وجهة نظر

منتدى تعزيز السلم.. السياق والمناسبات

احتضنت العاصمة الإماراتية أبوظبي أخيرا، النسخة الثالثة من منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، وهي مناسبة يستعرض من خلالها المشاركون من العلماء والمفكرين وجهات نظرهم في كيفية تأصيل ثقافة السلم والسلام التي يدعو إليها الإسلام في جميع نصوصه.

وإذا كان المنتدى قد دعا في نسختيه الأولى والثانية، حسب ما جاء في الورقة التقديمية، إلى إعلان الحرب على الحرب، لتكون النتيجة سلما على سلم، وإعادة برمجة الأولويات وتأهيل العقول وتدريب النفوس على إدراك محورية السلم في ديننا وشريعتنا وتراثنا الإسلامي المستنير، لمواجهة الخطر الراهن المحدق بالمجتمعات المسلمة، وهو خطر ليس فقط يأباه ديننا وتجرمه شريعتنا فحسب، وإنما هو خارج عن نطاق العقل وينافي القيم الدينية والأخلاقية والمفاهيم الإنسانية بكل مستوياتها، كما يقول العلامة ابن بيه.

فإنه في نسخته الثالثة، يدعو واستنادا إلى ما جاء في إعلانه، إلى مواصلة جهود البحث وتأصيل ثقافة التلاقي والتعارف الكامنة في روح الإسلام منذ فجره الأول، والبحث كذلك في المخاطر التي تعصف بالأمة الإسلامية وإمكانية وضع حد للنزيف الذي يهدد مستقبلها، من خلال العمل على توضيح العلاقة بين مفهوم الدولة الوطنية المعاصرة، ومفهوم الدولة في نصوص وتاريخ الإسلام، وذلك في ظل ما عرفته المنطقة من تذرع وتوسل بمفهوم الدولة، لاستباحة الحرمات، والحط من شأن الإنسان، والتآمر على الأوطان باسم الدين.

وسبق لمنتدى تعزيز السلم بالمجتمعات الإسلامية أن نظم بتعاون مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية مطلع السنة الجارية (2016) بمدينة مراكش، مؤتمرا حول الأقليات الدينية في الديار الإسلامية: الإطار الشرعي والدعوة إلى المبادرة” وهو اللقاء الذي ضم أزيد من 300 فقيها ومفكرا وباحثا من أكثر من ستين بلدا، وقد تمخض اللقاء عن بيان سمي “إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي”، نص من بين ما نص عليه على ضرورة التعاون بين جميع أهل الأديان واعتبار ذلك أمرا حتميا تدفع إليه المخاطر والأزمات التي تتولد عن الصراعات الدينية والطائفية المهددة للحضارة الإنسانية، كما نص على ضرورة دعوة علماء ومفكري المسلمين إلى العمل على التأصيل لمبدأ المواطنة الذي يستوعب مختلف الانتمـاءات، وحث المؤسسات العلمية والمرجعيات الدينية على القيام بمراجعات شجاعة ومسؤولة للمناهج الدراسية والتعليمية للتصدي للمضامين التي تولد التطرف والعدوانية.

وليست هذه هي المرة الأولى التي تنعقد فيها مثل هذه المنتديات في البلاد العربية، فقد سبق للمغرب أن استضاف سنة 1998، حلقة تأملية موضوعها “حوار أديان التوحيد السماوية” بمبادرة من منظمة اليونسكو، وقد تمحورت هذه الحلقة حول مرجعية أخلاقية مشتركة بين الأديان السماوية، بهدف ترسيخ ما أسمته الندوة بـ”ثقافة السلم والسلام”.

وتتضارب الآراء حول أسباب ومسببات تنظيم مثل هذه المنتديات، كما تتضارب حول المناسبات والسياقات، إلا أن أغلب المتتبعين للشأن الديني يشيرون إلى أن ذلك يأتي في سياق الدعوات الغربية الرامية إلى إعادة النظر في الحقل الديني في البلاد العربية والإسلامية، وقد اتخذت هذه القضية بعدا أكثر إلحاحا عقب أحداث الحادي عشر من شتنبر 2001 التي عرفت تورط تنظيم القاعدة الذي كان يتزعمه حينها “أسامة بلادن”، ما يدل على أن الأفكار النابعة من المناهج التربوية والإرشادية في مؤسساتنا الدينية هي المتهمة الأولى في إثارة التعصب وتبني الأفكار المتطرفة، وهي التي أدخلت البلدان العربية والإسلامية في قلب موجة تشدد طالت الداخل والخارج، وهذا هو ما يفسر تعرض الجالية العربية والمسلمة في أوروبا وأمريكا لمجموعة من الاستفزازت والمضايقات فيما بات يعرف بـ”الإسلاموفوفيا”.

فمباشرة بعد هذه الأحداث الإرهابية، كثفت الولايات المتحدة الأمريكية من دعواتها لإجراء إصلاحات في الحقل الديني في مجموع الدول العربية والإسلامية، من أجل التخلص من كل مظاهر التعصب الديني والأفكار التى تدعو إلى التطرف.    

وفي هذا الصدد كشف تقرير خاص من (38 صفحة) صدر في السنوات الأخيرة عن مركز الحريات الدينية التابع لمؤسسة “فريدوم هاوس” عن أن”إلقاء نظرة سريعة على نماذج من الكتب الرسمية في الدول العربية والإسلامية للدراسات الدينية المستخدمة يكشف أن أيدلوجية الكراهية ضد المسيحيين واليهود لازالت واقعا قائما في النظام التعليمي على الرغم من كل التصريحات والمزاعم حول إزالتها وتعديلها”.

ويحتوي التقرير على تفاصيل واقتباسات كثيرة من مناهج وكتب الدراسات الإسلامية منذ المرحلة الأولى الابتدائية، حيث “تعلم الكتب الطلاب إن العالم ينقسم إلى مؤمنين وكفار وحتى المرحلة الثانوية التي تحتوي أحد نصوص كتبها على أن المسلم مكلف بنشر الإيمان بين الناس بكافة الوسائل بما فيها القتال والجهاد”.

ويخلص هذا التقرير إلى القول “إن التعليم هو صلب معركة الحرية في العالم الإسلامي، وأن فشل هذه الدول في إصلاح المناهج الدينية سيقوض فرص نجاح السياسة الخارجية الأمريكية الهادفة إلى تشجيع الاعتدال وتعزيز الديموقراطية داخل العالمين العربي والإسلامي”.

ويبدو واضحا من خلال هذا التقرير أن مثل هذه المنتديات هي جزء من الاستراتيجية الأمريكية التي تضع الجميع في سلة واحدة بما في ذلك مؤسساتنا الدينية خاصة تلك التي تحظى بمواقع حساسة في منظومتنا التربوية، وهي تسعى من خلال كل ذلك إلى إنتاج أخرى بديلة لكن بمعايير ومقاييس أمريكية.

ويمكن في هذا الإطار التقاط إشارتين مهمتين، الأولى هي التقاء في نونبر الماضي بأبوظبي، الأمير تشارلز، ولي عهد بريطانيا، العالم الموريتاني الشيخ عبد الله بن بيه، رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، حيث ناقشا معا الأوضاع في الشرق الأوسط ونظرة الغرب للمسلمين ونقاط الالتقاء التي ينطلق منها الإسلام الوسطي المعتدل، والذي ينبذ الغلو والتطرف والإرهاب، والثاني هو تكريم هذا الشيخ في واشنطن وقبل أسبوع فقط من هذا اللقاء، بجائزة الحرية الدينية من قبل السيد جيفري هربتس، رئيس متحف الصحافة والإعلام “نيوزيام”، ليصبح بذلك الشيخ بن بيه أول عالم دين يمنح هذه الجائزة الأمريكية.

وتقام هذه المنتديات في البلدان العربية والإسلامية لاعتبارين اثنين، الأول هو أن الحوار في هذا المجال لا يمكن أن يجري في أرقى مستوياته إلا من بوابة الدين، ذلك أن الدين إلى جانب نزوعه الروحي، هو موطن الذات ومسكن الهوية إلى جانب اللغة، وبحكم أن المجتمعات تنزع أول ما تنزع حينما تتعرض هويتها للاستلاب إلى الاستمساك بمقوماتها الروحية. 

والاعتبار الثاني هو التأكيد على أن الاعتماد على المقاربة الأمنية وحدها في التعاطي مع ملف التطرف والإرهاب لا يمكن أن يعطي النتائج المرجوة منه، لذا كان من الضروري البحث عن مقاربات أخرى فعالة ومجدية ومكملة، من شأنها أن تفي بالغرض، ومنها هذه المقاربة التي تتوخى السلم الفعلي وترسيخ قيم المواطنة والتعايش المشترك بين كل المواطنين في البلدان الإسلامية، ولذلك رفعت شعار “الدولة الوطنية في الفكر الإسلامي”.