وجهة نظر

التنمية الاجتماعية بالمغرب، أي حضور لمفهوم الدولة الراعية؟

إن الحديث عن المسألة الاجتماعية بالمغرب مرتبط أساسا بسياقات مجتمعية محددة ومراحل تاريخية مفصلية، من المهم جدا استحضارها لفهم طبيعة هذه المسألة وتناقضاتها المختلفة، ولا ينبغي الاكتفاء في هذا الإطار بسرد الأحداث والوقائع والسياسات الاجتماعية وتناولها تناولا تاريخيا سطحيا، بل ينبغي النفاذ الى عمق الأشياء ودراسة هذه الوقائع من منطلق التحليل والتفسير بعيدا عن المقار ” الرسمية ” التي تعتمدها كل التقارير الصادرة عن مؤسسات الدولة وهيئاتها الاستشارية .. وتبرز أهمية هذا الموضوع في سياق مناقشة “النموذج التنموي” الجديد والمعالم الكبرى لهذا النموذج، التي تم تحديدها في الخطاب الملكي في افتتاح البرلمان خلال السنة التشريعية الثانية من الولاية العاشرة، وفي سياق كذلك الانعكاسات الاجتماعية لجائحة كورونا فيروس المستجد..

من هذا المنطلق لا بد من الإشارة الى أن مفهوم “التنمية الاجتماعية” بدأ في الخمسينيات من القرن الماضي الى جانب مفهوم التنمية الاقتصادية، أي انعكاس الزيادة في انتاج الثروة وارتفاع معدلات النمو الاقتصادي على الحياة الاجتماعية للأفراد والمجتمعات، بصيغة أخرى؛ الوقع الاجتماعي للنمو الاقتصادي، بعدها أصبحنا نتحدث عن مفهوم التنمية الشاملة، أي التنمية التي تأخذ بعين الاعتبار جوانب متعددة ومختلفة؛ كالبعد الثقافي والاجتماعي والعادات والتقاليد وغيرها ..

لذلك نجد الاقتصادي الفرنسي فرونسوا بيرو في نص تحت عنوان، ما هي التنمية؟ يعرف التنمية بكونها “عملية التأليف بين كل هذه المتغيرات؛ النفسية والاجتماعية لشعب ما، والتي تجعله قادرا على الزيادة التراكمية والمستدامة في ناتجه الحقيقي والاجمالي”

أما الاقتصادي الهندي أمارتيا صن فيعرف التنمية بكونها، “عملية توسيع مجال الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس”، من خلال تعريف بيرو وصن، يمكن الحديث عن ظهور مؤشرات جديدة للتنمية تجاوزت المنظور التقليدي والكلاسيكي، كتوسيع مجال الحريات والمشاركة الفعالة للمجتمع المدني والديمقراطية ومدى مشاركة المواطنات والمواطنين بشكل فعلي في العملية التنموية..

إن تناول هذه المؤشرات من طرف مفكرين واقتصاديين أدى إلى اعتمادها من طرف مؤسسات الأمم المتحدة، خصوصا في تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي PNEUDلسنة 1990، والذي عرف بدوره التنمية بكونها، “فتح مجال الممكنات التي يتمتع بها الناس”، أي الحد الأدنى من البنيات الاجتماعية الأساسية والخدمات الإنسانية الضرورية والأخذ بعين الاعتبار الرأسمال الثقافي والاجتماعي والمؤسساتي للشعوب والمجتمعات.

ولذلك تبقى المقاربة العلمية والمعرفية لمسألة الفقر والتنمية مغامرة ابستمولوجية لا تخلو من مخاطر منهجية، على اعتبار أن المسؤول الأول عن محاربة الفقر هي الدولة والمسؤول الأول عن التنمية هي الدولة، فكيف إذن تقارب الدولة المسألة الاجتماعية بالمغرب ؟ وما هي حدود تدخل الدولة في هذه المسألة ؟ والى أي حد أدت جائحة كورونا الى عودة “الدولة الراعية” الى واجهة العمل الاجتماعي بالمغرب ؟ ثم ما هي افاق برامج السياسة الاجتماعية بالمغرب ورهانات الفاعلين؟

انطلاقا مما سبق، يمكن القول بأن التنمية الاجتماعية ليست عملية ميكانيكية ألية بقدر ما هي سيرورة تراكمية تعتمد على مدخلات ووسائل للوصول الى مخرجات ونتائج، هذه العملية التراكمية تأخذ بعين الاعتبار ـ ليس فقط ـ الفئات الاجتماعية الهشة والفقيرة، بل تتجاوز ذلك الى ضمان تنمية الثروة والزيادة في الإنتاج، فكلما تقلصت التفاوتات الاجتماعية داخل المجتمع وكلما ارتفعت مؤشرات التعليم والتمدرس والصحة والتشغيل، كلما انعكس ذلك على المستوى الاقتصادي وارتفاع معدلات النمو.. كما أن المسألة الاجتماعية تظهر تناقضاتها بشكل جلي وواضح في فترة الأزمات والمنعرجات الاجتماعية التي يعرفها المغرب من حين لآخر..

فمنذ استقلال المغرب سنة 1956 كان الهاجس الاجتماعي حاضرا لدى الفاعل الرسمي باختلاف رهاناته السياسية والأمنية، رغم محدودية موارد الدولة وارتفاع النفقات العمومية وضعف تنافسية الاقتصاد الوطني، فخلال مرحلة ما بعد الاستقلال مباشرة الى حدود سنة 1970 كانت هناك محاولات “لهيكلة الحقل الاجتماعي” ومأسسته، من خلال مؤسسات عمومية كالتعاون الوطني سنة 1957 والانعاش الوطني سنة 1961 وإحداث صندوق المقاصة وعدد من برامج التغذية والماء الصالح للشرب والكهرباء بالعالم القروي وبرنامج الأولويات الاجتماعية .. إلا أن هذه البرامج والمؤسسات كانت مرتبطة أساسا بتقديم الدعم المباشر للفئات الأكثر فقرا وهشاشة من أجل استقرار المجتمع وتوفير شروط استمراريته نظرا للتحديات السياسية التي تواجه الدولة في هذه المرحلة من جهة، ومن أجل الضبط الاجتماعي وحضور الهاجس الأمني من جهة ثانية..

كل هذه الأحداث أدت الى ما سمي ببرنامج التقويم الهيكلي سنة 1982 نتيجة فرض توجهات اقتصادية واجتماعية على المغرب نظرا لعجز الحكومة عن تسديد ديونها لصندوق النقد الدولي، هذه التوجهات يمكن اختصارها في ثلاث أمور أساسية :

ـ القيام بإصلاح ضريبي وجبائي
ـ رفع الدعم عن القطاعات الاجتماعية الغير منتجة
ـ الرفع من ميزانية الاستثمار

التقويم الهيكلي سيؤدي فيما بعد الى إشكالات حقيقية داخل المجتمع وصفها الراحل الحسن الثاني بالسكتة القلبية التي أوشكت على الوقوع…

من خلال ما سبق يمكن القول بأن مقاربة المسألة الاجتماعية بالمغرب خلال هذه المرحلة كان يتميز بالحضور الفعلي للدولة من منطلق “الدولة الراعية” الفاعل الوحيد في السياسة الاجتماعية..

إلا أن الوضع لم يستمر على ما هو عليه، نظرا لعدة أسباب، منها ما هو داخلي كبداية تشكل ما يسمى “بالعهد الجديد” وظهور مستويات جديدة للتعامل مع المسألة الاجتماعية، ومنها ما هو خارجي يرتبط أساسا بمحطتين مهمتين؛ الأولى تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لسنة 1990 والحديث عن مؤشرات وأبعاد جديدة للتنمية، والمحطة الثانية ترتبط بمؤتمر كوبنهاكن سنة 1995 الذي تمخضت عنه أهداف الألفية والمغرب من بين الدول الملزمة بهذه الأهداف ..

هذا السياق الداخلي والخارجي تمخضت عنه سياسة اجتماعية بمؤسسات وبرامج جديدة، كتأسيس وكالة التنمية الاجتماعية بتاريخ 6 أكتوبر 1999 بتوصية من البنك الدولي، كمؤسسة عمومية تعنى بتنزيل السياسات الحكومية في المجال الاجتماعي، مهمة الوكالة هي محاربة الفقر والهشاشة من خلال دعم الفاعلين المحليين بشكل مباشر أو عبر الجمعيات والتعاونيات والجماعات الترابية .. من خلال إطار ومحاور استراتيجية وخلق التقائية تدخلات الفاعلين على المستوى الترابي، ما يميز هذه المؤسسة هو توفير اليات لاشتغال الفاعل المحلي من أجل تنشيط وتنمية المجال وتعبئة موارد وكذا تفعيل دور الوساطة بين الفاعلين ومؤسسات الدولة.. كما تم الإعلان عن مبادرات في المجال الحقوقي كتأسيس هيئة الانصاف والمصالحة لجبر ضرر المتضررين من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان.. خلال هذه المرحلة كذلك تم تأسيس الوكالة الوطنية للتشغيل والكفاءات تحت وصاية وزارة التشغيل تعنى بمواكبة وتوجيه الشباب للاندماج في سوق الشغل وكذلك إحداث مؤسسة محمد الخامس للتضامن، كما تم الإعلان عن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في 18 ماي 2005 كمشروع وطني الغاية منه محاربة الفوارق الاجتماعية ودعم الفئات الفقيرة والهشة من خلال برامج ومحاور اسراتيجية..

في هذا الإطار يمكن أن نقول، بأن هذه المؤسسات وهذه البرامج بالرغم من الوقع الاجتماعي الذي تحقق لدى الفئات المستهدفة في مستويات مختلفة ومتفاوتة، إلا أنه لا بد من تسجيل ملاحظات في الحصيلة الاجمالية والأثر الاجتماعي بشكل عام، وهي الملاحظات التي قدمها الملك في خطاب العرش لسنة 2018 والمتعلقة أساسا بغياب رؤية موحدة للمسألة الاجتماعية بالمغرب، وغياب كذلك التقائية تدخلات الفاعلين المحليين على المستوى المجالي، فمع تعدد البرامج والسياسات الاجتماعية نجد غيابا للأثر والوقع على الحياة الاجتماعية للأفراد والأسر الفقيرة والهشة، ودعا الخطاب الملكي الى إعادة هيكلة المؤسسة التي تشتغل في المجال الاجتماعي وإحداث ما يسمى بالسجل الاجتماعي الموحد..

حاولت الدولة إذن الاشتغال على المسألة الاجتماعية من منطلق الشراكة مع باقي الفاعلين، الجمعيات، التعاونيات، المنظمات الغير حكومية، الجماعات الترابية.. إلا أن الأزمة الصحية الأخيرة وإعلان حالة الطوارئ الصحية وجدت الدولة نفسها ملزمة من الناحية السياسية بالتدخل لحماية بعض الفئات المتضررة من إجراءات الطوارئ الصحية، من خلال تقديم دعم مباشر للأسر المتضررة وبعض الوحدات الاقتصادية في المجال السياحي، وتقديم اللقاح بشكل مجاني، وكذا الإعلان عن إجراءات للحماية الاجتماعية؛ كتعميم التغطية الصحية مع بداية السنة القادمة، وتعميم التعويضات العائلية والتعويض عن فقدان الشغل فيما بعد..

نخلص في الأخير الى أن المسألة الاجتماعية بالمغرب كانت ولا تزال محط نقاش مختلف المتدخلين والباحثين والفاعلين، نظرا لحساسيتها والرهانات المتعددة للفاعلين من خلالها، لذلك كانت تتراوح بين الوجود الفعلي للدولة في تدبيرها وبين مبادئ اقتصاد السوق، وبين هذا وذاك تغيب رؤية واضحة وشاملة للسياسة الاجتماعية وهو ما أفضى الى غياب حكامة هذه البرامج الاجتماعية والتقائيتها..

* خالد وخشي، باحث في علم الاجتماع 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *