وجهة نظر

شجرة العالم، والعجوز موزع الفرح، وتقارب الحضارات والثقافات والأديان.. في عيد الميلاد الجديد

التغيير سنة الحياة، والتغيير يبدأ من الذات والنفس، وتبدل السنوات وقدوم سنوات جديدة يعني أنّ أمامنا فرصة رائعة للتغيير والتحسن إلى الأفضل، فرصة ركيزتها الأمل والتفاؤل، وعلينا أن نستغل هذه الفرصة، عام جديد يعني فرصة جديدة تتكرر في كل يوم من أيام السنة الجديدة التي نقف على أعتابها مشحونين بالحب والأمل الكبير، وعندما ننظر إلى هذا العام سنرى الكثير مما أخافنا وأيضا الكثير مما أحزننا، وتكثر وتكبر التساؤلات، لكن سياق وقفتنا اليوم تساؤلات ذات أولوية فرضتها الظرفية والمناسبة، ولأن المناسبة شرط، فإن العديد من الناس يتساءل مع قدوم مناسبة الاحتفال بعيد الميلاد ورأس السنة الجديدة عن العجوز البشوش صاحب الذقن الطويلة البيضاء والرداء الأحمر والعصا الطويلة الذي يحمل الهدايا في كيسه القطني الأحمر، ويطوف ليلا فوق طوافة يجرها ثمانية من الغزلان متنقلا من دار لأخرى يضع الهدايا أمام أبوابها، لقد أصبح هذا الشيخ ” بابا نويل” عرف منذ القرن التاسع عشر لا تأتي الهدايا إلا معه ولا تتحقق الأحلام إلا بقدومه على عربته الشهيرة مع بداية كل عام ميلادي جديد التي تجرها الغزلان على الثلج في جيرولاند أو حتى على ظهر قارب،  لقد غمس “فنان الكاريكاتور توماس نيست” ريشته في الألوان ورسم على الورق “سانتا كلوز” سمينا ذا خد متورد ولحية طويلة بيضاء احتفالا بأعياد الميلاد ونشرتها إحدى المجلات في وقتها فأصبحت هذه الصورة هي المعتمدة لشخصية “بابا نويل” أي أب الميلاد بالفرنسية ، أما الانجليز والأمريكيين فيطلقون على موزع الفرح في قلوب الأطفال “سانتا كلوز” الذي يعني بالإيطالية القديسة…وهناك قصص وأساطير عديدة حول هذه الشخصية التي أحبها جميع الأطفال في العالم، وتروي الأساطير أن “بابا نويل” يسكن القطب الشمالي في مكان بارد جدا من جرينلاند الجزيرة الأكبر في العالم، حيث يقف بابا نويل بكل هيبته أمام كوينجز جاردن، مزرعة الملك ومسكنه الذي يعيش فيه ويتدلى من عنقه المفتاح الذهبي لمصنع الألعاب الذي يعمل فيه على إعداد الهدايا ليؤكد بإصرار على أنه الوحيد الذي يصنع البهجة في النفوس، وتروي قصة شهيرة أنه منح ثلاث عذارى فقيرات في ليلة عيد الميلاد أموالا مكنتهن من الزواج ، وقد جعلته هذه القصص منبع الكرم ومصدر العطف والحنان على الأطفال لأنه ارتبط بعيد مولد السيد المسيح القائل ” دعوا الأطفال يأتون إلي ” في لفتة إنسانية”، وتختلف احتفالات رأس السنة الميلادية من بلد لآخر، فمثلا التقويم”الجريجوري” هو تقويم مقتبس عن التقويم الذي ابتدأ به العمل في عهد الامبراطورالروماني “يوليوس قيصر” الذي يبدأ من أول فبراير وهو تاريخ بداية العمل بالقانون المدني الذي ينص على أن يتولى الشعب حكم نفسه عن طريق نوابه لمدة سنة، ومنذ آلف السنين كانت البشرية تعتبر فصل الربيع هو بداية عودة الحياة إلى الأرض بعد انقضاء فصل الشتاء، ولذلك يعتبر بداية السنة الجديدة، وكانت تستمرالاحتفالات سبعة أيام .

أما الاحتفالات البابلية برأس السنة فكانت أكبر وأضخم من احتفالات الروم، ومن العادات التي استوحيت من الحضارات القديمة اعتماد بطاقات تصور أطفالا في اليونان واعتبار الطفل رمزا للعام الجديد، حيث تضع الأمهات أطفالهن الرضع في سلال من القش ويتجولن بهم في أنحاء المدينة، أما التقليد الروماني الذي شاع في الكثير من مناطق العالم، فهو توزيع القطع النقدية المعدنية على الأطفال، وبدأ من حينها الإمبراطور في زيادة صك العملات المعدنية تحمل اسمه، يوزعها في بداية السنة ويبدأ التعامل بالقطع الجديدة على أمل أن تكون السنة خيرا ويمنح الأطفال بعض القطع القديمة .

حيث تقام في الأسبوع الأخير من كل عام ، وفي أثينا كانت تقام الاحتفالات حول شجرة عظيمة يتم تثبيتها في منتصف المدينة وتسمى ” شجرة العالم “، وفي وقتنا الحاضر يحتفل الملايين من الناس في بقاع الأرض بالمناسبة بتزيين الشجرة والتفنن في تجميلها بالكرات الزجاجية الملونة والأجراس والزهور لما تمثله من قدسية محببه إلى النفس إلى جانب اعتبارها رمزا لطقوس الاحتفالية المميزة بأعياد رأس السنة ، وللشجرة مكانة عالية وقدر كبير في نفوس الناس حتى أصبحت عادة شائعة عند الكثيرين يبدعون في تزيينها وتنصيبها في مكان بارز بالمنزل قبل موعد العيد بعدة أيام وتبقى في موضعها…وبالعودة إلى قصة ميلاد السيد المسيح عليه السلام في المراجع الدينية ، لا نكادُ نجد أي رابط بين حدث الميلاد وشجرة الميلاد، فنتساءل من أين جاءت هذه الفكرة ؟ ومتى بدأت ؟ وكيف استقرت هذه العادة ؟ فقد أشارت إحدى الموسوعات العلمية إلى أن الفكرة ربما تكون جاءت من ألمانيا الغنية بغابات الصنوبر وذات الاخضرار الدائم، وذلك خلال القرون الوسطى، وكانت العادة لدى بعض القبائل الوثنية التي تعبد الإله ” ثور” إله الغابات والرعد عندهم أن يقوموا بتزيين الأشجار، ويتم تقديم ضحية بشرية من أبناء إحدى القبائل يتم الاتفاق عليه مسبقا، وفي عام 727 ميلادي أوفد إليهم البابا بونيفاسيوس مبشرا وشاهدهم وهم يقيمون احتفالا تحت إحدى الشجرات وقد ربطوا ابن أحد الأمراء وقد هموا بذبحه كضحية، فهاجمهم وأنقذ ابن الأمير من بين أيديهم، ووقف فيهم مخاطبا أن الإله الحق هو إله السلام ، والرفق والمحبة الذي جاء ليخلص لا ليهلك، ثم قام بقطع تلك الشجرة ونقلها إلى أحدى المنازل ، ومن ثمة قام بتزيينها حتى تصبح من ديكورالمنزل فلا يطمع في استعادتها أحد ، ثم أصبحت من حينها رمزا لاحتفالهم بعيد المسيح، وانتقلت هذه العادة بعد ذلك من ألمانيا إلى فرنسا وانجلترا ثم إلى أمريكا، أما بخصوص إطفاء النور ثم إعادة إنارته فيعودُ إلى  اعتقادات الديانات القديمة التي كانت تعتبر أن ضوء الشمس أمر إلهي يحمل دفء الحياة، وأما الظلام فهو يعني الموت لذلك، يضيء الناس الشموع أو أي إنارة أخرى كتقليد لإبعاد شبح الموت في العام الجديد، أما عند الأمازيغ شعوب شمال إفريقيا فتنتهي عندهم السنة الأمازيغية مع غروب شمس يوم الثاني عشر من  يناير لتبدأ السنة الأمازيغية الجديدة يوم ثالث عشر يناير ويطلق عليه الأمازيغيون”أسوكاس أمكاز”وهي حسابات تعتمد على السنة الفلاحية، إذا كان للجانب الروحي أثره على النفس تسمو به وتتألق فيتعزز معها تقدير الفرد لذاته، فإن الجانب الاجتماعي هو التوازن الحقيقي للإنسان في حياته، فيها تزهو حياة الفرد، ويوفق في تلمس بدايته الفعلية نحو جعل أحلامه حقيقية، علة أن أعياد الميلاد  بالنسبة لهذه الأقوام تعد مصدرا لشحن نفس الأطفال بالطاقة الإيجابية، ولتطوير الذات وتعزيز الإيجابية لدى الطفل التي تدفعه للانطلاق إلى أفق أوسع، دون أن يلجأ إلى فكرة الاصطدام الشديد بالمجتمعات وثوابتها بشكل عام سواء على مستوى العقيدة أو الحقوق والأفكار، ومن هنا تكون البداية لتقارب الحضارات والثقافات والأديان…

* باحث وكاتب من المملكة المغربية، لديه إصدارات شعرية وسردية قصصية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *