منتدى العمق

خطاب ترامب: “أمريكا أولا”، وخطاب أوباما: “أمريكا أقوى”.. ما الفرق؟

وبين الشعارين، “أمريكا أولا” و”أمريكا أقوى”، ما هو الفرق؟ وما هو الثمن الذي دفعه ولازال سيدفعه الفقراء و الضعفاء والبسطاء، في الداخل الأمريكي وعبر العالم، اعتبارا على أن أمريكا قُـوَى عالمية، وسياساتها، لها تقريبا ما يُشابه التأثير المباشر على سياسات الكثير من الدول، على وجزء كبير من أموال واستراتيجيات اقتصادياتها؟؟

يُقال في التراث العربي، “من يستطع لجم أعرابي من خشونة لسانه؟ فهل سيتخلى السيد دونالد ترامب، عن كل عباراته “الشعبوية” و”العنصرية” التي كان يتلهف بها عقول ناخبين، لم يُعجبهم أوباما، وحتى قادة عسكريين كُثر، وأطرا عليا، تريد من يثور على النخب السياسية التقليدية، ويبحث كذالك عبر كل أمريكا، عن كل من يكون قد خاب ظنه في الطبقة السياسية الأمريكية، والتي كان إعلامها، لا يبدي ارتياحا، لترشيح رجل، لا تربطه بالسياسة غير الصفقات المالية والتفاوض على الضرائب والبحث عن الفرص، بل كانت مؤسسة “الفوكس نيوز”، تُبدي قلقها الواضح من ترشيحه، وجل “التروستات” والماكينات الإعلامية، كانت إلى جانب غريمته السياسية، مُرشحة الحزب الديمقراطي، السيدة “هيلاري” كلينتون، ولعجيب القانون الإنتخابي الأمريكي، بالرغم من حيازتها لأكبر نسبة من الأصوات، وبفارق واضح، يزيد عن المليونين من الأصوات الناخبة، إلا أن نظام الناخبين الكبار في تمثيلية الولايات، هو الذي منح التفوق، لـ السيد دونالد ترامب..

في جو لم تشهده تنصيبات رؤساء أمريكا السابقين، ولج السيد ترامب حارة البيت الأبيض، وسط احتجاجات شعبية منظمة، ومدنية جد قوية، ضد فوزه وتقلده الرئاسة، بل هناك من يصرخ من المتظاهرين، “لازلت لم أستوعب بعد، من أن مثل هذا الشخص -العصبي- قد وصل إلى أعلى سلطة”، تقول أخرى، “لن نسمح بأن نرجع إلى الوراء”. إنه مُلخص الهلع الذي يتوقعه البعض المناوئ للسيد ترامب في القادم من الأيام، خصوصا عندما نستقي من خلال تصريحاته وخطبه، عبارات تفتقد اللياقة، كررها لأكثر من مرة، فهل ستتغير صياغة الخطب، وينأى عن عبارات الإستفزاز، بل ويبدى كياسة وشجاعة أكبر، يرتقي بها إلى مستوى رجل المؤسسات وليس الرجل “الفرد”، رجل المصالح، على الرغم من أن الروائي عبد الرحمان منيف، يقول ” أعرف أن الحكومات تختلف كثيرا عن الأفراد، حتى الذين يكونونها، لأنها لا تؤمن بالعلاقات الأبدية، ولا تعرف شيئا يسمى الوفاء، ولا تقيم وزنا للكلمات و العواطف، وأن ما يحركها ليس المبادئ وإنما المصالح، لكن مع ذلك، هناك ما يسمى اللياقة، والمجاملات، وهذا ما تدعيه الحكومات دائما وتحرص عليه في علاقاتها مع الحكومات الأخرى، وحتى مع الجماعات و الأفراد. ..أعرف هذا كله، ولكن أن تبلغ الأمور هذا الحد، فلا بد أن خللا كبيرا موجود في مكان ما، في الأفراد و الأفكار و العلاقات، ولذلك يجب أن ندفع الثمن، وغالبا ما يدفع الثمن الفقراء و الضعفاء”…؟!

-1- الإستهلال:

استهل أول كلماته بالشكر، “للرؤساء السابقين والحضور والمستمعين عبر العالم”، دلالات كثيرة، يحملها هذا، هو أن أمريكا قوة عظمى ورئيسها الجديد كما السابقون، سياساته ستؤثر على العالم. إلى ذالك أفصح عن التحديات والأسئلة التي يجب أن يُجاوب عليها، كرئيس وكإدارة جديدة، ولم يفته شكر الرئيس السابق السيد أوباما وعقيلته السيدة ميشال، على الإنتقال السلس للسلطة، كرمزية لعراقة المبادئ والقيم وسيادة القانون والديمقراطية الأمريكية في أسمى تجلياتها، وهو الآن على رأس مؤسسة الرئاسة.. !!

-2- السياسة الداخلية بنفحة شعبوية، والهجوم على النخبة “Establishment”:

ومن أول ما تلقفه الحاضرون، هو رؤيته للسياسة الداخلية المقبلة، هجومه على النخبة السياسة في العاصمة، يقول: “في واشنطن الساسة يزدهرون” والشعب يعاني، و”Establishment تحمي نفسها”، ولكي يفتح المزيد من الهجوم على النخبة التي كانت ضد ترشيحه، ويفتح أقواس الأمل لعموم الشعب وخصوصا ليرضي الذين صوتوا عليه، يقول: “يوم التنصيب يومكم… والولايات المتحدة بلدكم انتم”، يجب أن “يتحكم الشعب بالحكومة”، وهنا يمر للنبض عن اهتمام الفئات البسيطة من الشعب الأمريكي، “ألامهم هي آلامنا، أحلامكم هي أحلامنا، ونجاحكم سيكون نجاحنا، ونشترك في منزل واحد، وقدر رائع واحد…”، فهل عقلية –الإمبريالي- المليونير والرأسمالي تؤمن طبعا بكل هذا؟ كم نتمنى حقا، أن يوافق الخطاب صدق النية… !!

-3- في السياسة الخارجية، اعتماد الحمائية والإنغلاق:

يمتعض بقوله، “لعقود فقدنا مصانع، وصرفنا ترليونات وراء البحار”، وأهملنا البنيات التحتية في بلادنا، بل سقطت تلك البنيات، ودفعنا عن بلدان أخرى بعيدة، وأغنينا تلك البلدان، وملايين العمال فقدوا عملهم و”سرقت الطبقات الوسطى، ومسروقاتهم توزعت عبر العالم”، وفُقد الأمل والأمن، كان ذالك من الماضي، ولكن من هذا اليوم، “نظرة جديدة ستحكم أرضنا”… “أمريكا أولا”. ألا يبدو هذا كلام عادي جدا، إن لم أقل كلام عاطفي، وكأن الرجل لازال في منبر انتخابي وليس في منصب المسؤول الأول، لأقوى بلد في العلم.. !!

-4-ما هي النظرة الجديدة؟

-أ- داخليا: حماية الحدود وإعادة الثروة إلى داخل أمريكا، هي “نظرة جديدة” يقول، وهي “أمريكا أولا”، في علاقة دولة الولايات المتحدة بالخارج. يُضيف، “الضرائب ستكون لحماية العمال وحماية الحدود، حماية لأمريكا ووظائف الأمريكيين، ويؤكد على أن “حماية الحدود” ستكون في صالح أمريكا، “سأكون محاربا لأجلكم، ولن أخذلكم”، ويوثر أنه سيعيد “الوظائف والثروات والأحلام الأمريكية”، بإقامة البنيات التحتية وبإعادة “تشغيل المصانع، التي أصبحت كالقبور”، و عزمه سن “قوانين بسيطة”، لإعادة “بناء أمريكا بأيادي أمريكية”.. لكن كيف، هل بحماية الحدود والإنغلاق فقط؟؟ والنظام الإقتصادي الأمريكي، أخطبوط امبريالي حتى النخاع، ولا يتنفس إلا عن طريق الأوكسجين الخارجي، ورواج الورقة المالية الخضراء كمرجع مالي دولي…؟؟

-ب- خارجيا: يقول ترامب “سنسعى للصداقة مع الكل.. لأنه من حق الأمم التعاون، ولن نفرض طريقة حياتنا على أي كان، ولكننا سنشع، كمثال، لِـ يُتبع من طرف الجميع” مع اعتبار مصالح بلاده أولا، ودعوة العالم الإنساني إلى الإتحاد ضد “الإسلام الرادكالي”، هل في هذا استمرار لسياسة المحافظين من الجمهوريين ولمقولة الرئيس بوش الإبن، “معنا أو ضدنا”؟؟

وهنا عرج في خطابه المرتجل هذا، على عزمه على تقوية القوانين لـ “اجتثاث الإسلام الرادكالي من الأرض”. و السؤال الكبير الذي سيبقى عريضا، كيف سيتم هذا الإجتثاث؟؟ هل سيتم باقتراف نفس الأخطاء الدموية الجسيمة، لأسلافه الرؤساء من الحزب الجمهوري في حق شعوب ودول المنطقة العربية والشرق الأوسط، والتي ستبقى تعاني منها لعقود وعقود، وبالرغم من تواضع مداركه السياسة، ترامب نفسه، اعترف مثلا، أكثر ما مرة، بخطإ غزو العراق، والتخلص من الرئيس صدام حسين؟

-5- ترامب المسيحي المحافظ، يظهر في ذروة الخطاب راديكاليا أكثر:

وبعدما كرر عبارة “الحماية لأكثر من مرة يأتي ليقول: “عندما تفتحون قلوبكم للوطنية، ليس هناك مجال للطمع”، والكتاب المقدس يخبرنا، كم من الجيد، حين شعب الله، يعيش معا في وحدة”، و”حين تكون الولايات المتحدة مُوحدة، لا يمكن لأحد أن يُوقفها”، يجب أن لا يكون هناك خوف، “سنكون محميين من قبل رجال ونساء عظماء في القانون وفي الجيش.. سنكون محميين من قبل الله”، لن نقبل الساسة الذين كل أحاديثهم خالية من الأعمال”، “وقت الكلام الفارغ انتهى، الآن ساعة العمل”، “إننا أمام ولادة جديدة”، “نكتشف أسرار الفضاء” و “نحرر الأرٍض من الكوارث والأوبئة”، “تظهر صناعاتنا الجديدة في الغد” “سيعود الفخر الوطني”، “لا فرق في تنوع بشرتنا… في عروقنا تسري دماء الوطنية الحمراء”، “لكل الأمريكيين… من المحيط إلى الآخر، من السهول و الجبال.. سنجعل أمريكا قوية مجددا.. غنية مجددا عظيمة مجددا…. بارك الله الولايات المتحدة… شكرا لكم… بارك الله أمريكا”. 

-6- هل يمكن القول بأن الجديد، ينحصر في الشخص والخطاب، أما السياسة فإنها نفسها ولكن ب “With new look”

هذا هو أهم ما جاء في خطاب “التنصيب” للرئيس الخامس والأربعون، للولايات المتحدة، السيد دونالد ترامب، في أول يوم يدخل فيه البيت الأبيض في العاصمة الأمريكية واشنطن، هل هي نفسها سياسة أمريكا مع اختلاف الوجوه، لأنها سياسة مؤسسات وليست سياسة أشخاص، هل هو اختلاف الأسلوب، بالنظر، إذا قارنا مضمون ذات الخطاب، مع خطاب الوداع، بمدينة شيكاغو، قبل عشرة أيام، مساء يوم الحدي عشر من شهر يناير2017، المعقل الانتخابي لسلفه من الحزب الديمقراطي، السيد باراك، والذي كان فيه، عبر فقراته، المكتوبة والمرتجلة، سياسيا وحكيما وإنسانيا ورومانسيا، بل وبالرغم من الدموع التي اغرورقت بها عيناه ، كان أستاذا أكاديميا، في العلوم السياسية، وكان رئيس دولة “مثالية في القيم”، وكان معلما في التربية الوطنية، وكان مناضلا سياسيا في حزب سياسي، وكان حقوقيا، “يدافع عن قيم وحقوق إنسانية الإنسان”، مُنافحا عن علم ومعرفة، عن المثل العليا للحرية عبر العالم، وكان أبا رائعا في الأسرة، وكان عشيقا متواضعا حنونا في قلب امرأة، مجنونا بها حد البُكاء، وذرف الدموع أمام الملأ، وفي كل ذا وذاك، كان بـ قلب رجل، بقلب إنسان وإنسانية مثقف…. لكن كل هذا في أمريكا ولأمريكا، بل كان أوباما، مافتئ يُكرر، عبارة تركت “أمريكا أقوى” بل بها أنهى الخطاب، ولم يتمكن حتى من التفوه ولو تَمنيَا: القول “أردت أن أترك أمريكا أعدل ولكن لم أتمكن؟؟ و ماذا عن سياساته الخارجية، في فترة حكمه، خصوصا في بعض دول العالم العربي، التي تركها تحترق بنار قد اشتُعلت في عهده، ضدا على رغبة نسيم رياح “الربيع العربي” الشبابية ، التي كادوا لها، لتصبح وباءا على المنطقة، بل خريفا تتساقط به الدول وتحترق مقدرات شعوبها لتصبح رمادا أجاجا وجروحا غورا، وبعضها، كان قد اشتعل على يد إدارة من سبقوه من الرؤساء.. ؟؟

خـتـاما، يبقى السؤال الجوهري العالق، وبالنظر إلى كل ما نلاحظه من تغيير الخطابات في سياسات رؤساء الولايات المتحدة، ألا يمكن باستقراء وجرد عميق عبر العقود الأخيرة، نستشف أنهم يتوفرون على تنافس حاد حول برامج السياسة الداخلية لأمريكا، عكس ما يريدونه خارجيا، حيث تبقى نفس الأهداف السياسة ولو بعناوين مُتغيرة، و لكن باستراتيجيا مختلفة من وقت لآخر، عنوانها الأهم، “نحن الأقوى” (خطاب أوباما مثلا)، و”الباقي ضعاف”، لذلك لابد وأن تكون “أمريكا أولا” (خطاب ترامب كتأكيد)، والعالم لابد أن يخضع لسياستنا، “حسب ما نريده”، غير أن التغيير والنقد، ونقد النّقد، لا يجب أن يكون إلا في تكتيكات التواصل السياسي و الآليات التنفيذية والخطاب المُسوق لتلك الآليات فقط، بين فترتي تناوب منتخبي الحزبين، الجمهوري والديمقراطي،مُراعاة لنيل رضا الشعب الأمريكي داخليا “حسابات انتخابية”، ولكسب الرأي العام المؤسساتي المؤثر دوليا “ضمانا للسير السلس لما يبتغونه”، وإلى باقي العالم خارجيا، لإقناع دوائر القرار هناك..؟ !!