وجهة نظر

حيثيات وفكرة الإصلاح من الداخل

تعود فكرة الإصلاح من الداخل إلى الحقل الديني المذهبي، تقوم أساسا على تعزيز أو تقويم أو تجديد الفكر المذهبي من داخله وبأدواته دون الحاجة إلى تحوير جوهره ومقاصده الكلية. تبرز هذه الفكرة أيضا لدى الفرق الكلامية العقلية، وتروم إثارة القوى العقلية الداخلية بمنطق العقل الظاهر والعقل الباطن. ولا يختلف اثنان على أن هذه الفكرة برزت للفكر الإسلامي السياسي عندنا لدى حزب العدالة والتنمية أساسا، وهي تدخل في باب الوسائل من منطق تحقيق الغايات، غايات إقامة الدين، الذي يطبع توجه الإسلام السياسي عموما.

إن جهل الغالبية العظمى من المتتبعين للحقل السياسي المغربي على الأقل يجعلهم يتعاملون مع حزب العدالة والتنمية كحزب سياسي غايته إقامة الدولة بغايات دنيوية، وبالتالي فهم يخوضون فيه ويخضعونه للمعايير المادية كجسم سياسي حي يتأثر بثنائية القوة والفتور، بل إن الغريب في الأمر أن الكثير من الليبراليين علقوا آمالا عريضة على الحزب كقوة مخلصة من الهيمنة المخزنية، وهم بالمناسبة معذورون بجهلهم، ذلك أن ما تقوم عليه أسس الدولة والنظرة للعالم عند الإسلاميين في المجال السياسي يبقى حقلا خاصا جدا، ولا أحسب أن هناك بما يكفي من الكتابات البنيوية لتفكيك هذا الخطاب، فما يوجد غالبا يخوض فقط في تاريخ الحركة في عملية دياكرونية لا تتيح للمتتبع تأويل خطابات الإسلاميين ومواقفهم . ولو أمكن لهؤلاء أن يفهموا هذه البنيات لأدركوا أن خلافهم مع المخزن أهون من خلافهم مع الإسلاميين، ذلك أن المخزن يعيش من غير أيديولوجيا غايته السلطة لتحصين وتحصيل الثروة…أما غاية الإسلاميين فهي أيديولوجية غايتها السلطة لتحصين وإقامة المشروع الديني.

قد تبدو هذه الفكرة غامضة بعض شيء، لكني سأحاول توضيحها ودعمها بمثال لن يخرج عن ما نحن بصدد الحديث عنه في هذا المقال، وهو أننا حين نسأل المتتبعين للشأن السياسي عن فكرة الإصلاح من الداخل، هل هي ممكنة؟ فإن الغالبية الكبيرة ستجزم بأنها فكرة في غاية الجنون والمغامرة، وسيكون بمقدورهم أن يقدموا تجربة التناوب وما بعدها من تجربة حكومة بنكيران دليلا واقعية على طرحهم، وأنا أكون مضطرا لأن أتفق معهم على أن تجربة التقدميين في المغرب والتي مثلتها تجربة التناوب فشلت فشلا دريعا في تجربة الإصلاح بالتوافق، لكني بالمقابلة لست مستعدا لقبول الطرح ومبرراته من منطق تجربة الإسلاميين حتى ولو خاضوا ثلاث تجارب متتالية. ولست أدعي هنا بل لدي ما يكفي لأقدمه بهذا الصدد حتى وأن الحيز والزمن لا يكفيان لقول الكثير بالتفصيل.

إن غاية الأحزاب التقدمية هي إقامة الدولة على مبادئ حديثة عالمية أصبحت تقوم مقام العرف، فهي حين تصل للسلطة تكون مهمتها ممارسة السلطة طبقا للقواعد وعلى سعة الصلاحيات دون إفراط ولا تفريط، فهي غاية واضحة، وحين تحس التضييق تنسحب بكل شفافية وتصدق الجمهور، فممارسة السلطة بطريقة شكلية أو غير مكتملة هي في عرف الديمقراطية خيانة للجمهور والناخبين، فالتجربة التقدمية تجربة مؤسسات غير قابلة للمماطلة والتجزيء، فإما أن تحكم أو تنسحب، وحين تفشل فيجب عليك الاعتراف والمراجعة واستجداء الجمهور من جديد.

إنه ولئن كانت التجربة التقدمية تجربة مرتبطة بما ذكرنا وبشروط مادية دنيوية علمانية تمارس مبادئ الصدق والكذب، والخيانة والإخلاص، والنجاح والفشل..وغيرها من المبادئ فإن التجربة الإسلامية تقوم على مبدأ واحد وهو مبدأ الخلاص والصدق مع الله. فالإسلامي لا يربط نجاحه برضا الشعب ولا يستحي أن يعمل من داخل مؤسسات معطوبة، ولكنه يعمل وفق مفاهيم إسلامية غيبية، وهنا تبرز الفروق بين التجربتين، فالإسلامي لا يخشى المحاولة ولا التاريخ مادام إخلاصه لله لا تشوبه شائبة ،إنه يربط نفسه بالله وليس بالشعب.

بإمكاني أن أتخذ الحملة الانتخابية الأخيرة دليلا واقعيا لدعم ادعائي هذا، فالذين راهنوا على إسقاط حزب بنكيران فعلوا ذلك انطلاقا من التجارب الحزبية العالمية. فحزب العدالة والتنمية بتجربته الحكومية الفاشلة جدا، فإنه طبقا للمعايير التاريخية والمادية في التجارب السياسية فإن الحزب سيمنى بهزيمة نكراء وربما تم القضاء عليه قضاء مبرما كما حصل مع الأحزاب اليسارية والوطنية… فرغم التضييق الشديد على الحزب ومقاطعة جل المؤمنين بالخلاص الديني للانتخابات فإن حزب الإسلاميين جاء في المقدمة وكأنه لم يخض تجربة حكومية فاشلة قط، بل وحافظ على نفسه بديلا قويا على الأحزاب الإدارية.

لقد تحدثت بما يكفي عن تصور الإسلاميين للسلطة في مقالات ماضية، وكنت ذكرت أن حزب العدالة والتنمية لا تهمه الديمقراطية وإن كان هو أكثر الأحزاب احتراما للمنهجية الديمقراطية، وليست غايته ملكية برلمانية وان كان أقدر الأحزاب اليوم على تجسيدها، ولكن الحزب يحب أن يتصور السلطة مكتملة فقط بمنطق الإله الذي يستحوذ على السلطة من أعلى وتكون له مهمة المنع والإباحة، يمقت الشريك والتعدد وينشر العدل والحق في الأرض، فليست غاية الحزب إقامة نظام ديمقراطي بقدر ما تكون مهمته أن يقدم نفسه بمفهوم البطانة الصالحة مع الملكية التنفيذية لإقامة الدين.

إننا لن نختلف ربما على أن المخزن في ورطة حين أقدم على خلق حزب لم يقو على إماتته، وإنني أعي جيدا أن تأييد كثير من الليبراليين لحزب الإسلاميين ليس حبا في سواد عيونهم ولكن تشفيا في المخزن، لكني بالمقابل أشفق على الذين يجعلون الحزب ناطقا بغاياتهم، فالحزب له أبجديات ينطلق منها لغايات يعلمها العالمون، ففكرة الإصلاح من الداخل التي يرفعها الحزب لها جذور وجب فهمها.

إنها ليست فكرة نابعة من نفس غضبية احتجاجية، وليست أيضا فكرة ممانعة من منطلقات قومجية شيوعية، إنها فكرة نابعة من منطلقات إسلامية أصولية تروم جلب المصالح بأقل المفاسد، فكرة تنبذ المواجهة وتقدم الطاعة على العصيان إلى أبعد حد، فكرة لا تريد الهدم بقدر ما تقصد التقويم والتعزيز وإعادة البناء حفاظا على مقومات الدولة القديمة، فكرة منطقها منطق الماء والاختراق والتوغل كلما سنحت الفرصة.