مجتمع

مركز الإدماج بسلا.. سلسلة إنتاج فريدة عمالها 50 شابا من ذوي الإعاقة الذهنية (فيديو)

يقف زكرياء، المصاب بمتلازمة داون، خلف الواجهة الزجاجية لمتجر الحلويات، يتفقد المعروضات بعينين طفوليتين ثم يتدخل بين الفينة والأخرى لإعادة ترتيب بعضها بعناية فائقة، متأهبا في الوقت ذاته لتلبية طلبات الزبناء.. في الجهة المقابلة وعلى بعد عشرات الأمتار ينهمك رضا وزكريا وهشام في تفكيك كرسي متحرك بتركيز شديد وتناسق تام، وتعويض أجزائه التالفة بقطع غيار مستعملة.

هنا في مركز الإدماج والمساعدة بالتشغيل بمدينة سلا، الذي يمتد على مساحة 7 هكتارات، وجد 50 شابا من ذوي الإعاقة الذهنية، تتراوح أعمارهم بين 20 و32 سنة، فرصة لتغيير النظرة النمطية للآخرين نحوهم، وأثبتوا أن بإمكانهم العمل وتحقيق قيمة مضافة في المجتمع وإعالة أنفسهم حتى.

مركز الإدماج التابع للمركز الوطني محمد السادس للمعاقين، الذي دشّنه الملك عام 2016 في إطار مشاريع مؤسسة محمد الخامس للتضامن، يساهم في إدماج ذوي الإعاقة الذهنية عن طريق ست ورشات هي؛ المطعمة والفلاحة والحلويات والمخبزة وفضاء البيع وإصلاح الكراسي المتحركة ثم تلفيف المنتوجات الفلاحية.

تصوير ومونطاج ياسين السالمي

أمين وحسن

في مطعم ومقهى شاسع يتنقل أمين بجسمه النحيل وبدلته السوداء الأنيقة، برشاقة بين الكراسي والطاولات، وابتسامة عفوية عريضة تطبع محياه، كنحلة تتنقل بين الزهور، يضع لهذا قهوة ويسأل آخر بأدب جم عن طلبه ويمازح ثالثا قبل أن يضع له إبريق شاي أو سلطة خضر.

وعن سر كل هذه الطاقة يقول الشاب أمين، الذي استطاع أن يهزم إعاقته الذهنية، في حديث لجريدة “العمق” إنه يمارس هذه المهنة بحُبّ، مضيفا، وفرح طفولي يشع من وجهه ذي الملامح المنشرحة، أنه اشتغل في البداية داخل المطعم فنال إعجاب مؤطّره، لذلك دفعه للعمل كنادل.

ببدلة مشابهة لبدلة زميله وصديقه أمين، ينهمك حسن المصاب بمتلازمة داون في ترتيب الطاولات وخدمة زبناء المقهى في الجهة المقابلة للفضاء الذي يتحرك فيه أمين، يمشي بروية وخطى وئيدة ذهابا وإيابا ملبيا طلبات زبنائه، وكلما أراد استقبال أحد رواد المقهى أو التحدث إليه، تتلألأت ابتسامة في وجهه.

التحق حسن بالمركز منذ العام الأول لافتتاحه، أي قبل خمس سنوات من اليوم. يحكي لجريدة “العمق”، بنبرة ملؤها الافتخار، أنه تعلم الكثير خلال هذه المدة، قبل أن يسترسل في سرد القواعد التي يتبعها خلال عمله، حيث يشدد على ضرورة استقبال الزبون بابتسامة ووجه منشرح والترحيب به ثم الاستماع لطلبه وتلبيته على الفور.

ابتسامة زكرياء

أول ما يلفت نظر الزائر إلى المركز، بعد تجاوز البوابة الكبيرة نحو الداخل، هو فضاء يضم محلات تجارية متلاصقة تشكل مجتمعة شكلا يشبه حذوة الحصان.. هنا في “فضاء المبيعات” التقت جريدة “العمق” بزكرياء منشغلا بترتيب علب الحلوى في واجهة المحل.

عن علاقته بهذا المركز، يقول زكرياء مبتسما “عاجبني الحال هنا”، وبخصوص مهمته بهذا المتجر يوضح، “تيجي الكليان تنستقبلو بابتسامة ونسمع ليه ونجمع ليه الطلب ديالو.. من بعد يمشي لاكيس ويخلص”.

زكرياء ذو الـ32 ربيعا، بطل العالم في السباحة، حيث سبق له أن أحرز 53 ميدالية في إطار ألعاب القوى الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة، يحكي أنه توقف عن ممارسة رياضة السباحة منذ ما يقارب السنتين بسبب الجائحة.

وفي الوقت الذي كان يتحدث فيه زكرياء عن تجربته في ألعاب القوى لجريدة “العمق”، سُمع ضجيج عربة مجرورة باليد، فإذا به مهدي ينقل ثلاثة صناديق تحوي منتوجات فلاحية إلى المحل المجاور. وبينما هو منشغل بوضع كل صنف في المكان المخصص له، قال إن كل الخضر والفواكه هنا “بيولوجبة” (لم تستعمل في إنتاجها أسمدة كيماوية).

سكينة مقتبل، مسؤولة التسويق والتطوير، التي رافقت “العمق” في جولة في أرجاء المركز، أكدت أن كل المنتوجات الفلاحية التي يتم إنتاجها “بيولوجية”، حيث يتم إنتاج الخضر وبعض الفواكه في مساحة تمتد لهكتارين، موضحة أن المركز اليوم يقترب من تحقيق الاكتفاء الذاتي.

وأوضحت مقتبل أن فلسفة المركز تتمثل في إدماج الشباب ذوي الإعاقة عن طريق تشغيلهم، حيث يتقاضى كل منهم أجرا شهريا، كما يستفيدون من التغطية الصحية والاجتماعية والتأمين، وفي الوقت ذاته يستفيدون من المواكبة النفسية والاجتماعية والتأطير، كما تستفيد هذه الفئة الخاصة من العمال من النقل مجانا من بيوت أسرهم إلى المركز ذهابا وإيابا عبر حافلات صغيرة.

من الإنتاج إلى التلفيف

ينهمك محمد في اقتلاع بعض الأعشاب الضارة من ضيعة للبطيخ الأحمر (الدلاح)، وقد انعكس على وجهه ظل قبعة شمسية دائرية (تارازا) يعتمرها، حيث أحنى ظهره قليلا وباعد بين قدميه، مرسلا إلى الأرض ضربات خفيفة متتالية بمعول بين يديه، فيما تتسارع أنفاسه ويهتز جذعه تحت بدلة العمل ذات اللون الأخضر.

يجول محمد في ضيعة المركز، دون كلل أو ملل، تارة يزيل الأعشاب الضارة ويجمعها في أكوام بمساعدة عاملتين وافدتين على المركز، وتارة ينقل هذه الأعشاب التي اقتلعها إلى جنبات الضيعة على متن عربة مدفوعة.

تشرح مقتبل لجريدة “العمق” أن كل ما يتم إنتاجه في الضيعة الفلاحية والبيوت البلاستيكية المتناثرة في المكان، يتم فرزه وتلفيفه أولا في ورشة خاصة قبل أن يتم عرضه للبيع، حيث يسهر محمد وشكري ومروان على هذه العملية من ألفها إلى يائها.

وفي مكان قريب من ورشة التلفيف يعكف رضا وزكرياء وهشام، بتأطير من المسؤول عن الورشة ادريس الهيلالي، على إصلاح بعض الكراسي المتحركة، حيث يعوّضون الأجزاء التالفة بقطع غيار انتزعت من كراسي متحركة قديمة.

ويوضح الهيلالي لـ”العمق” أنهم في هذه الورشة يصلحون الكراسي المتحركة لذوي الإعاقات الحركية بالمجان، مضيفا أن الإعاقة الذهنية لم تمنع رضا وزكرياء وهشام من التعلم بسرعة، مشيرا إلى أنه أحيانا يكون في مهمة خارج المركز لكن الشبان الثلاثة يقومون بعملهم بإتقان في ظل غيابه.

أما ماجدة فلا تكترث لكل ما يجري داخل المركز، لا يهمها، في هذه اللحظة التي تقف فيها أمام تلك المائدة المستطيلة داخل ورشة الحلويات، سوى تلك الكومتان من العجين اللتان وضعتا أمامها، واحدة بيضاء وأخرى تميل إلى السواد، هذا هو شغلها الشاعل.

تقف الفتاة، ذات البدلة البيضاء، أمام الطاولة كناسك متعبد لا يشغله عن معبوده شيء، فكل تركيزها واهتمامها منصب على العجين؛ تطوعه بأناملها الصغيرة وتصيّره كريات ترصها رصّا أمامها.

بمحاذاة قاعة الحلويات يعمل كل من يوسف وأميمة وكريم وفردوس وفاطمة الزهراء وإكرام كخلية نحل داخل المخبزة، فبمجرد ما يتم إخراج العجين من آلة العجن حتى يتحلّق الشباب حول مائدة كبيرة ويتولى كل منهم مهمته تلقائيا، في توزيع سلس للأدوار، كفرقة موسيقية تعزف سمفونية خاصة؛ من تقطيع العجين ولفه وخبزه وإدخاله للفرن حتى ينضج.

من يزور مركز الإدماج والمساعدة بالتشغيل لا بد أن تغمره أحاسيس جميلة وتشده جاذبية غامضة إلى المكان، فأرواح هذه الفئة من العمال تفيض مرحا وسعادة، وملامحهم صادقة جدا في التعبير عما يخالج نفوسهم.. وأنت تحتسي قهوتك في ركن قصي من المقهى يقف حسن في الباب وينظر إلى الأفق بافتخار بعدما أدى مهمته على أكمل وجه، هي تماما النظرة ذاتها والإحساس نفسه الذي تترجمه ملامح ماجدة وهي تتفحص صحنا من الحلوى أبدعته أناملها.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *