وجهة نظر

رصيد عبد الرحمان اليوسفي يستقر رسميـا في حضن “أرشيف المغرب”

احتضن المجلس الوطني لحقوق الإنسان يوم الاثنين 19 يوليوز 2021 مراسيم التوقيع على اتفاقية هبة، تسلمت بموجبها على التوالي مؤسسة “أرشيف المغرب” و”المؤسسة الوطنية للمتاحف”، أرشيفات وممتلكات الراحل عبدالرحمان اليوسفي، بحضور السيدة “هيلين اليوسفي” أرملة الراحل والسيد “مبارك بودرقة “منفذ الوصية، وثلـة من الوجوه والشخصيات السياسية والثقافية والحزبية والحقوقية، ويأتي توقيع هذه الاتفاقية، تنفيذا لوصية الفقيد رحمه الله، الذي أبى في آخر أنفاس حياته، إلا أن يأتمـن المؤسستين الوطنيتين على ما يمتلكه من نفائس أرشيفية وممتلكات عينية، إسهاما منه في إنعاش الثقافة بالمغرب، في مبادرة مواطنة، عاكسة للوطنية الحقة في أبهى حللها وتجلياتها، ولقيمة نكران الذات في أرقى صوره.

وهذا الحدث التاريخي والأرشيفي والتراثي ، تجــاوز حدود تسلـم أرشيفات وممتلكات عينية خاصة برجل دولة بـارز، وتخطى عتبـات التوقيــع على اتفاقية هبــة أو تنفيـذ وصيـة، اعتبــارا لقيمـة الفقيـد رحمه الله الذي كـان رجلا بصيغة الجمـع .. رجل سياسة رفيـع ومناضل بـارز، وزعيم حزب محنك، و وزير أول قاد حكومة التنـاوب فنـال الاحترام والتقديـر، ورجل مبــادئ نجح في جعل السياسة والمسؤولية وخدمة الوطن، مرادفة لقيـم ومبادئ البساطة والتضحية والأنفـة والكبريـاء، والوفــاء للثوابت والتواضـع والتفاني ونكران الذات والنزاهة والاستقامة.

استحضارا لهذه الميزات والخصوصيات وغيرها، يمكـن أن نـستحضر القيمة التاريخية والعلمية والسياسية والنضالية والحقوقية، لما تركه الفقيد رحمه الله من نفـائس أرشيفية، ستبقى حاضرة وآمنـة ومطمئنة داخل مستودعات “أرشيف المغرب” بالرباط، دالـة على حيـاة رجل انـتـزع الإجماع والتوافق في زمن التفرقة والخـلاف، وكسب ود المعارضين قبل المناصريـن والمؤيديـن في واقـع النفـور والارتبـاك السياسي، وإذا كان التاريـخ يسجل ما رسمه الراحل من مسار نضالي وسياسي وإنساني، فيسجل له أيضا، أنـه ظل على عهد الوفـاء و نكران الذات والمواطنة الحقة حتى آخر أنفـاس حياته، وهـو يأتمن “أرشيف المغرب” و “متاحف المغرب” على ما سيتركه من نفائـس أرشيفية وممتلكات خاصة، تاركا بذلك، درسا حقيقيا حول المواطنة الحقة، وما يرتبط بها من مسؤولية ونكران للذات واستقامة وإخلاص للوطن والثوابت ، ورسالة مفتوحة محرجة أحيانـا، لكل رجالات الفكر والأدب والسياسة والموسيقى والفن والإبداع الذين يرحلون تباعـا، دون أن يلتفتوا إلى الوطن كما التفت إليـه فقيدنا “سي عبدالرحمان” رحمة الله عليه.

وقد تناول الأستاذ “جامع بيضا” مدير أرشيف المغرب، كلمة معبرة بالمناسبة، تفاعل من خلالها مع هذا الحدث التاريخي والأرشيفي بقوله : “نعيش -اليوم- لحظة مشهودة، إذ ستنضـاف إلى الذخائر والنفائــس المذكورة (هبات الخواص) أرشيفات ستحمل عنوان “رصيد عبدالرحمان اليوسفي”، وكلنا نعرف من هو عبدالرحمان اليوسفي، وما أدراك ما عبدالرحمان اليوسفي … رجل الوطنية الصادقة بامتياز، وطني حتى النخاع ســواء في مرحلة المقاومة ضد الاستعمار، أو إبــان نشاطه المهني كمحام حقوقي، أو أثنــاء تموقعـه في صفوف المعارضة في المغرب المستقل، أو عند تقلد الوزارة الأولى بين 1998 و2002 في إطار حكومة التناوب”، مضيفا في ذات السياق : “إن مسار عبدالرحمان اليوسفي استثنائي بكل المقاييس، مسـار حافل بالعطاء، بصم تاريخ المغرب المعاصر في محطات عديدة يمكن الوقوف عليها في مذكراته المنشورة سنة 2018 تحت عنــوان “عبدالرحمان اليوسفي .. أحاديث في ما جــرى”. إنها – استرسل مدير أرشيف المغرب – ” مذكرات مكثفة ودقيقة التفاصيل شكلت الوثــائق بالتأكيد مادتها المصدريـة ومنهـلـهـا الصافي، وقد أبـى صاحب تلك الوثــائق إلا أن يخلدها للأجيــال القادمة بحفظها في مؤسسة أرشيف المغرب، وهـا نحن اليوم، وبعد مــرور سنة واحدة وأقل من شهريــن على رحيله، نلتئـــم لتتسلـم مؤسسة أرشيف المغرب رسميـا أرشيفاته الخاصة، ليتـأكد بهذا الحدث، رغـم أن الأمر غنـي عن التأكيـد، أن ذلك الرجل الغيـور، عبدالرحمان اليوسفي، هـو عنــوان الوطنيـة والعطاء قيد حياتـه وبعد ممـاتـــه. فلترقـد روحـه فـي ســلام “.

وإذ نستعرض بعضا مما ورد في شهادة مدير “أرشيف المغرب” في حق صاحب “أحاديث في ما جرى”، لابد من الإشـارة إلى أننا كنا سباقيـن لإثــارة موضوع التراث الأرشيفي للراحل “اليوسفي” بشكل اتخـذ طابـع الاستعجال، في لحظـة كان الجميـع يعيـش على وقــع صدمـة المــوت والرحيل والفـراق، لأننــا كنـا وقتها، نـدرك قيمـة مـا يكون قد تركـه الرجل من نفائــس أرشيفية، بالنظـر إلى مســاره السياسي والحقوقي والنضـالي الممتـد لما يزيــد عن السبعـة عقــود من الزمن، ممــا يفــرض وضع اليـد عليها وحفظهـا وتثمينهــا، وقـد بـادرنا- وقتهـا- إلى توثيــق الموضوع عبـر مقال تحت عنــوان ” أرشيف اليوسفي وأرشيف المغرب”، كان دعـوة صريحــة للمؤسسة الحاضنـة للأرشيف العمومي من أجل “التفكيـر في السبل الممكنـة والإمكانيات المتاحة التي من شأنها تـيسير سبــل وضـع اليـد على “الأرشيف اليوسفـي” لما يتفـرد به من منفعـة عامة “، وهـي نفــس الدعوة التـي وجهت إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وخاصة إلى ذوي الحقوق ونخص بالذكر أرملـة الراحل السيدة ”هيليـن” أطـال الله في عمـرها.

حينها، لم يكن سقف أحلامنا يتجـاوز حدود إثـارة الانتبــاه إلى التراث الوثائقـي للراحل وإمكانية حفـظ بعضه على الأقل بأرشيف المغرب، لكن الخبر السار أتى عن طريـق جريدة “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية التي نقلت في أحد أعدادها، خبـر “وصية ” تركها الراحل قبل وفاتـه، ائتمن من خلالها “أرشيف المغرب” و “متاحف المغرب” على وثائـقه الأرشيفية وبعض ممتلكاته، ممـا فرض علينـا توثيـق الخبـر في مقال ثـــــان بعنــوان ” وثائق الراحل اليوسفي في أحضان أرشيف المغرب”، وقد كـان للمقالين معا، موضـع قـدم ضمن المقالات التي شكلت دعامـة كتابنـا “مسألة الأرشيف بالمغرب : تراث وحداثة ” الذي كـان ثمـرة شراكة وتعاون مع “أرشيف المغرب” في شخـص مديرها المؤرخ والأستاذ الجامعي “جامع بيضا”.

واليوم، فنحن سعداء على غرار “أرشيف المغرب” و”متاحف المغرب” والسيدة “هيلين” أرملـة الراحل وقيـادة وأطـر ومكونات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وكل أقـارب وأصدقاء ومحبـي “سي عبدالرحمان”، سعـداء بحفل توقيــع عقد الهبـة المقدمة من أسـرة الفقيد لمؤسسة “أرشيف المغرب” و”المؤسسة الوطنية للمتاحـف”، وبدون شك فإن مساحـة سعـادتنا كانت أرحب، لأننا حضينا بشــرف الحضـور في هذا الحدث التاريخي والأرشيفي والتراثي بامتيـاز، الـذي وثـق لرجل دولة بـارز لـم ينـــس الوطن، والوطن لن ينسـاه أبـدا اسمـه ” عبدالرحمان اليوسفي” …

وبدون شك، فإن حكاية تراث “سي عبدالرحمان” لــم ولن تتوقف عند حدود مراسيم التوقيـع والتسليم، سيدخل على الخط “جنـود خفـاء” بمؤسسة “أرشيف المغرب”، سيتحملون مسؤولية مواطنة تقنية صرفة، مرتبطة بما يتوجب القيــام به من حفظ ومعالجة وتصنيف وتثمين، بمـا يضمن إتاحتـه للباحثيـن وعموم الجمهور في إطار “الحق في المعلومة” تفعيـلا وأجـرأة لرغبة الفقيــد، ونفــس المهمة ستضطلع بها مؤسسة “متاحف المغرب” في نطـاق اختصاصها وتدخلها، وهـي دعوة مفتوحة لكل الباحثيـن لتوجيه البوصلة نحو هذا التــراث اليوسفـي، ليس فقط، لأن صاحبـه “شاهـد عصر”، بل أيضا، للنبــش في حفريـات شخصيـة رجـل دولـة كبيـر، يبـدو كمدارة طرقيـة، تتقاطــع فيها شوارع السياسة والنضال والحقوق والقانون، وطـرق الإنسانيـة في أرقـى مشاهدها ومسالك الوطنية الحقة في أجمل صورهـا وأعمق امتداداتهـا.

ولا يمكن أن نختم هذا المــقال، دون تجديـد النــداء لكل رجالات الفكر والسياسة والقانون والحقوق والهندسة والموسيقى والمسرح والإبــداع، في أن يأتمنـوا المؤسسات الوطنية الراعية للتــراث على ما يتحـوزون به من نفــائس تراثيـة على غــرار ما أقدم عليها الراحل “سي عبدالرحمان”، إسهامـا منهم في صون التاريخ المشترك وبنـاء الذاكرة الجماعية، فمـن غير المقبول أن نجد بصمات مفكرين ومبدعين أجانب حاضرة في “أرشيف المغرب” و “متاحف المغرب”، بينما نجـد مغاربة في الداخل كما في الخارج، يتقاعسـون أو يتـرددون أو يرفضـون التعامل مع المؤسسات التراثية الوطنية، ممـا يعــرض “تركاتهم التراثيـة”- بعد رحيلهم – إلـى الإهمـال والإتـلاف والضيــاع، فيساهمون بقصد أو بدونه، فـي إضعــاف التراث الوطني بكل مستوياته وأشكالـه، ولا يسعنا إلا تجديد الرحمة على الفقيد “عبدالرحمان اليوسفي” سائلين الله أن يشمله بواسع الرحمة والمغفـرة، وأن يحيط أرملته “هيلين” بالصحة والعافية، وإنا لله وإنا إليه راجعــون.

يذكر، أن مراسيم التسليم والتوقيـع التي أقيمت بمقر المجلس الوطني لحقـوق الإنسان، تميــزت بحضـور – إلى جانب السيدة “هلين” أرملة الراحل اليوسفي – ثـلــة من الوجـوه والشخصيات السياسية والثقافية والحزبية والحقوقية من قبيل “أندري أزولاي” مستشار جلالة الملك، “عثمان الفردوس” وزيــر الثقافة والشباب والرياضة، “ادريس جطو” الوزير الأول الأسبق، “جامع بيضا” مدير أرشيف المغرب”، “مهدي قطبي” مدير المؤسسة الوطنية للمتاحف، “أمينة بوعياش” رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان”، “مصطفى الكثيري” المندوب السامي لقدماء المحاربين وأعضاء جيش التحرير، “ادريس لشكر” الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، “عبد الواحد الراضي” الكاتب الأول السابق للحزب وقيدوم البرلمانيين المغاربة، “عباس بودرقة” منفذ وصية عائلة اليوسفي، وأطـرا منتمية لأرشيف المغرب والمؤسسة المغربية للمتاحف، فضلا عن شخصيات أخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *