مجتمع

“الدرازة” .. حرفة أصيلة تختزن موروثا ثقافيا يحفظ خصوصية نمط العيش القديم

مريم التايدي – عبد الله أموش/ الخزانة (قبائل الأخماس ضواحي شفشاون)

اِلتحفت مِئزر صوف مخطط وعقدته بقطعة فضية حول عنقها بعناية، وأحاطت خصرها بمِئزر آخر على طريقة لباس منطقتها، قبل أن تستقبلنا بفضاء تعاونية مخصص لحياكة منسوجات صوفية.

في عقدها الخامس تفتخر فاطمة ستيتو، رئيسة تعاونية النسيج التقليدي، بمهارتها في حرفة لطالما مارسها الرجال، وتقول بصوت واثق “أنا درازة، أنسج بيدي هاتين كل ما يمكن حياكته، وأفتخر بذلك”.

بإصرار لتطوير معيشهن اليومي، وفك العزلة عن منتوجاتهن وثقافتهن اجتمعت حوالي 19 امرأة وشابة من قرية الخزانة قبائل الأخماس ضواحي شفشاون في تعاونية للنسيج التقليدي (نشاط مستقل يخضع لتدبير ّمستقل ّوتشاركي، الانخراط فيه حر). نصبن “المرمات” آلات خشبية لصناعة القماش أو ما يعرف بالدرازة/ الحياكة التقليدية، واشتغلن على تطوير المنتج المحلي (المنديل أساسا/ وهو مؤزر مخطط لا تستغني عنه المرأة الجبلية، يَقِيها برد المنطقة ويحميها من وعورة التضاريس) في سلسلة متكاملة، حافظن من خلالها على اللباس المحلي الشمالي الجبلي تحديدا، وما يختزنه من هوية وثقافة وخصوصية محلية.

حرفة قديمة مهددة

تُرجع العديد من المصادر التاريخية حرفة “الدرازة” في الحضارة المغربية إلى أصول أندلسية. وفي لسان العرب “الدَّرْزُ واحدُ دُرُوز الثوب ونحوه وهو فارسي معرّب.. وجمعه دُرُوز وبنو دَرْزٍ الخياطون والحاكَةُ”.

وانتقلت الدرازة بآلياتها الحالية من المصانع الأوروبية أيام النهضة إلى دول أخرى منها المغرب، فانبرى الرجال لإتقانها، واليوم تعكف تعاونيات نسائية على احترافها وتطويرها.

وترتكز حرفة الدرازة على “المرمى”، وهي عبارة عن آلة خشبية تُطوى فيها خيوط الصوف ويتم تثبيتها بواسطة أربع أرجل خشبية، و”المنسج”و”المكوك الطائر” الذي بواسطته تتم عملية نسج الطعمة، إلى جانب “الناعورة” و”الجباد”.

ولعبت “الدرازة” أدوارا عدة، حيث زينت أجساد المدنيين والعرائس والقصور، وكست الجنود والمقاتلين في جبهات الحروب. وتلقفها اليوم الصناع التقليديون، وجعلوا منها رمزا لموروث ثقافي عابر للحدود، لكنها تواجه مخاطر الاندثار وتتراجع أمام المنسوجات الصناعية.

خصوصية وتميز

تعمل نساء الخزانة على نسج المنديل في حفاظ على ما أسمته فاطمة حيون (واحدة من المنخرطات النشيطات) بـ” رمز البلاد”، ويعملن على تطوير نسيج الصوف التقليدي إلى أغطية وأفرشة ومناديل للموائد، وكذا أغطية الرأس وشالات وحقائب يدوية ومعدات المائدة وستائر…

ويعتبر لباس منطقة الأخماس نمط من أنماط عدة للباس الجبلي (واللباس الجبلي تأثر بالرافد الأندلسي الذي يمثل بدوره واحدا من روافد اللباس المغربي المتعددة)والذي يتكون من الحزام الصوفي الطويل الذي يدار على خصر المرأة، وكان يساعدها على حمل الأثقال بظهرها، ومنديلا للخصر ويكون أقل درجة من المنديل الذي يوضع فوق الأكتاف، بالإضافة للسبنية/غطاء الرأس والشاشية (قبعة الدوم). وما تزال العروس بقرية الخزانة تحافظ على تقليد ارتداء الزي المحلي، في حين لا تستغني نساء المنطقة ككل عن المنديل.

ويعتبر الزي التقليدي عموما عمودا من أعمدة الثقافة المحلية وحاضنا لها، يختزن تاريخ ونمط عيش، ومستوى اجتماعي، وتمثل قيمي. يقول لنا الباحث في التراث المغربي هشام الأحرش إن اللباس معبر عن ثقافة الشعوب، والزي التقليدي عنوان انتماء ثقافي أساسا، يعطي القدرة على التمييز بين الجنسيات، ويمكّن من تمييز المناطق داخل البلد الواحد (حيث نميز في المغرب مثلا بين اللباس الجبلي الشمالي، واللباس الصحراوي واللباس الأمازيغي…)

ويعتبر الأحرش اللباس حافظا للخصوصية الثقافية وواحدا من التعبيرات الحضارية الصامتة الناطقة، ويوضح الأحرش أن الزعماء ورؤساء الدول كثيرا ما يحرصون في التظاهرات العالمية على الظهور بلباسهم التقليدي تعبيرا على الخصوصية والتميز.

يحافظن عليه ويحفظ عيشهن وكرامتهن

يمثل نساء الدرازة قصة قرية معزولة، كانت النساء فيها مهمشات، حاربن من أجل التعريف بالموروث، اِلتأمن حول “البصمة القديمة” و”الثقافة القديمة” وحافظن على “رمز البلد”، تحدين ظروف صعبة وعادات محافظة واكتسبن المهارة والجرأة والمعرفة مكنتهن من العيش الكريم وحافظت على كرامتهن وصانت مدخولا يطمحن لتطويره بالتعريف أكثر بثقافتهن وفك العزلة عن قريتهن والولوج أكثر للتسويق عبر الانفتاح على أسواق جديدة وعبر الجذب السياحي.

استفادت نساء دوار “الخزانة” من برامج تدريب ومرافقة النّساء المبدعات لبناء قدراتهن في مجال الصناعات الإبداعيّة والثقافيّة، التي تهدف لرفع الوعي وبناء المجتمعات المحليّة لضمان مزيد الاستدامة وترابط مشاريع الصناعات الابداعيّة والثقافيّة، وطورنا مهارتهن يوما عن يوم، يمشين باعتدال بين صون الموروث والتمكين لثقافة البلد والتطور والانفتاح.

الدرازة حرفة إبداعية فنية

غير بعيد عن دوار الخزانة، استقبلنا سعيد أصبان في منظر بانورامي تتجلى من خلاله مدينة شفشاون في أبهى صورها. من سطح منزل حوّله إلى متحف مفتوح يزخر بلوحات وصور ومنسوجات يفوح منها عبق المكان، يعمل سعيد ليل نهار على التعريف بالموروث الثقافي للمنطقة.

بعيدا عن حياكة الأثواب والملابس، وبنفس طريقة الدرازة يشبك بين الخيوط، ويمازج بين الألون وينسج المشاهد، ليبدع لوحات نسيجية وفنية تشبه اللوحات الزيتية غير أنها من صوف وخيط حيكت بمرمى الدرازة.

يقول سعيد “نحافظ على ثقافتنا ونسوق لها، بحب ومحبة، ويكفي أن يكون لديك فكر وإرادة للقيام بذلك”، ويضيف من خلال “المرمى” آلة نسيج متنقلة، اقتحمت المجتمع المدني النرويجي، وقد أسسنا جمعية أسميناها “كونفيدينسيا” أي التعايش، تضم 36 جنسية من حول العالم.

ويسرد علينا سعيد غيض من فيض ذكريات عاشها وعايشها أثناء تواجده في القارة الأوروبية، وسنحت له الفرصة ليضع بصمة موروثه الثقافي عليها، فهو الذي طاف وجال الكثير من الدول في الجوار الأوروبي، وسنحت له الفرصة لعرض لوحاته ومنسوجاته اليدوية في متاحف ومعارض متعددة.

كان سعيد يتواجد في أسلو لما نفذ المتطرف النرويجي “أندرس بيرينغ بريفيك” هجوما دامٍ راح ضحيته 77 قتيلا بتاريخ 22 يوليوز 2011، في تفجير سيارة مفخخة. سعيد الذي أصيب بشظايا الحادث، وثق الواقعة المأساوية بطريقته الخاصة، حيث هرع بآلة نسج متنقلة إلى عين المكان، وقام في حينه بغزل لوحة فنية بمعية صديق ألماني، وقدماها كهدية رمزية للضحايا.

سعيد فنان عصامي، يدفعه شغفه الفني لتكوين العشرات من الشباب في المغرب وفي الدول الأوروبية، ويعتبر الدرازة حرفة إبداعية فنية ساهمت اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا في تنمية المنطقة عبر التاريخ.

تركنا سعيد يسارع الخطى قصد تنظيم معرض مصغر خارج المغرب، معتبرا أن الفن الإبداعي يساهم في التلاقح الثقافي وحسن الجوار، وتتبعنا منسوجات حرفة الدرازة المعروضة بشفشاون، التي قال عنها سعيد” هي لوحة فنية مفتوحة لكل العالم”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *