وجهة نظر

سيكولوجية النقاب

ليس يخفى على المطلع في علوم الإنسان أننا حين نروم الحديث عن سيكولوجية شيء، فإننا نقصد الحديث عن الفرد في سلوكه الظاهر والباطن أيضا، فالحديث عن سيكولوجية شيء هو بالضرورة حديث عن شيء حي، لكن الحديث عن سيكولوجية النقاب قد يبدو ملتبسا عند القارئ غير المتسلح بما يكفي من العادات الكلامية، فسيكولوجية النقاب هي دالة بالقصر على الإنسان الذي يؤمن أو يرغم غيره على وضع نقاب أو أنثى ترغم أو ترتاح إلى هذا السلوك من منطلقات تتلبس بالديني. وهذا ليس معناه أن نتحدث عن الظاهرة كسلوك فردي، بل إن هذه الأنواع من الظواهر غالبا ما يتداخل فيها النفسي بالجماعي، ذلك أن قضية ستر المرأة عموما ليس سلوكا محكوما بدوافع فردية فقط ولكنه سلوك محكوم ببنية من التعقيدات تتجاوز الامتثال لنصوص الشرع.

إن ما نقصده بسيكولوجية النقاب هو حين تتجاوز الذات مجرد الانقياد للنص إلى قوانين سيكولوجية ، وهذا ما يؤدي إلى تجاوز النفسي وحجبه للشرعي أي التلبس به؛ وهو سلوك يتكرر في كل البنيات الأخرى الجماعية حتى يكون الشرعي خادما للأهواء السياسية والقبلية.

لست بصدد نحث مفهوم جديد كما يظهر في ما تقدم، ولكني فقط لن أتعدى الحديث عن نقطة واحدة وهي كما أسلفت: تجاوز النفسي لحدود النصي. فهو على كل حال سلوك مذموم في الدين عبر عنه القرآن بالرهبانية حين حكى عن النصارى بقوله: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله… كما يظهر هذا في ما جاء من خبر عن الثلاثة الذين قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فزايدوا عليه في العبادة فأنكر عليهم فعلهم وقال : لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني.

ليست الرهبة إلا مظهرا صغيرا جدا من مظاهر التجاوز؛ تجاوز النص من منطلقات نفسية، فإذا كانت الرهبنة مدفوعة بدوافع نفسية طيبة لا ترى في ما أقره الشرع كفاية فترغب في الزيادة ،فإن سلوك التجاوز يكبر ويتعدد لخدمة مظاهر انحرافية شتى لا يكفي الحيز والزمن والسياق لتفصيلها، لكني سأكتفي بالحديث عن مظهر واحد من مظاهر التجاوز وهو حين يحتكم الفرد أولا للنفسي داعما إياه من منطلقات نصية.

إن قضية النقاب هي قضية فقهية خلافية، لكنها ليست كباقي القضايا والمسائل الفقهية الخلافية، والتي بني على أساسها مجمل الفقه الإسلامي، ولكن قضية النقاب اتخذت منحى مغايرا لم يتم فيه الاحتكام للقواعد الأصولية كما العادة، لأنه تجاوز الشرع إلى غيره من المسائل السيكولوجية والجماعية، وهذا في الغالب ما جعلني أستعمل هذه المركب اللفظي(سيكولوجية النقاب) للإشارة إلى أن القضية محكومة أساسا بدوافع فوق نصية وفوق فقهية أصولية، دوافع سيكولوجية.

إن تغطية النساء لوجوههن كان أصلا من الأصول الثقافية لمجمل النساء في المغرب، فالوثائق القريبة على الأقل تقول ذلك، وهي الدعامة نفسها التي اعتمدها السلفيون ولم تنكرها البقية، لكن ما الذي منع نساء المغرب من الأخذ براجح مذهبهم؟..لقد قلت قبلا إن القضية فقهية خلافية ليست كباقي القضايا الخلافية. يدل على هذا تضارب الأقوال داخل المذهب الواحد، وقد كان قصد المذهب تقليص باب الخلاف. فإذا كان الظاهر من رأي مالك أن الوجه والكفين ليسا من العورة وبه قال غالب أعمدة و شراح المذهب في ما نقل عنهم، فإنه من داخل مذهب مالك من لا يقول بذلك من أكابرهم، وهو الأمر نفسه داخل جملة المذاهب، وهذا إنما يدل على أن قضية النقاب تتخذ منحى سيكولوجيا يتجاوز القواعد الأصولية و يؤثر في رأي الفقيه .. فالخوف من الفتنة غطى على مجمل الآراء.

لقد خبرت عقلية المتدينين لسنوات، حتى أني أجد من السلفيين من يسب الرب والدين وقد يتهاون في تأدية الفرائض وما يعتقده من الأوامر والنواهي، بل لا تكاد تجد فيه فضيلة من الفضائل تذكره بها، ولكنه حريص على نقاب زوجته، وكنت أعرف بعضا من الأخوات يعظمن أمر الخمار على أمر الصلاة ونحوها ويقعن في ما يعتقدنه من الكبائر لكنهن يعظمن أمر الخمار.

لن يفهم من كلامي أن قضية الخمار قضية نفسية قبل أن تكون شرعية، ليس هذا، ولكن النفسي غالبا ما يتماهى مع الشرعي فيغمه ويحجبه ويتلبس به. فالمناطق والتجمعات والنفوس التي طبعها العنف لأسباب معلومة أو مجهولة حين تتدرع بالديني سرعان ما تغمه وتتجاوزه إلى خدمة مشاريع العنف والتطرف، فقضية الخمار هي مما يوقظ في النفس بواطنها..فحتى أن المدرسة العمومية متهالكة وقد تجد السلفي تحصيل ابنه من الدراسة في درجات الصفر لكنه لن يحتج ولن يصرخ مثلما يفعل في قضية النقاب التي هي قضية خلافية، فالعلم في الوعي السلفي يفتقر للدوافع السيكولوجية مقارنة بالخمار وما يتعلق بالمرأة.

إن قضية النقاب كان من الممكن أن تناقش بهدوء مناقشة فقهية أصولية، والفقه له قدرة أن يحتويها بكل يسر ومرونة، فهي ليست قضية فرض كما يدعي عرابو الوهابية، ولكنها قضية لا تتعدى مسألة الراجح والمرجوح أو تقييد المباح، وكل ما قيل وسيقال هو من باب الرأي والعلم المظنون المفتقر لشروط الاعتبار، لكن الدوافع النفسية ستجعل المنقب لزوجته غير قادر على الأخذ بالراجح ولا المرجوح حتى يحتكم إلى دافع نفسي يتجاوز الشرع.

لسنا هنا لمناقشة قضية فقهية قتلت بحثا ونظرا من جانب تجميع الآراء، ولكن القضية هي أنها تتجاوز هذا إلى بنيات نفسية مدعومة بقواعد استنباط وهابية حنبلية تختفي فيها القواعد الأصولية والمصالح الشرعية والمقاصدية عموما، والتي تطبع النقاش الفقهي المغاربي.

إن المنع لا يستند أيضا إلى مبررات أو أعراف أمنية بمسوغات قانونية ولكنها لا تعدو أن تكون شطحة من شطحات النظام، فالذي يجب أن يحارب في هذا المقام ليس النقاب ولكنه الجهل وهذه الثقافة الدخيلة التي تنتج هذا النوع من السلوك. فالنقاب هو بنية نفسية واجتماعية تتعدى وجه وكف أنثى تحت الوصاية.