منوعات

كيف نجعل من الهجرة فرصة لا تهديدا؟

عرفت الهجرة المغربية بكل أنواعها تطورات كبيرة، إن على مستوى التحولات التي طبعت مساراتها المختلفة، من وإلى المغرب، أو على مستوى سياسات الدولة حول هذه القضية الحساسة.

فإذا كانت الهجرة المغربية في البداية مرت من هجرة ذكورية بامتياز إلى هجرة تتجه نحو غلبة التأنيث حاليا، ومن هجرة لتصدير الجيوش ثم اليد العاملة فإنها اليوم تستمر بتصدير الكفاءات. وفي الوجه الآخر للقضية تحول المغرب من دولة تصدير الهجرة إلى دولة استقبال الهجرات المختلفة سواء تعلق الأمر بالهجرات السوسيو اقتصادية، مثل التي صدرها عبر التاريخ، أو تعلق بهجرات اللاجئين من مناطق الحرب، وخاصة مهاجري العراق وسوريا حاليا. وعرفت وضعية استقبال الهجرة طفرات كبيرة تحول معها المغرب من بلد عبور نحو الضفة الأوروبية إلى بلد استقرار دائم.

وهذه التطورات تنشئ لا محالة تحديات اجتماعية واقتصادية لا بد من مواكبتها على مختلف الأصعدة وبفعالية تحولها إلى عوامل بناء اقتصادي، وعوامل استقرار اجتماعي، وعوامل دعم الاستراتيجيات الوطنية خاصة ما يتعلق منها بالعلاقة مع دول إفريقيا جنوب الصحراء. وهذا يتطلب جهودا كبيرة تبدأ بتغيير نظرتنا إلى الهجرة بكونها في العمق فرصة لا تهديدا.

فهجرة المغاربة نحو الخارج نُظر إليها على الدوام على أنها فرصة، حيث أنشأت قطاعا اقتصاديا حيويا يعتبر اليوم أحد ركائز الاقتصاد المغربي، وذلك من خلال تحويلات المهاجرين المالية الضخمة ما يرفع احتياطي العملة الصعبة، والتي تساهم بفعالية كبيرة في تنشيط الاستثمار وفي تنمية القطاع البنكي. كما أن تلك الهجرة شكلت مصدر دخل استفادت منه مئات الآلاف من الأسر، ساهم في تحسين ظروف عيشها، ونشط قطاعا من المجتمع المدني أطلق ديناميكية تنموية معتبرة كان لها يد في فك العزلة عن العديد من المناطق المهمشة وتحسين بنياتها التحتية، كما تحولت فترات زيارات المهاجرين المغاربة لبلدهم إلى مواسم للرواج الاقتصادي المحلي. غير أن تلك الهجرة شكلت بالمقابل ورقة سياسية تضبط إيقاع العلاقات المغربية مع الدول التي تستقبل جاليته. كما فرضت على الدولة وضع سياسات عمومية متنوعة لحسن استثمار الفرصة التي تشكلها تلك الهجرة للوطن ككل.

أما اليوم، وفي ظل الخطوات المهمة التي خطاها المغرب في سبيل التعاطي الإيجابي مع المهاجرين المقيمين على أراضيه بعد فتحه ورش تسوية وضعيتهم القانونية للمرة الثانية، فإن المغرب يدخل بذلك نادي الدول التي تدبر ملف الهجرة على أساس أنه فرصة للدولة والمجتمع معا، وأن المقاربة الأمنية التي كانت تروم الحد من الهجرة وطرد المهاجرين أو دفعهم إلى المغادرة بإغلاق كل أبواب الاستقرار في وجههم، ينبغي تكييفها مع التوجه الجديد في سياسة الدولة، وذلك بأن تُزاوَج بمقاربة حقوقية وإنسانية، تروم دمج المهاجرين سوسيو اقتصاديا في المجتمع المغربي، وتمتيعهم بكافة حقوقهم التي تكفلها المواثيق الدولية، والتي تجعل الشرعيين منهم مواطنين مغاربة، لهم نفس الحقوق التي يتمتع بها المواطنون المغاربة، يحبون بلدهم الثاني ويسعون في بنائه وازدهاره واستقراره.

ولا شك في أن جهودا عظيمة مطلوبة لتأمين حسن الانتقال من منظومة أمنية ترى في المهاجر تهديدا، تغذيه صور نمطية مسيئة تملأ الإعلام وتنتشر في الأوساط الاجتماعية، تربط المهاجر بالإرهاب وبالمخدرات وبالعنف وبمرض “السيدا”.. وغير ذلك مما تكون نتيجته استبعاد المهاجر في النهاية من الحياة الطبيعية والكريمة وسط المجتمع، إلى منظومة ترى في المهاجر فرصة، ينبغي حسن استثمارها، وتغليب خيرها على ما تنطوي عليه من “شرور” تصاحب طبيعيا كل الهجرات بما فيها هجرات المغاربة إلى الخارج.

ولا شك أن التحول المشار تعترضه تحديات ينبغي العمل الجاد والفعال على التغلب عليها. وقد يكون على رأس تلك التحديات أنه بانفتاح المغرب، المطل على أوروبا التي تعتبر “جنة المهاجرين الأفارقة”، على المقاربة الإنسانية والحقوقية التي تضع المهاجر في إطار الشرعية، سيتحول إلى قطب للهجرة تتجه إليه مساراتها الإقليمية، مما سيجعل مجتمع المهاجرين في المغرب يعيش على إيقاع طفرات ديموغرافية وسوسيو ثقافية هائلة، تطرح تحديات ثقيلة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، وعلى مستوى التنوع الثقافي والديني، وغير ذلك من المستويات.

إن الانتقال الناجح إلى مقاربة “الهجرة فرصة” يتطلب استراتيجية مندمجة تشمل فتح عدة أوراش كبرى، تشمل تأهيل الإطار التشريعي والقانوني، وإحداث مؤسسات متخصصة، وأَنْسَنة المقاربة الأمنية، ووضع سياسات جديدة في التنشئة تدمج الإعلام والمؤسسات الدينية لبث القيم الضرورية لتشكيل صور إيجابية حول المهاجرين لدى المواطنين المغاربة. وانخراط الأحزاب في تأطير هؤلاء المهاجرين ببرامجها تمهيدا لإشراكهم في الحياة السياسية، وتحرك المجتمع المدني في أوساط المهاجرين بما يساعدهم على حسن الاندماج وسرعته في المجتمع المغربي، وبما يعينهم على الحياة الكريمة.   

إن ملف الهجرة ينبغي أن يحرر من طابع “الطابو” الذي يحيط به، وأن تنخرط الأحزاب السياسية في مناقشته واعتماده في برامجها وخطاباتها وأنشطتها، ويشارك الفاعلون في الدعوة والتربية من تنشيط المقاربة الدينية التي تعتبر المهاجر، كيفما كانت ديانته وقيمه، عابر سبيل له حقوق واجبة على الدولة المسلمة وعلى المواطنين، ونشر الثقافة الدينية الأصيلة التي تنظر إلى المهاجر بإيجابية وتعطيه حقوقا تتعلق بأمنه وعيشه الكريم …

إن المغرب بانتقاله إلى المقاربة الإنسانية والحقوقية في تعاطيه مع ملف المهاجرين قد فتح بابا عريضا يفرض على الجميع، دولة ومجتمعا، وأحزابا سياسية، وفعاليات مدنية واقتصادية ودينية وثقافية وفكرية، الانخراط في تلك المقاربة لتحويل مجتمع المهاجرين في المغرب إلى فرصة لتنمية المغرب وازدهاره. ويفرض على الدولة تبني استراتيجية وطنية شاملة ومندمجة تكون فلسفتها “الهجرة فرصة لا تهديد”.