وجهة نظر

المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي حتمية لجنة مستقلة في مسلسل الإصلاح

هل سيكتب للمغرب في يوم من الأيام أن يتجاوز المعادلة غير المتوازنة التالية ؟ مردود منظومة التربية و التكوين لا يتناسب مع حجم الإنفاق عليها الذي يتجاوز ربع الميزانية العامة. لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن التعليم ، الملف الشائك ، الذي يحظى بإجماع حول أزمته المزمنة ، خصوصا عندما بدأ التلويح بالمس بمبدإ المجانية في بعض مستويات المدرسة المغربية و ذلك بعد العمل المهم الذي قام به المجلس الأعلى للتعليم باقتراح نظرة استراتيجية خلال الخمسة عشر عام المقبلة .و قد استند في ذلك أساسا على عمل غير مسبوق و طال انتظاره . إنه التقرير التحليلي حول تنزيل الميثاق الوطني للتربية و التكوين الذي قام به أحد أجهزة المجلس : الهيئة الوطنية للتقويم . و علاقة بالموضوع بدأت تطفو على السطح تفاعلات البرنامج الاستعجالي ” المشهور” لكن هذه المرة بحدة أكبر مما مضى ، خصوصا بعد الاتهامات الخطيرة التي أطلقها مؤخرا المدير الإقليمي المعفى و هو على كل حال ابن الدار. نتمنى أن تذهب التحقيقات إلى مداها و محاسبة المسؤولين على التجاوزات و خصوصا استرجاع الأموال في ثبوت اختلاسات . في هذا الصدد تأتي هذه المساهمة . قال عمر عزيمان رئيس المجلس الأعلى للتربية و التكوين و البحث العلمي في افتتاح إحدى دورات المجلس : إن الإسهام في إعادة تأهيل المدرسة لن يتأتى دون القطع مع الاصطفافات الإديولوجية و السياسية ، و مع الدوغمائية و التعصب و الأحكام الجاهزة. كما طالب عزيمان أعضاء المجلس بتفادي الانفلاتات الناجمة عن التصريحات الصحافية التي يعطيها أعضاء المجلس لوسائل الإعلام …

أثارت هذه التصريحات انتباهي  لأنني كنت قد  كتبت آراء مشابهة و في نفس المعنى منذ أزيد من  ثمانية عشر (18)  سنة خلت . و نشرت هذه الآراء  بالضبط يوم 28 شتنبر 1998 على صفحات جريدة العصر. تجب الإشارة أن ذلك حصل   إبان حكومة ذ. اليوسفي و قبل صدور الميثاق الوطني للتربية و التكوين ، لأن اللجنة الخاصة التي سهرت على إعداده لم تكن قد تشكلت بعد. وقبل التفصيل إليكم نص المقال كما تم  نشره:

” ضرورة التفكير في إصلاح التعليم و مناهجه ”

بقلم: الأستاذ البشير العوني

لا يشك أحد من المتتبعين و المحللين في أن التعليم يشكل الحجر الأساس في عملية التنمية في كل أقطار الدنيا. و في ظل حكومة التغيير التي تشكل أحزاب الكتلة عمودها الفقري أصبح من المستعجل جدا الانكباب على إصلاح التعليم. و تجدر الإشارة إلى أن إجماعا وطنيا حاصل حول هذا المطلب من قبل كل مكونات المجتمع المدني. و من الطبيعي جدا ــ أنه إذا أصبح الفاعلون الاقتصاديون يتلمسون دورا للمجتمع المدني في عملية التنمية ( مؤتمر مراكش الأخير) ــ فإن دور هذا الأخير يبدو جليا في فضاء التعليم. لذلك فإن أي إصلاح يجب أن ينطلق من أرضية توافقية ، يقع حولها إجماع توافقي وطني من قبل كل مكونات المجتمع المدني من أحزاب و نقابات و جمعيات إلخ … و ربما يكون من الأفيد أن تدور النقاشات لوضع المبادئ الأساسية و الخطوط العريضة لهذا الإصلاح بعيدا عن الصحافة ، و ذلك تفاديا لأي تشويش أثناء هذه   المناقشات الحاسمة و المصيرية. و نتمنى أن لا يفهم أن ذلك رفض للشفافية بقدر ما نتمنى أن يوضع هذا التصور الإصلاحي المصيري في ظروف هادئة تهيمن عليها من البداية إلى النهاية الروح الوطنية الصادقة. و حينما يقع ذلك التوافق و التراضي حول الخطوط العريضة للإصلاح و كذلك مواصفات الخريجين في أفق القرن المقبل ، يعهد إلى لجنة من الأخصائيين في ميدان التعليم لوضع المناهج و الطرائق لبلورة ذلك التوافق الوطني . و غني عن التوضيح أنه يجب أن تمكن هذه اللجنة التقنية من الموارد البشرية و المادية اللازمة ، و كذلك الوقت الكافي ، حتى يتسنى لها العمل في ظروف جيدة . و يستحسن أن يتوفر لهذه اللجنة ثلاثة شروط :

1ــ استقلال أعضائها عن التنظيمات الحزبية و النقابية لتتسم مساهماتهم بالإستقلالية التامة

2ــ توفر هؤلاء الأعضاء على الكفاءات الضرورية و الروح الوطنية المشهود لهم بها في هذا الصدد

3ــ تقليص عدد أعضائها ما أمكن و ذلك بغية تيسير أعمالها

وعندما تنتهي هذه اللجنة من عملها الذي قد يستغرق وقتا طويلا أو قصيرا يعهد إلى السلطات المختصة بتنفيذ مقرراتها تحت مراقبة المجلس الأعلى للتعليم . ”

انتهى المقال.

إن تصريحات رئيس المجلس المشار إليها في مستهل المقال  نابعة من  ملاحظات تظهر تشبث الأعضاء بمواقف الهيئات التي يمثلونها سواء في الجلسات العامة  أو في مختلف اللجان و هذا أمر طبيعي.كيف يمكن إذن أن نطلب من أعضاء في المجلس الأعلى للتعليم يمثلون أحزابا أو نقابات أو جمعيات انتدبوهم بهذه الصفة أن يتخلصوا من مبادئ هذه الهيئات ؟ إنهم يجلسون أصلا في المجلس من أجل إبلاغ وجهة نظرهيئاتهم و الدفاع عنها. بل  إنه من المفروض فيهم و من واجبهم  أن يرجعوا إلى المنظمات التي  انتدبتهم على الأقل في الأمور المصيرية . يمكن الجزم أنه من الصعب جدا بل من المستحيل أن يتجرد السياسي  أو النقابي أو الجمعوي من عباءته ، و من حقه ذلك. صحيح أن إصلاح التعليم ورش سياسي بامتياز ، يجب أن يجد فيه مختلف الفاعلين أنفسهم سواء من خلال تبني آراءهم أو  تبني آراء غيرهم من أعضاء المجلس إذا تم ترجيحها في إطار حوار وطني حقيقي تذوب الذات الفردية أو الجماعية داخل المصلحة الوطنية العليا التي تروم مستقبل الأجيال. لكن الأمور التقنية الصرفة تبقى من اختصاص المتخصصين الميدانيين، نظرا لتكوينهم و مسارهم المهني و نظرا كذلك لارتباطهم اليومي بالموضوع.

كلام ذ. عزيمان و المقال المشار إليه سالفا يتقاطعان في الاستقلالية و التعاطي مع الصحافة . عملية الإصلاح  تحتاج إذن ثلاثة مراحل أو ثلاث محطات:

أولا،مرحلة المبادئ الكبرى وهي من اختصاص ممثلي المنظمات السياسية و النقابية  و المدنية (نسبة للمجتمع المدني) بامتياز.

المرحلة الثانية و هي مرحلة تقنية/أو تقنوقراطية و يجب أن تكون مستقلة بامتياز يتكلف بها متخصصون مستقلون. القاعدة العامة المعروفة دوليا هي أن أصحاب القرار يضعون مجموعة من الخبراء إلى جانبهم . يرجعون إليهم باستمرار في إطار تشاوري تفاعلي. و أؤكد مرة أخرى أنه يجب أن لا يفهم من هذا أنه تهريب لاختصاصات المجلس إلى وجهة أو هيئة أخرى، بقدر ما هو إسناد الأمورعن وعي إلى أهلها. إذا كان  الناس يعرفون حقا مختلف الأمراض و يعرفون كذلك الطبيب المتخصص ، فإن التشخيص و الوصفة تعود لهذا الأخير دون غيره. و من ثم جاء الجزء الثاني لعنوان هذا المقال “حتمية لجنة مستقلة في  مسلسل الإصلاح”. إن الأولى أن يتشكل المجلس من كفاءات مستقلة بدل أن يتشكل من تيارات.  و قد انتبه المشرع لهذا الأمر ،  حيث نجد في الجزء الأول من المادة 7 من القانون 105.12 المتعلق بالمجلس الأعلى للتربية و التكوين و البحث العلمي ما يلي :

“المادة 7: يتألف المجلس، علاوة على الرئيس الذي يعين من قبل الملك لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، من أعضاء يراعى في تعيينهم السعي إلى تحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال و النساء طبقا لأحكام الفصل 19 من الدستور، و يتوزعون كما يلي:

أ‌)      فئة الخبراء و المتخصصين :

تتألف هذه الفئة من 20  عضوا يعينهم الملك من بين الشخصيات المشهود لها بالخبرة و الكفاءة و التخصص في مجالات التربية و التكوين و البحث العلمي، يراعى في اختيارها التنوع و التكامل بين التخصصات.”

المفروض في هذه الفئة من الأعضاء الاستقلالية ، و أعتقد أنه لا بد من أعضاء مستقلين و ممارسين في الميدان.

المرحلة الثالثة هي مرحلة التنزيل و التأويل و هي مرحلة تعاون و تكامل بين الحكومة و المجلس الأعلى مع مراعاة إمكانية اللجوء إلى اللجنة التقنية المستقلة عند ا لاقتضاء.

الميثاق الوطني للتربية و التكوين وثيقة مهمة في تاريخ إصلاح المنظومة التربوية المغربية و ذلك نظرا لاعتبارين اثنين :

أولا ،إنها غير مسبوقة، و تحمل اسما له دلالة كبيرة (ميثاق)

ثانيا،تعتبر مرجعا أساسيا في نسبة عالية من اهتمامات و قرارات مختلف المتدخلين في الميدان

و رغم ذلك ، أصبح من الضروري الانكباب على مراجعته و تحيينه، خصوصا و أن العشرية المخصصة له قد انتهت منذ مدة .

المجلس الأعلى للتربية و التكوين و البحث العلمي مؤسسة دستورية لها دور محوري. لكن مخرجات هذا المجلس  و ما يتسرب من أعماله يثبت أنه أضحى من الضروري التفكير جديا في تأهيل طريقة اشتغاله.

بقيت بعض الإشارات من الضروري الوقوف عليها :

1 ورش اللغة : ضرورة مناقشة لغة التدريس بطريقة منفصلة تماما عن ملف تدريس اللغات. لقد آن الأوان للإمساك بهذا الملف الحارق و التحلي بالشجاعة  لاقتحامه و الكف عن الدوران من حوله خصوصا في هذه الظروف الوطنية المتسمة بالبناء الديمقراطي التشاركي و ارتفاع منسوب السيادة الوطنية .

2 لا مجال للإستعجال في ملف إصلاح التعليم.البرنامج الاستعجالي كان خطوة غير محسوبة بحجة أن نتائجه معروفة و كاريثية و تسبب في هدر الكثير من  المال العام.

3 ضرورة الاستقرار التام للمبادئ الكبرى التي تم الاتفاق عليها  مهما تغير المسؤولون مع تغير الحكومات. في هذا الصدد يجب أن تصمد المبادئ المتفق عليها على الأقل خلال جيل بأكمله. (Stabilité de la réforme pendant au moins une génération)

4 مقاربة التوافق التي غالبا ما يتم اللجوء إليها لا تكون دائما مجدية ،بل اعتبرها المرحوم المهدي المنجرة استمرار أو تمديد للأزمة. إننا في  حاجة ماسة إلى تعلم و تبني ثقافة اعتماد الرأي الراجح من بين عدة آراء مختلفة مهما كانت الجهة التي تقترحه.

بقيت الإشارة في الأخير إلى طلب عزيمان من أعضاء المجلس تجنب الانفلاتات أثناء تعاملهم   مع الصحافة . إنه مطلب ذو أهمية بالغة  نظرا لجسامة و قدسية الموضوع . و قد  جاء في مقال 1998 ما يلي:” و ربما يكون من الأفيد أن تدور النقاشات لوضع المبادئ الأساسية و الخطوط العريضة لهذا الإصلاح بعيدا عن الصحافة “. إنه في الحقيقة اقتراح أكثر تطرفا من طلب رئيس  المجلس الأعلى للتعليم.وبما أن المسألة التعليمية تكتسي الأولوية مباشرة بعد القضية الوطنية الأولى ، يمكننا استحضار ظروف حدث المسيرة الخضراء الذي نقش في ذهن الأمة بأكملها،   ليس من أجل التقليد الحرفي و لكن للإستفادة من منهجية العمل التي أعطت أكلها كما هو معروف جيدا. لقد تم التهيئ  و التخطيط للمسيرة الخضراء في سرية تامة ، و بعد ذلك ، تم الإعلان عنها  بعدما نضجت الفكرة و تم تنفيذها في الوقت المناسب .و منذ ذلك الوقت إلى اليوم، شكل هذا الملف وحدة وطنية نموذجية ، تكسرت فوق صخرتها كل المحاولات اليائسة التي حاولت و تحاول حشر أنفها في الموضوع مهما كان مصدرها. و قد شاهد العالم الرد الرائع للأمة برمتها على تصريحات  الأمين العام للأمم المتحدة.

نحن اليوم في حاجة ماسة و ملحة و مستعجلة لإجماع وطني حول ملف التعليم  يشبه إجماعنا حول القضية الوطنية.  يومها يصبح دور المجلس الأعلى دورا تقنيا محضا. و قد سبق للمغرب أن خطا خطوة في الاتجاه الصحيح يوم سطر المبادئ الأربعة المشهورة في فجر الاستقلال بخصوص ملف التعليم : التوحيد و التعريب و التعميم و المغربة .و بقية القصة معروفة و لا يجوز تكرارها.