وجهة نظر

خصائص النظام المعرفي عند الفاروقي

أولا :الخصائص العقدية
1 التوحيد

“إن المنظومة العقدية التي بناها القرآن الكريم لبنة لبنة وهتم بسائر عناصرها، وجعل التوحيد أساسها وقاعدتها ومنطلقها إنما أولاها كل ذلك الاهتمام لتكون هذه العقيدة بصفائها ونقائها وتوحيدها وتجربتها، والمسلمات التي تنبثق عنها وقدرتها الأكبر على حل عقد الفلسفة الكبرى والإجابة عما بدأ يعرف بالأسئلة النهائية إنما كان ذلك لتكون العقيدة هي القاعدة الفكرية التي ينطلق منها، وتترجم إليها وتنضبط بها كل أفكار ومفاهيم وأحكام وقيم وموازين الإنسان المسلم، فتكون بذلك عقلية المسلم وسائر مكوناتها من معارف وعلوم وفنون وثقافة وحضارة فلابد أن تظهر وتنعكس آثار هذه العقيدة على الآداب والفنون والذوقيات والوحدانيات التي تأثر في النفسية الإنسانية”[1].

“فإذا كان التوحيد حقيقة مستقلة في ثبوتها عن الإنسان نفسه ولا علاقة لها في وجوده بالإيمان الإنساني به من عدم إيمانه ،ولما كان التوحيد حقيقة من حقائق الوجود كلها فإنها تستمد قيمتها وقدسيتها من ذاتها، وهي مصدر الحقائق جميعا. فهو بالإضافة إلى كون الحقيقة مطلوبة لذاتها بصفتها الحقيقة العليا فإنه يطلب أيضا كما يحدث في الحياة العلمية الإنسانية من آثار تنعكس عليه بالتوفيق والصلاح، فهو يصبغ هذه الحياة بصبغته  أو يضفي عليها من خبرته “[2].

“فإعادة ربط الوحي بالعقل والفكر بالعقيدة، والممارسة بالتوحد تعد من أهم أسس الإصلاح الفكري بعدما انساق الفكر العربي الإسلامي المعاصر وراء النماذج  المعرفية الغربية التي تذهل من معين الوضعية المادية وتفصل بين الفكر و الدين، بين المعرفة والعقيدة وحصل لها ما حصل من حالات التمزق والتشرد والتخبط والتيه في مناهج التفكير والبنيوية و الأنثربولوجيا وما إلى ذلك من مناهج البحث “[3].

“إن حل مشكلات الفكر الإنساني يكمن إذن في العقيدة التي هي قاعدة الأفكار. وعليها ينبني كل تصور عن التصرف في الحياة ونظامها وكل من يرغب في النهضة والتقدم عليه أن يحل هذه الإشكالية العقدية بفكر مستنير ، واستنارة الفكر الإنساني مردها إلى أن الإسلام قائم على قاعدة واحدة هي العقيدة التي تقر بإله واحد هو الله تعالى فوق كل الخلائق الكونية الإنسانية والحياة والذي خلقهم جميعا والذي خلق كل شيء، وما دام أنه متصفا بالخالقية يستحيل أن يكون مخلوقا لذالك فهو قائم بذاته وكل الخلائق تعتمد في وجودها عليه “[4].

2 الشمولية والكلية

يرى ‘الفاروقي’ أن الإقرار بوحدانية الله يلزم عنه منطقيا، أن تكون أوامره متسعة للبشر كافة وكل ما ذكرنا الأمة لتجسيد فعلي للمعرفة هي  إجماع في ثلاثة: الرؤية والإدراك والعقل ،والتي يفترض أن يشارك المسلمون وحدة في هذا الإجماع، وتقتضي الشمولية التي يتضمنها التوحيد تشكيلا جديدا، وبما أن الأمة الإسلامية مجتمع جديد لم يستند في تنظمه على القبلية والعرقية و انتظمت أنفسهم على أساس ديني من هنا كانت العقيدة “هي التي تعطي للإنسان النظرة الكلية الشاملة للكون والإنسان والحياة ، وعلاقة كل منها بالله شانه خالق الكون والإنسان والحياة، وعلاقة الكون والحياة بالإنسان. ودور الإنسان في هذه الحياة وما بعد الحياة ، فتنحل العقدة الكبرى ويجاب على الأسئلة النهائية.”[5]

وخاصية الكلية في تصور ‘الفاروقي’ إنما تعود في أساسها إلى “سعي الإسلام نحو إعادة تنظيم العالم وفق رؤية الإنسان للحقيقة وتصوره لنفسه وذويه وذريته ، وعلى أساس يكفيه من مصيره النهائي ومصير الجنس البشري عامة ، وفي كل ما يكون الدين “[6].

وهذه الخاصية بحدها واضحة في الإسلام الذي رضيه الله تعالى لناس دينا فهو دين شامل كامل ولم يترك جانبا من جوانب الحياة الفردية والاجتماعية إلا وقد نضمه تنظيما دقيقا شاملا لجميع النواحي، يبتعد به عن النظرة التجزيئية القاصرة التي ترى فيها الأشياء أجراء لجوانب موزعة من شيء أصله متكامل مترابط “[7]. 

“ثم إن كليات النظام المعرفي تنحصر على ما يجري من فعالية بشرية معاصرة وعلى أهداف هذه الفعالية فحسب، إن كليته تتضمن الفعاليات في كلها زمان ومكان على البشر القائمين بها باعتبارهم أعضاء لازمين بهده الكلية، وتتجسد صفته الكلية هذه على المجتمع إذ أن هذا أخير ليس له محدودية لسبب عدم محدودية الحياة والفعالية في هذه الدنيا”[8].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ثانيا : ابستمولوجييا
1 التكامل

يشير ‘الفاروقي’ في ‘كتابه أطلس الحضارة الإسلامية’ إلى أن المعرفة لا يمكن أن تستند إلى العقل فقط، ولا إلى التجربة فحسب ، ولا إلى الحدس وحده ،إذ أن كل واد من هده الأدوات لا يتناول الواقع ككل وإنما يشير إلى ميدان من ميادينه،فتكون معرفة واقعية ، جزئية لا كلية ناقصة غير مكتملة “إن العلم في الإسلام إدراك عقلاني تجريبي وحدسي لكل ميدان من ميادين الواقع وهو معرفة نقدية  للإنسان والتاريخ بالأرض والسماء.

نلاحظ في هذا التعريف أن ‘الفاروقي’ جمع العقل والتجربة والحدس ” وهو تكامل منهجي شامل في مصادر المعرفة ، وفي أدوات المعرفة ، وهو أيضا تكامل بين المصادر والأدوات، ويقوم التكامل المعرفي على أساس الفطرة و الضرورة ،والتنوع ظاهرة نظرية أصيلة لابد من القبول بها واستمرارها، والضرورة نابعة من الحجة الملزمة إلى التعاون والتكامل ” [9]. وعلى العكس تماما ففي منظور النظريات الغربية في غالبها بحيث هناك ثلاثة مناهج للبحث أساسية وهي المنهج العقلي، المنهج التجريبي والمنهج الحدسي.

فقضية التكامل المعرفي، من حيث أنها ترتبط بالنشاط الفكري و الممارسة البحثية وطرق التعامل مع الأفكار ، ولكن معالجة قضية التكامل المعرفي ومنهج هذه المعالجة سوف يحددان الحقل المعرفي الذي يمكن أن تصنف فيه هذه القضية ، فقد يصنف التكامل المعرفي في الحقل الفلسفي أو في فرع أو أكثر من فروع الفلسفة: علم الوجود أو علم المعرفة أو علم القيم، ويأخذ في هذه الحالة بعدا نظريا تجريديا وقد يصنف أيضا واحدة من حقول النشاط الحضاري للمجتمع”[10].  وقد”أفرد ‘الفاروقي’ كتابا مستقلا عن التوحيد بين فيه تكامل الرؤية التوحيدية وجمعها بين الأبعاد الحضارية: النظرية الفلسفية العلمية التصنيفية، وتمتزج ملاحظاته لقضية الوحدة والتكامل بين فروع المعرفة بقدر واضح من التحقق من أعمال التي عرفها  التراث الإسلامي بسم الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام وينصرف جهده في هذا الشأن إلى التحريض على إصلاح الفكر الإسلامي المعاصر “[11].

“وقد تحقق التكامل المعرفي في هاتين القراءتين ( المتدبرتين المتلازمتين ) من خلال الجمع بين جوانب الكون والمادة( مثلا الأشياء والأحداث والظواهر ) والكون الاجتماعي مثلا ( سنن التغيير والتدافع والتداول ) والكون النفس مثل (الهدى والفجور والإيمان والثقافة والكفر)، والجمع بين الوحي القرآني والسنة والرواية والدراية، والجمع بين توظيف أدوات المشاهدة الحسية، فعل العقل والإدراك والفهم والتغيير والجمع بين جوانب الشهادة في الكون المنظور والكتاب المسطور وجانب الغيب في أصل الكون وصيرورته وفي الوحي، أخباره ورواياته”[12].

2 النسبية

إن العلم الحديث يعترف بأن المعرفة النهائية والفهم الكلي واليقيني حول الحقيقة لن يتحقق أبدا ويقدم حقيقة جديدة هي أن الكون ليس في حالة بسيطة ثابتة مجزئة لا معنا له كآلة التي لا عقل لها وأن الإنسان في طريق الصدفة والعشوائية ، وإما يبدو الكون متصلا ببعضه وينموا بطريقة واعية، ونظام الحقيقة فيه متكامل في خصائصه والإنسان في وسيلة الحقيقة الغرد من خلق الكون حيث يبدو العقل الإنساني أكثر الأشياء تبدوا للإنسان تعقيدا في هذا الكون. ويمكن الإدعاء بأن العلم الجدير بهذه المسألة القوية التي يقدها عن الحقيقة الجديدة”[13].

فالدراسات والأبحاث ونتائج العلوم تشير إلى أن “الواقع الإنساني مركب وثري، فهو يتولد عن إمكانيات كامنة لا يمكن أن ترصد بشكل علمي مادي، بل إن كل مخلوقات الله مهما كانت بساطتها لا يمكن فهمها بشكل كامل مطلق. وهذا ما يعبر بقولنا إنها تحو عناصر من الغيب والغيب من هو غير المادي ، الذي لا يقاس ولا يمكن إدخاله في قضية وقضيضه في شبكة السببية الصلبة الواحدية المادية ، فالمحدود والمجهول موجودان في صميم الظواهر الإنسانية والطبيعية .وذا سيطمح العلم إلى التوصل إلى قدر معقول من المعرفة يسمح بتفسير قدر كبير من الوقائع دون تفسيره كله”[14].

يقول ‘الفاروقي’ في هذا الشأن ” يؤكد الإسلام بشدة أن الطبيعة مستمرة ومنتظمة كالتي نجدها متمثلة في الخليقة يمكن أن تكون موضوعا لمعرفة بشرية. فهي أولا يمكن ملاحظتها وقياسها لأنها تدل وفقا لقوانين وتساق يعينها وقد تأتي المعرفة البشرية هذه الأنساق الأزلية مؤقتة وغير كاملة دائما ولن تمنع عن كشف أسرارها إي الأنساق الإلهية أمام من يحاول معرفتها”[15].

لما كانت ملكات الإنسان الإدراكية متفاوتة من جانب وهي الشخص الواحدة متدرج ومتطور من جانب آخر، فإن مجال النسبية يكون فيها كبيرا من حيث اكتشاف حقائق الأشياء وخصائصها لفهم كيفا وكما خاصة وان الطبيعة في البحث العلمي تتطلب قيام بإجراءات دراسية على أجزاء محدودة من الكون وظواهره دون إلمام بكافة الجوانب المتصل بموضوع بحث والمؤثرة عليه من هنا فإن الحقائق التي يتوصل إليها الباحث تتسم بأنها جزئية ونسبية وليست كاملة أو مطلقة لصدق اليقين”[16].

[1]العلواني طه جابر “ابن تيمية واسلامية المعرفة “، الدار العاميةللكتاب الإسلامي، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى 1415/1994 ،ص28
[2]النجار عبد المجيد ” الإيمان والعمران”ص39
[3]بو الشعير عبد العزيز “النظام المعرفي في الفكر الإسلامي المعاصر الفاروقي إسماعيل نمودجا “ص207
[4]نفس المصدر ص128
[5]العلواني طه جابر ” ابن تيمية وإسلامية المعرفة “ص29
[6]الفاروقي إسماعيل “التوحيد:مضامينه على الفكر والحياة “ص185
[7]ضميرية عثمان جمعة “مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية “، تقديم عبد الله بن عبد الكرم العبادة،الطبعة 2 1417/1996 ص389
[8]بو الشعير عبد العزيز “النظام المعرفي في الفكر الإسلامي المعاصر الفاروقي إسماعيل نمودجا “ص211
[9]فتحي حسن ملكاوي “منهجية التكامل المعرفي مقدمات في المنهج الإسلامي “ص15
[10]فتحي حسن ملكاوي “مفاهيم فيالتكامل المعرفي” موقع إسلامية المعهد العالمي للفكر الإسلامي الأردن.
[11]فتحي حسن ملكاوي “منهجية التكامل المعرفي مقدمات في المنهج الإسلامي ” ص28
[12]العلواني طه جابر “العقل موقفه من المنهجية الإسلامية” مجلة إسلامية المعرفة، العدد السادس،1996 ص11
[13]فتحي حسن ملكاوي “مفاهيم فيالتكاملامعرفي” موقع إسلامية المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الأردن.
[14]عبد الوهاب المسيري ” التميز في النمودجالحضار “ص 62
[15]القروقي إسماعيل و الفاروقي لمياء “أطلس الحضارة الإسلامية ” ص457
[16]مجهولة المصدر