خارج الحدود

كيف اختفت كنوز “بابل” الأثرية أثناء محاولة تهريبها من العراق إلى فرنسا؟

قبل أكثر من قرن ونصف القرن، وفي ظروف غامضة، تعرضت حمولة كبيرة من القطع الأثرية العراقية للغرق في نهر دجلة، حيث كانت بعثة فرنسية تحاول تهريبها إلى باريس وعرضها في متحف اللوفر، بعد أن قامت بتجميعها من آثار بابل ونينوى، حسب باحثين وخبراء.

ومنذ غرقها عند ملتقى الرافدين بمنطقة القرنة (شمال البصرة) في 15 مارس 1855، اختفت تلك الكنوز الأثرية، وفشلت كل محاولات التنقيب في العثور عليها، مما أثار الكثير من التكهنات.

رحلة التنقيب

شهدت حملات التنقيب عن الآثار في العراق 3 مراحل؛ أطلق على المرحلة الأولى منها “تنقيب الهواة”، وكانت بين عامي 1842 و1899م، وتتمثل في عمليات نبش عشوائية بعيدة عن الأساليب العلمية الدقيقة، حسب مدير متحف البصرة الحضاري أحمد المعموري.

ويبين المعموري للجزيرة نت أن هدف المرحلة الأولى كان استخراج الكنوز والآثار الكبيرة لتحصيل الأموال عن طريق نقل تلك الآثار إلى أوروبا وبيعها أو اقتناء بعضها، موضحا أن أغلب من قاموا بتلك الأعمال أجانب من هواة الآثار؛ كالقناصل والضباط.

أما مرحلة التنقيبات العلمية فقد بدأت عام 1898 -حسب المعموري- وتتمثل بداية هذه المرحلة في التنقيبات الألمانية في مدينة بابل الأثرية، حيث شهدت عملية فحص دقيق لآثار وبقايا البناء، كما ركزت على التعاقب الطبقي والأدوار التاريخية للموقع.

وأضاف أن المرحلة الثالثة كانت التنقيبات العلمية العراقية، التي اشترك فيها علماء آثار عراقيون، ومنهم الدكتور طه باقر وغيره، وبدأت هذه المرحلة عام 1936.

ويشير المعموري إلى أن عمليات التنقيب بدأت في أكثر من موقع أثري، ومنها نينوى والمدن الآشورية وبعض المواقع التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، ومدن بابل وكيش ونفر والوركاء وأور.

ويحدد أستاذ التاريخ والحضارة في جامعة بغداد مزهر الخفاجي 3 أبعاد لهذه التنقيبات، موضحا أن البعد الأول تاريخي ثقافي، يقف خلفه اليهود، وتحديدا الصهيونية العالمية، تبعا لـ”نبوءة أشعيا” التي تقول يجب ألا يبقى في بابل حجرا ولا يُذر.

ويضيف للجزيرة نت أن البعد الثاني مادي ربحي، ومارسه عدد كبير من الرحالة الذين وصلوا العراق، وكذلك بعض السفارات الأجنبية.

وأما البعد الثالث فيقول عنه الخفاجي إنه البعد الاقتصادي، وفكرة تعاطي العديد من المتاحف وصالات بيع اللقى الأثرية مع الآثار العراقية.

فاجعة الكنوز

كان العراق في القرن 19 تحت سيطرة العثمانيين، ويعاني من صراع النفوذ بين دول عظمى آنذاك؛ بريطانيا وفرنسا، وفي ذلك الوقت كان القنصل الفرنسي في الموصل “بول أميل بوتا” يجري تنقيبات في مدينة خورسباد (شمال الموصل حاليا) العاصمة الرابعة للإمبراطورية الآشورية، كما يقول عضو لجنة الثقافة والسياحة والآثار في البرلمان العراقي النائب بشار الكيكي.

ويضيف للجزيرة نت أنه في عام 1852م حل “فيكتور بليس” ومساعده الفنان “فيلكس توماس” بدلا من “بوتا”، وبعد عمل دؤوب لـ3 سنوات، وفي عام 1855م أكمل فيكتور عمله في الكشف عن معظم الآثار في خورسباد، وكان مستعدا للعودة إلى فرنسا فكانت نكبة غرق الآثار.

يذكر أنه تم شحن ما يقرب من 235 صندوقا كبيرا محملة بآثار من بابل وخورسباد، وعند منطقة القرنة -حيث التقاء نهري دجلة والفرات- هاجمت مجموعة من القبائل السفن التي كانت على متنها الآثار، ومعها القوة الحامية، لتحصل فاجعة غرق السفن المحملة بالآثار العراقية، حسب الكيكي.

وينقل عن العالم البريطاني سيتون لويد قوله إن الآثار التي غرقت تكفي لافتتاح 4 متاحف عالمية نظرا لحجم تلك الكنوز وقيمتها.

ويشير الكيكي إلى محاولات عديدة بدأت في خمسينيات القرن الماضي للبحث عن الآثار الغارقة، ولكن من دون جدوى.

اختفاء غامض

ويرى أستاذ التاريخ القديم المساعد ميثم النوري أن موضوع اختفاء تلك الآثار شائك جدا، وفيه جملة من الآراء والأفكار المطروحة، ولا يمكن البت فيه لعدة أسباب.

ويوضح للجزيرة نت أن أبرز الأسباب المثيرة للشكوك أنه لم يتم توثيق هذه الحادثة بشكل علمي منظم، وكذلك بقية الحوادث الأخرى المشابهة، ولا يوجد شهود على هذه الحادثة غير ما نقله الأجانب، والشيء المهم أن العراق في ذلك الوقت كان تابعا للحكم العثماني، ولا يعرف بالضبط هل أخذوا موافقة العثمانيين لنقلها أو لا.

وحول ملابسات غرق السفينة، يستعرض النوري عدة روايات، حيث ذهب البعض إلى أنها غرقت بسبب عواصف شديدة، في حين اتهمت رواية أخرى بريطانيا بتحريض القبائل العراقية لإغراقها، وهناك رأي آخر يرجح تعرضها لعملية سطو من القبائل بعد سماعهم أنها تحمل كنوزا ثمينة.

ويستبعد فرضية نقل هذا الكم الكبير من الآثار عن طريق النهر، مرجحا التهريب من طريق آخر، والدليل على ذلك اختفاء تلك الآثار بشكل كامل، رغم التنقيبات التي استمرت فترة طويلة، وآخرها البعثة اليابانية في السبعينيات، والتي لم تعثر على شيء.

من جانبه، لا يستبعد الخفاجي وجود مؤامرة لتهريب الآثار العراقية والمصرية والفلسطينية، لأنها علامة على مدى التقدم والتطور الذي وصلت إليه هذه الحضارات، وهي معلم ثقافي وقيمة سياحية عظيمة.

ويكشف عن مساهمة بعض علماء العراق في تهريب الآثار، ومنهم الأب “أنستاس ماري الكرملي”، الذي تشير المذكرات البريطانية إلى أنه ساعدهم في العثور على الكثير من تلك الآثار وتصديرها إلى أوروبا.

بارقة أمل

ورغم مرور أكثر من 166 عاما على اختفاء تلك الآثار، فما تزال الآمال معقودة على العثور عليها باستخدام التقنيات الحديثة في مجال التنقيب والكشف الأحفوري.

ويؤكد الكيكي أن جهود وزارة الثقافة والسياحة والآثار والهيئة العامة للآثار والتراث لم تتوقف في موضوع البحث عن هذه الكنوز المفقودة.

وينوه إلى وجود معوقات عديدة؛ أهمها طول الفترة الزمنية التي مرت على غرق تلك الآثار، والحاجة إلى تحرك دولي وليس عمل بعثة صغيرة، والأهم من ذلك الحاجة إلى أموال طائلة.

ويلفت إلى أن العراق يمر بأزمة مالية تمنعه على الأقل في الوقت الحالي من القيام بأعمال عملاقة، ولكن هذا لا يجعل العراق يقف مكتوف الأيدي للكشف عن حضارته العظيمة، حتى وإن كانت تحت المياه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *