منوعات

سر الإسكندر الأكبر.. ماذا تعرف عنه

لم تحظَ شخصية عبر التاريخ بهذا القسط الوافر من الاهتمام الذي حظيت به شخصية الإسكندر الأكبر، وكما كانت حياته القصيرة ممتلئة بالصراعات والفتوحات التي لم يخسر فيها أية معركة عبر خمسة عشر عاماً من النجاحات، فقد كانت أيضاً وفاته مثار اهتمام الباحثين حتى يومنا هذا؛ نظراً للغموض الذي أحاط بوفاته في سن صغيرة (32 عاماً)، وذلك ببابل عام 326 ق.م، ومن كان لديه الدافع للإقدام على هذه الخطوة؟ وما هي نوعية السم الذي وضع نهاية لواحد من أعظم القادة العسكريين عبر العصور، الذي أسس أكثر من عشرين مدينة تحمل اسمه في أنحاء مختلفة من إمبراطوريته، أشهرها مدينة الإسكندرية في مصر؟ كل هذه الأسباب وغيرها جعلت الاسكندر لغزاً محيراً على جميع الأصعدة.. والأكثر جدلاً بين الباحثين هو موضع هذه الشخصية من التفسير القرآني وهل كان الإسكندر هو “ذو القرنين”؟!

ونستهل مقالنا بالإجابة عن السؤال السابق: هل الإسكندر حقاً هو ذو القرنين؟!

ذُكر ذو القرنين في القرآن الكريم في سورة الكهف حين بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة لإحراج النبي -عليه الصلاة والسلام- بالأسئلة، فأشار اليهود على كفار مكة بأن يسألوا الرسول عن الروح وعن فتية فُقدت وعن ذي القرنين، فجاء الرد في سورة الكهف فيما يخص ذا القرنين بدءاً من الآية 83 حتى الآية 98: “وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً”.

الطبيعي أن يكون سؤال اليهود عن شخصية تحظى باحترام لديهم وتركت أثراً في تاريخهم، وهو ما ينطبق تماماً على الإسكندر الأكبر، وعلاقة اليهود بالإسكندر الأكبر بدأت عندما أغار الإسكندر على فلسطين في نحو سنة 333 ق.م، فلما اقترب من أورشليم خرج إليه الحاخام اليهودي الأكبر في موكب مهيب، واستقبله بحفاوة، وتصف الروايات اليهودية هذا الاستقبال بأنه كان فريداً من نوعه؛ إذ قدم فيه اليهود ولاءهم وإخلاصهم للإسكندر، رغم أنه ألحق الهزيمة بجيوش حماتهم فارس.

ويذكر المؤرخ اليهودي الروماني، المدعو يوسف بن ماتيتياهو، والشهير باسم يوسيفوس فلاڤيوس، أن الأحبار عرضوا على الإسكندر الإصحاح الثامن من سفر دانيال، الذي يتحدث عن أن ملكاً إغريقياً عظيماً سوف يغزو أراضي الإمبراطورية الفارسية، وأن شاه فارس صاحب القرنين عظيم الشأن لن يقوى على الوقوف في دربه، ويبدو أن الإسكندر تأثر جداً من استقبالهم له بهذه الحفاوة، كما طرب عند سماعه نبوءة تتعلق به، وأصدر أمره بإعفاء الشعب اليهودي من دفع الجزية والضرائب في الأعوام السبتية، كما سمح لليهود في “بيت المقدس” بحرية الديانة، وقدر من الاستقلال الذاتي.

تختلف المصادر الإسلامية حول تحديد شخصية الإسكندر، والقائل منهم إنه ذو القرنين هو الإسكندر ما أخرجه الطبري ومحمد بن ربيع الجيزي في “كتاب الصحابة الذين نزلوا مصر”، بإسناد فيه ابن لهيعة، أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذي القرنين فقال: كان من الروم فأعطي ملكاً فصار إلى مصر وبنى الإسكندرية، فلما فرغ أتاه ملك فعرج به، فقال: انظر ما تحتك، قال: أرى مدينة واحدة، قال: تلك الأرض كلها، وإنما أراد الله أن يريك وقد جعل لك في الأرض سلطاناً، فسِر فيها وعلم الجاهل وثبت العالم، والحديث إسناده ضعيف.
وفي سيرة ابن هشام ما يلي: “ذو القرنين هو الإسكندر الأكبر اليوناني، ملك فارس واليونان، أو ملك المشرق والمغرب، ولهذا سمي ذا القرنين “، وذهب إلى ذلك الزمخشري والرازي والبيضاوي والسيوطي في تفسير الجلالين.
غير أنه وفي المقابل فرَّ جملة من المفسرين الآخرين من هذه الاحتمالية، ودافعهم في ذلك هو أن الإسكندر كان وثنياً، وبالتالي فمن غير المعقول أن يكون هو الرجل الصالح العادل الوارد ذكره في القرآن الكريم، وعلى رأسهم ابن تيمية الذي نعت من يظنون أن هذا الإسكندر هو “ذو القرنين” المذكور في القرآن، ويعظمون أرسطو ويظنون أنه كان وزير ذي القرنين بالجهال!!

فهل كان الإسكندر وثنياً حقاً؟!

كان الإسكندر تلميذاً لأرسطو الفيلسوف اليوناني الشهير، الذي نرجح أنه لم يكن مشركاً، ولأن أرسطو كان تلميذاً لأفلاطون، فيمكننا معرفة معتقداته من خلال معلمه أفلاطون، ونترك الرأي في أفلاطون لابن القيم (ابن القيم هو تلميذ ابن تيمية)، في كتابه إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، الذي يتحدث عن أفلاطون بأنه كان معروفاً بالتوحيد، وإنكار عبادة الأصنام. وإثبات حدوث العالم، وكان تلميذ سقراط (تذهب بعض الدراسات إلى أن سقراط كان تلميذاً للقمان الحكيم الوارد ذكره في القرآن؛ بل ذهب البعض إلى أنه لقمان نفسه!!)، ولما هلك سقراط قام مقامه وجلس على كرسيه.

ومما يروى أن الإسكندر عندما كان أميراً، سعى للقاء الفيلسوف الزاهد الشهير ديوجين، الذي رفض كل متع الحياة وكان ينام داخل جرة من الفخار، وقد أنهى ديوجين لقاءه بعبارة رائعة، مخاطباً الإسكندر، بقوله: أرجو أن تبتعد قليلاً من أمامي فقد حجبت عني يا هذا نور الشمس، ولم يعد بإمكاني -ما دام ظلك في وجهي- أن أنعم بأشعتها الذهبية، وكأنما أراد أن يُعلِّم الإسكندر درساً في فلسفة الحياة، وكيف أن فتوحاته العظيمة ومجده لا تعادل جميعها في نظر هذا الفيلسوف الإنسان ديوجين بعضاً من أشعة الشمس المملوكة للجميع! ترك ديوجين أثراً طيباً في نفس الإسكندر للدرجة التي جعلته يقول: “لو لم أكن الإسكندر، لكنت ديوجين”.

أما الصورة المغلوطة عن الإسكندر أنه الملك اللواطي الفاجر فلا يوجد أي نص قديم يفيد بأنه كان شاذاً أو دخل في علاقة شاذة وإنما يستند هذا الادعاء إلى تأثره وبكائه الشديد على صديقه ورفيق طفولته هيفاستون حين توفي، وأن هذا التأثر كان السبب في تراجع صحة الإسكندر، وهو ما استنتج منه شذوذه الجنسي مع صديقه وهو الاستنتاج غير المنطقي، وقد آن الأوان لتصحيح مثل هذه الصور المغلوطة التي يتناقلها العامة، وذلك بالنظر بالكلية لهذه الشخصية، ودراسة كل ما يحيط بها من كتابات بمنطق وحيادية تامة.

من الكتابات شديدة الجدل والمعاصرة لسيرة الإسكندر: تاريخ سودو كاليسثينيس (أو كاليثينيس المزيف كما يسميه البعض لانتحاله شخصية كاليثينيس الحقيقي الذي كان مصاحباً للإسكندر الكبير وكتب هذه القصص شديدة المبالغة باسمه على حد زعمهم)، وقد تمت ترجمته وصياغته في قالب شعري باللغة السريانية بواسطة الأسقف السرياني يعقوب السروجي، وهو من الشخصيات بالغة الأهمية في الثقافة السريانية، وخصوصاً من الناحية الدينية، والذي توفي عام 521 للميلاد، وعلى الرغم من أنه لا يمكن التعويل على هذه المصادر شديدة القدم لكثرة الشكوك حول صحتها وتعدد الآراء حولها بين مؤيد ومعارض للأخذ بها، فإنه يمكن الاستئناس بأجزاء من هذه الترجمة الشعرية بافتراض صحتها؛ لأن تفاصيلها جاءت متفقة مع ما جاء في القرآن عن ذي القرنين، وتؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه الإسكندر الأكبر، وتروي قصة حجزه ليأجوج ومأجوج.

ونسوق مقتطفات منها من أن الإسكندر قال في إحدى صلواته “يا الله.. قد جعلت لي قرنين على رأسي”، كما تسوق رسالة من الإسكندر إلى أمه، يقول فيها: “لقد استأذن المعبود الأسمى، وقد سمع لصلواتي، وأمر المعبود الأسمى الجبلين فتحركا واقتربا من بعضهما إلى مسافة 12 أيلاً وهنا بنيت بوابتين نحاسيتين بعرض 12 أيلاً وارتفاع 60 أيلاً طليتهما من داخل ومن خارج.. وقد دعوت البوابتين ببوابتي قزوين، وقد حجزت بواسطتهما اثنين وعشرين ملكاً”.

 
وفي النهاية ومع إجابتنا على السؤال الأول، ننتقل إلى المبحث الخاص بوفاة الإسكندر؛ حيث تزعم الرواية التاريخية أن الإسكندر المقدوني بعد عدة ساعات من وليمة شراب بدأ يحس بألم شديد في جسده وارتفاع الحرارة والتشنّجات القوية، بالإضافة إلى الهذيان، وبعدها فارق الحياة.

تعددت فرضيات أسباب موت الإسكندر المفاجئة بين الإصابة بالملاريا أو حمى التيفوئيد أو تسمم بالكحول. فيما تزعم بعض الأبحاث أن الإسكندر راح ضحية عدوى مرض غرب النيل، الذي تنقله الطيور وتهلك بسببه، مستندين في ذلك إلى أن سرباً من طيور الغداف (الغراب الأسود) سقط ميتاً عند قدمي الإسكندر قبل وفاته بأسبوعين، وأن موت الغربان لم يكن نذير شؤم؛ بل إنه على النقيض يشكل مفتاح اللغز لموت الإسكندر.

غير أنه تبقى الفرضية الأقرب للإثارة لدى الباحثين وهي تسميم الإسكندر وطِبقاً للسجلات القديمة، فإن جسم الملك قاوم التحلل لفترة 6 أيام بعد موته، وهو ما يعني أن السم الذي قتل الإسكندر قادر على حفظ الجثة وإبطاء عملية التحلل لديه، مما جعل بعض الأبحاث ترجح فرضية تسمم الإسكندر بالزرنيخ، وأن الزرنيخ وحرارة بابل ساهما معاً في تحنيط جسد الإسكندر.

ترجح بعض الأبحاث الأخرى تسمم الإسكندر بنبات الخربق الأبيض (يسمى زهرة عيد الميلاد)، وقد اشتهر كدواء لدى الإغريق لعقود طويلة، ولكن في نطاق محدود لسميته الشديدة في الجرعات العالية، وقد يكون هذا الخربق قد تمت إضافته بقصد قتل الملك من خلال تخميره وإضافته للنبيذ الذي أُعطيَ للإسكندر، أو بغير قصد كدواء، ولكن بجرعات كبيرة على سبيل الخطأ أودت بحياته.

ثمة أبحاث أخرى رجحت الإستركنين بسبب التشنجات التي سبقت وفاة الإسكندر وأبحاث أخرى ربطت أعراض موته بأعراض التسمم بالماء الأسود لنهر ستيكس التي تحوي مركب (كاليتشياميسين calicheamicin) عالي السمية، الذي تسببه البكتيريا القاتلة (Micromonospora echinospora) كما أن حجر الجير المنتشر لدى اليونانيين يمكن أن يساعد على انتشار هذه البكتيريا.

الطريف أن كاليتشياميسين أمكن توظيفه حالياً كعلاج للسرطان خاصة في حالة (ابيضاض الدم النقوي الحاد Acute Myeloid Leukemia).

لقد حاولنا في بحثنا هذا أن نقتفي أثر الحقيقة بين جنبات الآثار القليلة والأساطير الكثيرة والنظريات العديدة، وأن نجتهد في تقديم إجابة معقولة ولا نقول نهائية عن أسئلة حائرة لقرون عديدة عن شخصية ملأت الأسماع والأبصار بحضورها الطاغي، ولا تزال حتى يومنا هذا.