خارج الحدود

منذ أواخر القرن 19 .. كيف أصبحت باريس عاصمة العالم للتجسس؟

لا يمكن لمدينة تؤوي 157 سفارة إلا أن تستقطب كل أنواع أجهزة التجسس العالمية، على اعتبار أن التجسس يعتبر أحد الوظائف الضرورية الموازية للعمل الدبلوماسي. وأن تتحول العاصمة الفرنسية باريس بذلك إلى حلبة صراع جواسيس العالم في صمت رهيب يكتم أصوات طاحونة حرب الملومات والرموز، بل وحتى تصفية الحسابات والاغتيالات.

ولا يستغرب ذلك، فالتجسس لازم الصراع بين القوى المختلفة مند القدم سواء في حالة الحرب أو السلم. وهنالك أحداث موثقة توثيقا جيدا تنطوي على التجسس على مر التاريخ، وقد كانت بين جيشى الصين والهند وتم فيها استخدام عمليات التجسس والاغتيالات والعملاء السريين. وكان المصريون القدماء قد نظموا عمليات التجسس تنظيما دقيقا، واستخدم العبرانيون الجواسيس كذلك. وكان نظام الجواسيس أيضا سائدا في الإمبراطوريات اليونانية والرومانية خلال القرون 13 و 14، وقد اعتمد المغول اعتمادا كبيرا على التجسس في فتوحاتهم في آسيا وأوروبا، وكانت اليابان الإقطاعية غالبا ما تستخدم النينجا لجمع المعلومات الاستخباراتية. ولعب الجواسيس دورا هاما في إنجلترا إليزابيث، وأنشئت العديد من وسائل التجسس الحديثة منذ ذلك الحين.

وقد شهدت الحرب الباردة المشاركة المكثفة لأنشطة التجسس بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها والاتحاد السوفياتي وجمهورية الصين الشعبية وحلفائها، لا سيما ما يتصل أسرار الأسلحة النووية… ويستمر التجسس في الانتعاش مستفيدا من التطورات التقنية المختلفة.

وحسب الجزيرة نت، أصبحت باريس منذ نهاية القرن 19، عاصمة العالم للتجسس، وتأوي ما بين 10 آلاف و15 ألف عميل سري، معظمهم من أمريكا والصين وروسيا وإسرائيل وتركيا، بحسب الفيلم الوثائقي “أسرار الجواسيس” للمخرجين نيكولا بورغوين وأماندين ستيليا.

نساء ورجال يجوبون شوارع العاصمة الفرنسية تلقوا تدريبات خاصة للاندماج في المجتمع بهويات مزيفة للقيام بأنشطة بعيدا عن الأنظار دون أي اتصال مباشر أو رسمي مع السفارة أو ضباط المخابرات. حلة غامضة لباريس قد تجعل من يزورها لا يراها عاصمة للعشاق فقط، بل عاصمة للجواسيس أيضا، حسب نفس المصدر.

حرب الظل

تأسس جهاز المخابرات الخارجية لروسيا الاتحادية (SVR)، أو “الكي جي بي” سابقا، في عام 1992 وتتجلى مهامه الأساسية في التعامل مع الاستخبارات الأجنبية والمسائل السياسية والاقتصادية والعلمية. أما بالنسبة لوحدة المخابرات العسكرية التابعة لوزارة الدفاع فهي بمثابة ذراع المخابرات العسكرية الروسية (GRU)

وفي باريس، يسهل العثور على مكاتب الجهازين وتحديدا في شارع لو ماريشو في الدائرة 16 حيث يقع مقر السفارة الروسية المبني بخرسانة ذات طابع سوفيتي أصيل وهوائيات على الأسطح تمثل آذان السفارة في كل ركن من أركان العاصمة الفرنسية ومنطقة إيل دو فرانس

وفي خريف 2020، تم طرد الدبلوماسي الروسي فالنتين فلاديميروفيتش زاخاروف، عضو المخابرات الروسية الذي كان يشغل منصبا في البعثة الاقتصادية للسفارة الروسية بعد أن ضبطته مديرية الأمن العام متلبسا بالتجسس أثناء تسليمه المال إلى مسؤول تنفيذي في شركة تكنولوجية فرنسية كبيرة متخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي. وردت موسكو آنذاك بطرد دبلوماسي فرنسي من أراضيها

وبين الأعمال الجاسوسية والتجارية، كان زاخاروف عضوا في مجلس شركة تعدين خاصة مقرها في سانت بطرسبرغ وعميلا سريا في المخابرات الروسية، مثل الرئيس فلاديمير بوتين الذي كان عضوا سابقا في الكي جي بي.

وعلى مرمى حجر من برج إيفل وملحق لقصر الإليزيه حيث يقيم معاونو رئيس الجمهورية، افتتحت كاتدرائية الثالوث الأقدس الأرثوذكسية في أكتوبر/تشرين الأول 2016، التابعة لبطريركية موسكو، وزارها بوتين قبل حوالي 5 سنوات

باريس.. وكر الجواسيس

توفر هندسة وشوارع باريس أوكارا مختلفة تستقطب خدمات المخابرات، مثل مخارج وممرات مترو باريس الملتوية التي تجعل منها العاصمة الأكثر اكتظاظا بمحطات مترو في العالم.

ولا يعتبر مترو باريس المكان الوحيد للجواسيس لإجراء مقابلاتهم السرية إذ أن الكنائس، التي يمكن للجميع الدخول إليها بحرية، تعتبر مسرحا مثاليا لتبادل المعلومات السرية. ففي ديسمبر/كانون الأول 2014، وثق أعضاء في المديرية العامة للأمن الداخلي عملية تسليم وثائق بين جاسوس روسي ومهندس أسلحة فرنسي في كنيسة سان جيرمان دي بري.

ويقول سيرجي جيرنوف، العميل السابق في كي جي بي، في الفيلم الوثائقي “أسرار الجواسيس”: إذا أردنا اختيار عش للتجسس في باريس فسيكون مقر اليونسكو لأنه يضم على الأقل 182 مندوبا دائما من كل دولة، مثل الأمم المتحدة في نيويورك وقصر الأمم في جنيف والأمم المتحدة في فيينا التي يتم استخدامها من قبل الجواسيس كغطاء.

ويشير جيرنوف إلى أن الحكومة الفرنسية وضعت كاميرات في محيط مقر منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، واستأجرت بعض الشقق المطلة على الشارع لتتبع حركة هؤلاء الجواسيس.

وفي مدينة تضم 157 سفارة، لدى كل واحدة منها الحق الشرعي في فعل ما تشاء بداخلها، أحدثت الولايات المتحدة بعض التغييرات على سطح مقر سفارتها في باريس في عام 2005 حيث أضافت مساحة على شكل حرف “ل” (L) بداخلها هوائيات ونظام تنصت فائق التطور على بعد خطوتين من ساحة الكونكورد وقصر الإليزيه.

وهو ما يمكن ربطه بالمعلومات التي فجرها الأميركي إدوارد سنودن، في عام 2013 والتي كشفت أن الهواتف الشخصية للرؤساء الفرنسيين جاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند تعرضت للتنصت على نطاق واسع من قبل وكالة الأمن القومي الأميركي (NSA).

بدورها، لا تتغيب الصين عن التواجد في الساحة الباريسية وتمتلك ستة عناوين رسمية في العاصمة تُعنى بتقديم خدمات الشؤون الثقافية والاقتصادية والقنصلية والعلمية. ويمكن القول إن قوتها الاستخباراتية تركز بشكل كبير على التجسس السيبراني. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تستخدم موقع “لينكد إن” لبناء علاقات وطيدة مع مسؤولين فرنسيين للحصول على المعلومات.

تصفية حسابات واغتيالات

إذا كانت باريس تعتبر رمزا لحقوق الإنسان وملاذا للاجئين السياسيين، فإنها مسرح لتصفية الحسابات الدموية أيضا بإشراف من أجهزة مخابرات أجنبية.

ففي أكتوبر/تشرين الأول 1965، اختطف المعارض اليساري المغربي البارز المهدي بن بركة، من أمام مطعم “ليب” في شارع سان جرمان وقُتل في فيلا جنوبي العاصمة الفرنسية، وما يزال جثمانه مختفيا حتى اليوم. فضلا عن عملية اغتيال الفنان والمناضل الفلسطيني محمد بودية في الدائرة السادسة في باريس على يد الموساد الإسرائيلي في يونيو/حزيران 1973.

كما تمثل الفنادق فرصة ومكتبا استثنائيا لعمل الجواسيس، في مدينة يزورها ملايين السياح من كل أنحاء العالم، لمراقبة تحركات رؤساء الدول الأجنبية والوزراء وحتى المعارضين السياسيين وأصحاب الشركات الكبرى، حتى أنه يوجد فرع خاص اسمه “فنادق” في المديرية العامة الفرنسية للأمن الخارجي (DGSE).

وعلى سبيل المثال، اغتيل المدير السابق المنشق للمخابرات الكورية الجنوبية في عام 1979 في فندق “ريتز” الفاخر الواقع في ساحة فوندوم الشهيرة، مقر التجسس الألماني السابق في فترة الاستعمار.

بالإضافة إلى ذلك، استقر فريق تابع لوكالة المخابرات الإسرائيلية “الموساد” في فندق باريسي للتحضير لعملية اغتيال محمود المبحوح، أحد قياديي كتائب عز الدين القسام التابعة لحركة حماس في يناير/كانون الثاني 2010 لتنفيذها على بعد أكثر من 5000 كيلومتر في دبي.

وفي عام 2013، قُتلت ثلاث ناشطات كرديات، وهن فيدان دوغان وسكينة كانسيز وليلى سويليميز، بطلقات نارية في الرأس بمسدس نصف آلي. وأوقفت الشرطة الفرنسية آنذاك عمر غوناي الذي طلب التواصل مع القنصلية التركية بشكل خاص، بحسب محامي الضحايا أنطوان كوتي.

التجسس في فرنسا.. تاريخ حافل

تطور التجسس داخليا وخارجيا في القرن السابع عشر في عهد الملك لويس 14 إذ استعان بدبلوماسييه كعملاء سريين واستخدم النساء لإغواء رجال السلطة. وفي ذلك الوقت، أصبحت الدولة قوة رئيسية في القارة الأوروبية وتزعمت الدول الكاثوليكية.

وقبل اندلاع شرارة الثورة الفرنسية، بدأت الدولة في تطوير شبكات تجسس متقنة امتدت من روسيا إلى الشرق وإنجلترا في الشمال. وكان من بين الجواسيس المشهورين شوفالييه ديون الذي كان يتميز بصفات مخنث جعلته مناسبا كعميل سري أنثى ورجل في نفس الوقت. وبالفعل، بعل دور امرأة لأكثر من 33 عاما للتوغل في المحكمة الروسية.

شكلت الثورة الفرنسية مصدر خوف كبير للأنظمة الملكية في أوروبا، لكن القوى الخارجية وجدوها فرصة ذهبية للتسلل إلى العمق الفرنسي، وكان إيمانويل هنري لويس ألكسندر من أبرز هؤلاء العملاء. أيد الثورة في البداية وأصبح عضوا مبكرا في الجمعية الدستورية الوطنية التي تشكلت بعد الإطاحة بالنظام الملكي الفرنسي (بوربون).

ثم تأسس مكتب “دوزييم” بعد حروب نابليون، وهي الوكالة المسؤولة عن التجسس والاستخبارات العسكرية الفرنسية حتى عام 1940 عند سقوط فرنسا في يد الألمان. وكان من أهم عناصرها الهولندية ماتا هاري، العميلة المزدوجة التي أرسِلت للتجسس على ألمانيا لكنها تجسست لاحقا على فرنسا.

وبعد الحرب العالمية الثانية، أنشأت فرنسا المديرية العامة للأمن الخارجي لتصلح بمثابة (MI6) في بريطانيا. وحققت نجاحات ملحوظة مثل التنبؤ الدقيق بالغزو السوفيتي لأفغانستان وكشف النقاب عن أكبر شبكة تجسس تكنولوجية في أوروبا، فضلا عن تمكنها من تحديد مواقع ضباط المخابرات الروسية أثناء الحرب الباردة بفضل العميل السوفيتي فلاديمير فيتروف الذي أعطاها آلاف الوثائق السرية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *