وجهة نظر

الإنسان المقدس أو الإنسان والمقدس: حين تختلط الأمور على ماكرون

الإساءة للرسول و الى الإسلام ليست حدثا استثنائيا ، انما هي أحداث تكرر و تعدد بإختلاف السياقات و الأزمنة و الأمكنة. تاريخ السيرة النبوية يكشف حجم الإساءة و التشهير بالرسول حتى أثناء حياته ، الأمر وصل الى درجة الغدر و محاولات القتل العمدي.

تاريخ الإسلام يكشف ان المحنة جزء من الرسالة النبوية ، هو أمر ينبغي تمثله و التعامل معه، مما يقود الى استنتاج بسيط ان المشكلة ليست في حدث الإساءة ،و انما في التدبير السياسي و الانفعالي للازمة من طرف الرئيس الفرنسي ، و المفروض فيه أنه يحمل على كتفيه تاريخ فرنسا وعقلانيتها.

حدث الإساءة و تداعياته يتيح لنا التوقف عند لحظتين أساسيتين كمحاولة أولية للفهم لحظة موقف الرئيس الفرنسي ، و اللحظة الثانية طبيعة ردود الأفعال المتشنجة و الغاضبة .

اللحظة الأولى : تدبير سياسي منفعل للأزمة من طرف ماكرون.

تصرف الرئيس الفرنسي اتجاه الأزمة كشف عمق الأزمة لا نها المفروض من رجل سياسة ان لا يقترب من المناطق الساخنة ،والتي تشكل الحيز المقدس لدى غالبية المتدينين ،لان أي مساس بالمقدس يعني عدم التسامح و التساهل مع اي معتدي ، وان المهاجم مدنس ينبغي مواجهته و تطهير الأرض منه ، كما ان تطهير ذات العابد المدنسة تحقق عبر التضحية بها فداءا للمقدس .

الأزمة كشفت ان ماكرون و الذي ووصل الى الإليزيه بشكل مفاجئ و غريب ،و خارج انساق الفعل السياسي و الحزب التقليدي سواء ، من الأحزاب الديغولية او اليسارية او حتى المحافظة و اليمينة ،فطريقة تدبيره الإنفعالي للأزمة يكشف انه رئيس بلا عمق ثقافي ، يتيح له تمثل الإرث و التاريخ الفلسفي و استيعاب عظمة الفكر الفرنسي لاسيما بعد عصر التنوير في بعده الديكارتي حيث الفكر شرط الوجود( انا افكر اذن انا موجود.

السياسي الجيد لا يصنع العنف و انما يمنع حدوثه ،أو على الأقل التقليل منه وفق تصورات الفيسلوف الفرنسي إريك فايل Eric weil حين اعتبر ان مهمة الفكر هي مواجهة العنف ، و القضاء عليه عبر بناء نظام المعقولية و محاصرة الفوضى ، و ليس صناعتها أو العمل من خلال توفير سياقات الفوضى من خلال ملامسة المناطق المقدسة للمسلمين ،الأكيد ان الرسول هو المقدس الثاني في عقيدة المسلم بعد الله ،و أن أي اساءة او تنقيص يعني اعلان الحرب.

المفروض في رئيس دولة مثل فرنسا بتاريخها و عمقها الأنواري ان يتمثل عمق الفكر الفرنسي والإرث السوسيولوجي حول علاقة الإنسان بالمقدس ،كعلاقة وجودية مؤسسة على التضحية بالذات و الفناء من اجل المقدس ،لدرجة ان المسلم وهو يبني اماكن تعبده يجعل من المساجد عالية او تقع في اماكن مرتفعة حتى يحس العابدون بالقرب من الله .السوسيولوجي الفرنسي روجي كايوا في كتابه “الإنسان و المقدس “”يجسد هذه الرؤية ويستعيد تصورات دوركايم و مارسيل موس، ويعتبر ان المقدس ليس مجرد تصورات يحملها العابد لكنها طريقة و نمط وجود. فحسب السوسيولوجي الفرنسي روجي كايوا ان المقدّس هو ما يهب الحياة ويسلبها، في آن، و إنه الينبوع الذي تتدفّق منه والمصبّ الذي تضيع فيه.

ماكرون لم يخطئ في حق المسلمين فقط، وإنما اخطأ في حق فرنسا، و في حق تاريخ فرنسا، و الإرث الثقافي الفرنسي حين تجاهل الإنتاج الفرنسي حول ظاهرة المقدس لاسيما أبحاث اميل دوركايم ، مارسيل موس،اوكست كونت ، روجيه غارودي ، روجيه كايوا و اوليفييه روا. و هو ما يقوي فرضية ان رئيس بدون خلفية ثقافية أو على الأقل لا يمارس الفعل السياسي كفعل متعدد الأبعاد .

ربما ماكرون تصرف بمنطق سياسي و ليس بمنطق تدبيري للأزمة، وهو ما يعني الانحياز الى خطاب الشعبوية، و تغذية توجهات اليمين المتصاعد في فرنسا وأوروبا بشكل عام.

غالبية المهتمين اعتبروا تصرف ماكرون بالتصرف شكل و الفج ، و انه كان رد فعل إنفعالي، و هنا كانت المشكلة و عمق المشكلة،أي أنه عوض ان يستوعب عمق اللحظة ويدرك تعقيداتها استسهل الموضوع، و حول الفعل المعقد الى انفعال خطابي متوتر منتصرا و منحازا لخطاب التحدي والاستمرار في ملامسة المنطقة المقدسة و المحمولة في قيم و وجدان المسلمين .ان المساس بالمقدس يعني تغيير منظومة القيم حيت يصبح القتل مقدسا و الموت سعادة فداء للمعبود ، اعتبارا ان الفعل الديني في جوهره هو فعل فدائي من خلال استحضار التجربة الإبراهيمية.

ماكرون حين تصرف في بداية الأزمة قبل ان يستوعب حجم الخراب الذي كاد ان يصنعه، لو استمر في طريق الإساءة لمقدسات المسلمين عبر الإساءة للرسول الكريم ،ربما ماكرون انحاز الى فكرة الإنسان المقدس و ليس الى فكرة الإنسان والمقدس.

إعتبار ان المواطن الفرنسي كائنا مقدسا، وان مهمة فرنسا العلمانية هي حماية كل حقوقه في التعبير و جعله كائنا متعاليا فوق الجميع بما فيها الدولة نفسها ،وهنا يكمن الخطأ الثاني لماكرون حين اعتبر الحرية هي رفع القيود و تبديد المقدسات، و عدم الاهتمام بمشاعر الأخرين و ربما معاداتهم و استفزازهم , الاكيد ان ماكرون لا يدري و لا يستوعب عمق فلسفة سبينوزا وهي الفلسفة التي تعتبر اطارا و مرجعا لبناء الدولة و الديموقراطية , فلسفة جعلت من الحرية مجرد الخضوع للضرورة وليس تجاوز الضرورة ،الضرورة هي الدولة الضامنة للنظام و العقل ، و ليس جعل الدولة في خدمة الفرد و اطارا لممارسة الفوضى و الاساءة الى الاخرين.

العلمانية لا تعني الحرية المطلقة المنتجة للفوضى والعنف ،و انما العلمانية هي النظام الذي يحمي التعدد و الاختلاف و يضمن التعايش على قاعدة الوطن للجميع ،إنها النظام الذي يتيح الفصل بين مؤسسات الدولة والسلطة الدينية. بهذا المعنى فالعلمانية لا تعني مصادرة حقوق الناس و تبديد رأسمالهم الرمزي والثقافي ،و إنما هي إطار للعيش المشترك واحترام خصوصيات مكونات المجتمع .

الإنسان ليس مقدسا ولا ينبغي ان يكون كذلك، لان التصرف بهذا المنطق معناه تقويض اسس العلمانية و التي بموجبها ثم السماح بالاعتداء على مقدسات المسلمين و الإساءة لرسولهم ، العلمانية لست نظاما ارتودوكسيا مغلقا و انتقائيا يسمح بمنح القداسة للبعض على حساب البعض, لكنها النظام الذي يسمح للجميع ان يعيش في إطار الاحترام المتبادل .

الاكيد ان ماكرون غير مستوعب لتاريخ فرنسا، وربما لا يعرف ان السلطة سبق ان منعت عرض مسرحية محمد والتعصب التي كتبها فولتير احتراما لقيمة الرسول محمد ،لدرجة ان نابليون بونابرت قال يوما تمنيت ان اكون شخصا مثل محمد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *