَضِبَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَثَبَ إِلَيْهِ فَوَطِئَهُ وَطْأً شَدِيدًا، فَأَجْفَلَهُ النَّاسُ عَنْهُ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ فَقَالَ:«أَيَا أَخَابِثَ خَلْقِ اللَّهِ أَغْضَبْتُمُونِي عَلَى هَذَا الرَّجُلِ حَتَّى أُرَانِي قَدْ أَهْلَكْتُهُ وَهَلَكْتُ»، فَبَعَثَ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ فَقَالَ: مَا كَانَ نَوَالِي إِذْ قَالَ لِي مَا قَالَ إِلَّا أَنْ أَقُولَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ: وَمَا كَانَ لِي عَلَى قَسْرِهِ مِنْ سَبِيلٍ، اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَخَيِّرَاهُ بَيْنَ ثَلَاثٍ، بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ أَرْشًا أَوْ يَعْفُوَ. فَقَالَ:«وَاللَّهِ لَا أَقْبَلُ مِنْهَا وَاحِدَةً حَتَّى أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشْكُوَهُ إِلَيْهِ». فَأَتَوْا عُثْمَانَ. فَقَالَ: سَأُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ، كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِذًا بِيَدِي بِالْبَطْحَاءِ فَأَتَى عَلَى أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَعَلَيْهِ وَهُمْ يُعَذَّبُونَ، فَقَالَ أَبُوهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكُلَّ الدَّهْرِ هَكَذَا؟ قَالَ: قَالَ: «اصْبِرْ يَاسِرُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِآلِ يَاسِرٍ» وَقَدْ فَعَلْت7″.

وقد كان لهذه البداية ما بعدها من فساد الحكم وانحداره تدريجيا من خلافة راشدة في بضع سنين إلى حكم عضوض ثم جبري يشترط فساد الحاكم وبطانته لدوام حكمه وحفظ مصالح الملإ المتنفذين المنتفعين، وقد تسببت هذه البداية بصورة مباشرة أو غير مباشرة في انتشار الفساد والتوتاليتارية في تاريخ العرب والمسلمين من قبل حكام غلاظ أقرب إلى الحيوانية والوحشية منهم إلى الانسانية متذرعين في ذلك بذرائع تخاطب المشاعر وتدغدغ الوجدان ولكنها لا تمت إلى المنطقية والتعقل بسبب، خصوصا وأن القرآن قد جاء بإطار مبدئي وتوصيات وقواعد ومبادئ عامة وشاملة تشكل تربة صالحة لنبات حكم صالح يحفظ الكرامة والحرية والحقوق لكل أفراد الوطن من مختلف الديانات، وترك بعد ذلك تفاصيل طبيعة الحكم السياسي وجزئياته لاجتهاد الناس وتقديراتهم بما يتوافق ومستجدات كل عصر، ومن ثمة يتميز كل زمان بالنظام السياسي الذي يستوعب قضاياه وغاياته ومقاصده.

وقد كانت عادة الحكام التوتاليتاريين الجارية التدثر بأسمال التدين والحفاظ على بيضة المسلمين، ثم ما يلبثون أن يشقوا – كالثعبان- ثوب الرأفة واللين وينسلخوا منه، وبعد ذلك يعملون السيف ويحصدون الرقاب ولا تعوزهم في ذلك التهمة والظنّة، كما تسندهم وتعضدهم دعوى العصمة التي يتبرأون منها قولا ويعضون عليها بالنواجد فعلا وممارسة، وقد حافظت التوتاليتارية على وتيرة انتشارها حتى أرخت سدولها على طول البلاد العربية وفجرت طوفانا عارما من الفاسدين المستبدين الذين ينشرون الظلم والخوف واليأس في الانسان و”لكي نحارب الشمولية ينبغي أن نفهمها على أنها تمثل النفي الأكثر اطلاقا للحرية”8 ، ومنه تغدو مقارعة الفساد والشمولية والتوتاليتارية استعادة للحرية المطلقة التي ولد الانسان من أجل ممارستها والتمتع بها والالتزام بالمسؤوليات التي تفرضها على الانسان الحر الأخلاقي .

والغريب أننا نحن –العرب- وبمحض إرادتنا نعمل جاهدين مجهدين على تكريس الطاعوية المؤسسة عرفا لا قانونا وفي غياب التعاقد الحقيقي الذي يقتضي ضرورة وجود ثقافة ديمقراطية تبسط الحرية في الاختيار والالتزام في تفويض المسؤولية بدل اعتماد شعار الطاعة والولاء وتقديمه على العلم والكفاءة من طرف أغلب الأحزاب السياسية التي تؤثث المشهد السياسي العربي والتي تحرص على بناء صروح مجد وهمية وبصمة بطولة خيالية ترسمها هتافات جماهير “الفوتوشوب” وافتتاحيات الصحف التي لا يقرؤها إلا أصحابها الذين لا يزالون يسبحون في أحلامهم القديمة غير مهتمين بالشوارع التي غصت بالجراح والهموم والمشاكل حتى أوشكت بلداننا – بسببها – على ساعة الحشر والانحسار، وبلغت السآمة واليأس الحلقوم.
كما أن المشاريع والمعارك النضالية والبرامج الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تقودها حركات وجمعيات المجتمع المدني ينبغي ألا تعمل في إطار استراتيجية عمل فئة من أجل أفرادها، وإنما من أجل المجتمع بنظرة شمولية متكاملة متعالية على الأنانية قادرة على نقد واقع اجتماعي لا يرقى إلى مستوى تطلعات الأفراد والأحزاب والجمعيات، فإذا أجلنا النظر وأرجعنا البصر في مجموع البلدان العربية هل نرى من شيء غير سعي التوتاليتارية بشكل مقنن وممنهج إلى إحداث انفصام بين الشأن العام والشأن الفردي الخاص، وحصر الإنسان بين نار التحكم أو رمضاء الفوضى وبالموازاة مع ذلك مصادرة الوطن وخيراته ومقدراته وترك خزائنه قاعا صفصفا، وقهر الرجل والمرأة وتأسيس منظومة متكاملة للقهر والاستبداد وتهميش الشعوب.

وتشتيت الانتباه عن الوجه السياسي القبيح الكئيب المقيت لهذه الأنظمة الشمولية التوتاليتارية التي وصل معظمها عبر دبابات داست نتوءات الديمقراطية التي كانت آخذة في التخلق والتشكل إبان الثلث الأخير من القرن الماضي، أو تجميله أمام القوى الدولية التي تبارك ذلك حينا وأحيانا تتجاهله وتغض الطرف عنه من أجل ضمان استمرار الشعب في سبات انحطاطه واسترخائه في مستنقع بأساء الفقر وضراء الخوف والجهل.
وعموما فإن التخلص من الحكم التوتاليتاري الديكتاتوري المستبد لن يكون باستنساخ الحكم الفردي الديكتاتوري الذي طبع معظم أيام الأمويين والعباسيين والفاطميين والصفويين والعثمانيين…، ولا بخلق جبابرة جدد من طينة هتلر وموسوليني وفرانكو وستالين وتشاوتشيسكو…كما أنه لا يكون بإخفاء وإغراق جوهر الدين في غلالة كثيفة من الفقه السطحي الذي أعرض عن لب الدين وراح يفتعل المعارك الدونكشوتية والخلافات التي لا ينبني عليها حكم ولا تتأتى من ورائها طائلة، والارتماء في أحضان فقه الحذلقة والتنطع والتيه في الشكليات وتجاوز الجواهر والغوص في القشور، أما القضايا الأساسية والآنية التي لا تحتمل التجاهل والتأجيل فإنهم يتعامون عنها ويتصاممون، وقد أخذتهم العزة بالوهم وأخذتهم سكرة الإحساس بأنهم الأذكى والأرقى والأولى والأحق بالأنفس والأرض وخيراتها.

وبالمقابل لا بد للأفراد والأحزاب من التدافع مع القوى الظلامية التي تبث أفكار الاستئصال ومواجهة دعاة اليأس من الديمقراطية والزهد فيها بذريعة ومسوغ أنها كفر يخرج من الملة أو أنها لم تخلق للإنسان العربي، ومن ثمة الدعوة الخفية إلى الانتكاس والنكوص إلى الوراء والتراجع عن المكتسبات التي كان وراءها جهد جهيد وزمن مديد وعريق عديد، وتخويف الناس من المستقبل من خلال العنف والتخريب والافتراء والبهتان والتآمر وزرع الأشواك في الطريق، وحتى يعم العدل والحرية واحترام كرامة الوطن والمواطن، وتشيع قيم المحبة والرحمة والعفو والتسامح، وحتى لا تضيع الحقوق ويبقى الناس غبارا بشريا خارج سياق التاريخ ينتظر من يكتبه بدلا عنه.

المراجع :
1) – “التنظيم القومي للاقتصاد السياسي” ـ “قضايا تاريخ الحزب الشيوعي السوفييتي” 1971، العدد 12.
2) – ماركس، أنجلس، الأعمال الكاملة ، مجلد 4،
3) – أخرجه ابن سعد ” (تاريخ الخلفاء : عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي : مطبعة السعادة مصر الطبعة الأولى ، تحقيق : محمد محي الدين عبد الحميد ) .
4) – الذهبي – سير أعلام النبلاء ( الخلفاء الراشدون )
5) – مسند الإمام أحمد – مسند العشرة المبشرين بالجنة
6) – أبو الأعلى المودودي – ” الخلافة والملك ”
7) – تاريخ المدينة لأبن شبه
8) Hannah Arendt, Condition de l’homme moderne , éditions Calmann- lévy , 1983