أدب وفنون

الأكل العاطفي .. حين يتحول الطعام إلى “طبيب” لأحزاننا

قد يبدو الحديث عن الأكل كسلوك أمرا عاديا، إلا أن هذا السلوك، كما قد يعتقد كثيرون، ليس لمجرد إشباع الجوع، ولتلبية حاجاتنا إلى الغذاء، استجابة لحاجات الجسم من الطاقة ومواد لبناء وترميم أنسجته وأعضائه.

هناك حالات كثيرة نتصرف فيها مع الطعام كملاذ تدفعنا إليه وضعيات وحالات مزاجية ونفسية. فنستنجد بالأكل لرد هجمة توتر بسبب مشكلة ما في العمل أو البيت مثلا. وكثيرا ما يشعرنا الأكل بتحسن حالتنا المزاجية، وندخل في حالة من الهدوء والاسترخاء، …

فلماذا نقبل على الطعام في حالات مزاجية ونفسية غير التي يتسبب فيها الجوع أحيانا؟ وكيف نفسر دور الأكل في التخفيف من التوتر والانفعال؟ وكيف نفسر لجوء البعض إلى الطعام عندما تواجهه مشكلات؟

البحث عن الإندورفين

حسب الجزيرة نت، نحن نمتلك دوافع غريزية تدفعنا إلى الأكل. حين ينخفض مخزون الطاقة لدينا، تُصدر أجسامنا علامات الجوع فتدفعنا إلى البحث عن الطعام، وبخلاف ذلك، نحن نستجيب أحيانا لمؤثرات خارجية مثل صور الطعام ورائحته التي تُثير رغبتنا في الأكل.

عندما نواجه مشكلة ما أو نمر بشعور سلبي يطلب الجسم جرعة من الإندورفين، حينها يتجه عقلك على الفور إلى الأطعمة التي تُنقذ الموقف بأسرع ما يمكن.

لكن دعنا نفكر في الدوافع الداخلية، في الحقيقة، فإن رغبتنا نحو الطعام لا تتحرك بسبب الجوع دائما، حسب نفس المصدر، يحدث أن نأكل لمجرد الاستمتاع بالأكل، أو لكي يتحسَّن شعورنا، هذا هو ما يُسمى بالأكل العاطفي، وهي حالة نتناول فيها “أطعمة الملجأ”، تلك الأطعمة التي نتناولها في محاولة لاختبار بعض المشاعر التي ارتبطت بها في ذاكرتنا. لدينا جميعا مخزون من الروائح والأذواق ترتبط منذ الطفولة بمشاعر مثل الأمان أو الرفاهية، وأحيانا ما يكون الطعام وسيلتنا لاستعادة هذه المشاعر.

يزيد على ذلك تأثير إضافي. عندما نواجه مشكلة ما أو نمر بشعور سلبي يطلب الجسم جرعة من الإندورفين، الهرمون الذي يمنحنا الشعور بالسعادة والرفاهية، حينها يتجه عقلك على الفور إلى الأطعمة التي تُنقذ الموقف بأسرع ما يمكن. تكون الأطعمة المليئة بالسكر هي المثالية لهذا الغرض، إذ تُنشِّط سريعا إفراز هذه الهرمونات، فضلا عن أنها ترتبط لدى الكثيرين منا بذكريات سعيدة، حيث طالما كانت مكافآت اعتاد الكبار مكافأتنا بها في الطفولة عند التصرف بشكل جيد أو الحصول على درجة عالية في الاختبارات مثلا.

بعد تناول هذه الأطعمة، يرتفع مستوى الجلوكوز في الدم، فيفرز الجسم الإنسولين ليتعامل مع الجلوكوز الزائد، وهنا تبدأ الحلقة المفرغة؛ ينقص السكر في الدم فنشعر بالجوع والرغبة في تناول الحلويات، وهكذا ننزلق إلى التكرار ونفقد السيطرة.

نوستالجيا تزيد الوزن

حسنا، نعرف الآن أن هناك أسبابا نفسية لإقبالنا على الأكل، حسب الجزيرة نت، ويبقى التوتر هو أهم هذه الأسباب وأكثرها شيوعا، فهو يُحدِث تغييرات كيميائية حقيقية، فيما تلعب استجابة الجسم للتوتر دورا كبيرا في الرغبة التي تراودنا لتناول بعض الطعام، إذ تتدفق هرمونات متشابكة يفرزها المخ إلى الجسم.

في البداية يؤدي التوتر إلى انخفاض الشهية، حتى يتمكَّن الجسم من التعامل مع الموقف، لاحقا إذا استمر الأمر، يبدأ الجسم في إطلاق هرمون الكورتيزول الذي يزيد الشهية ويدفعنا نحو تناول الأطعمة السكرية أو الدهنية. الأكل العاطفي من هذا المنظور إذن ليس مجرد نقص في قدرتنا على الانضباط الذاتي أو غياب الإرادة، في أحيان كثيرة تكون المشكلة الأكبر في عدم القدرة على التعامل مع المشاعر السلبية، ما يتسبَّب في اضطراب مؤقت في كيمياء الجسم.

بشكل مُماثل، عندما يُصيبنا التعب يبدو لنا الطعام مهربا جيدا لتجنُّب مواصلة العمل، وفي المقابل يدفعنا إليه الملل أحيانا، إنه أحد محفزات الأكل العاطفي الشائعة، البعض يلجأ إلى الطعام حين لا يجد شيئا آخر يفعله.

أضف إلى ذلك الحنين إلى الماضي لتناول أطعمة معينة؛ مثل المثلجات التي اعتدنا تناولها في الصيف أو المخبوزات التي اعتدنا تناولها مع الأصدقاء في الشتاء، والتأثيرات الاجتماعية لها دورها أيضا، فمشاركة الأصدقاء والعائلة أحد أهم الأسباب لتناول الطعام، كما أن غيابهم وتراجع الدعم الاجتماعي في بعض فترات الحاجة العاطفية يُعَدُّ سببا آخر للجوء إلى الأكل في محاولة لتخفيف التوتر والحزن.

في دراسة جديدة نشرتها مجلة علم نفس المستهلك حول العلاقة بين اختيارات الطعام والمزاج، تقول ميريل جاردنر، أستاذة التسويق في جامعة ديلاوير الأميركية، إن مجموعة متنوعة من المشاعر تدفعنا إلى تناول الطعام، فضلا عن مجموعة ظروف مختلفة ترتبط بمشاعرنا.

توصَّلت دراسة جاردنر إلى وجود رابط بين المشاعر السلبية وتناول الأطعمة غير الصحية، وعلى العكس هناك علاقة بين اختبارنا لمشاعر إيجابية وتناول الأطعمة الصحية، أضافت جاردنر عنصرا آخر إلى المعادلة، وهو التفكير في المستقبل، بصرف النظر عن حالتنا المزاجية فإن مجرد تخيُّل المستقبل يدفعنا إلى اختيارات صحية أكثر، ربما يرتبط الأمر بالمزاج أيضا، فغالبا ما نُفكِّر بمنظور أطول مدى ونرى الصورة الأشمل حينما نمر بمشاعر إيجابية، بينما نبحث عن السعادة الآنية دون حساب عواقبها عندما نكون في مزاج سيئ.

هل يُقلِّل الطعام شعورنا بالتوتر فعلا؟

هناك نقطة إضافية مهمة في هذا السياق، فالأمر ليس متوهَّما، يجعلنا الطعام نشعر بتحسُّن فعلا، للطعام قوة تمنحنا الراحة والشعور بالاحتواء، ربما يعود إلى الارتباط بين الأم ورضيعها، لكن الأمر ليس كذلك فقط، فالعناصر الغذائية في الطعام لها دور في رفع معنوياتنا كذلك. الكربوهيدرات على سبيل المثال ترفع مستويات هرمون السيروتونين في المخ، وهو ما يُفسِّر أنك تشتهي الكعك أو الخبز أو المعكرونة حين تشعر بالضيق، فالمخ يحتاج إلى دفعة من السيروتونين، وهذا بالضبط هو هدف كثير من أدوية الاكتئاب.

في دراسة أُجريت في بلجيكا على أكثر من 1400 طفل، ونشرتها صحيفة “إيت ديسأورد” (Eat Disord) المتخصصة في اضطرابات الطعام، تبيَّن أن 10.5% من الأطفال الذين يعانون من السمنة مارسوا الأكل العاطفي، ما يكشف قدر الأكل العاطفي وتأثيره الكبير في حياتنا.

وعلى غير ما هو شائع، فإن الأكل العاطفي ليس عادة نسائية تماما، لم تُظهِر الدراسات فرقا بين الجنسين في الأكل العاطفي. عند دراسة الأمر، كان الفارق فقط في أن الفتيات مارسن الأكل العاطفي عند الشعور بالقلق أو التوتر أو الاضطراب، في حين ارتبط عند الأولاد بمشاعر الارتباك والحيرة.

كيف تواجه هذه العادة؟

أول طريق لمقاومة الأكل العاطفي هو معرفة الفارق بينه وبين الجوع العادي، يتطوَّر الأخير ببطء مع مرور الوقت، وفيه ستشعر بالحاجة إلى مجموعة متنوعة من صنوف الطعام، لكن في المقابل يظهر الجوع العاطفي فجأة ونشتهي خلاله أطعمة بعينها فقط. فارق آخر هو أنك في حالة الجوع العادي ستشعر بالشبع وتعتبر ذلك إشارة للتوقف عن الأكل، لكن في حالة الأكل العاطفي تفرط في تناول الطعام دون الشعور بالشبع. وبالطبع في حالة الجوع العادي لن تكون لديك أي مشاعر سلبية، بينما ستشعر بالذنب أو الخجل من تناول الطعام في حالة الأكل العاطفي.

لا يمكن مواجهة الجوع العاطفي بسهولة؛ فأنت تأكل دون أي شعور بالشبع، وبدلا من ذلك تشعر بالذنب، وهكذا تُضاف مشاعر سلبية أخرى تزيد شعورك بالتوتر في دائرة مفرغة تستمر إلى أن تتعامل بشكل صحيح مع أسباب التوتر والاحتياجات العاطفية.

الخطوة الأولى نحو مواجهة الاستسلام للجوع العاطفي هي تحديد أسبابه والمحفزات والمواقف التي نتناول فيها الطعام لهذا السبب، هل تود أن تشعر بالاسترخاء أو السعادة، أم تريد تعويض يوم سيئ مررت به؟ قد يفيد كتابة بعض الملاحظات في هذا الصدد في التعرف على العادات.

يأتي بعد ذلك دور اكتشاف طريقة أخرى للتعامل مع المشاعر السلبية ومحاولة اكتساب عادات جديدة للتغلب على الأكل العاطفي، إذا كنت تأكل عادة في نهاية يوم طويل شاق لمكافأة نفسك، فسيكون عليك أن تُذكِّر نفسك بما ستكون عليه حين يصبح وزنك مثاليا وتتحسَّن صحتك، وإذا كان السبب هو شعورك بالتوتر فيمكن أن يكون البديل كتابة اليوميات أو قراءة كتاب أو الاسترخاء لبضع دقائق، وقد يكون ممارسة التمارين الرياضية بانتظام أو المشي أو الركض. جرِّب مجموعة متنوعة من الأنشطة للعثور على ما يناسبك.

ممارسة اليوغا يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي في تجنُّب الاكتئاب والتحكم في الأكل العاطفي والأكل الشره وتبني اختيارات غذائية صحية. وكما يُشير عدد من الدراسات فإن ممارسة اليوغا بانتظام ساعدت على خفض مستويات التوتر والاكتئاب اللذين يُعَدَّان سببين رئيسيين للأكل العاطفي، التأمل واليوغا يساعداننا في اتساق عواطفنا، ويزيدان الوعي، ويُعزِّزان قبول الذات، من خلال هذه الممارسات نُدرِّب العقل على التركيز والحضور والهدوء فيقل شعورنا بالتوتر، وهو ما سينعكس على حياتنا اليومية واختياراتنا الغذائية.

كذلك فإن اتباع نظام غذائي صحي يوفر لك الحصول على العناصر الغذائية اللازمة لجسمك، كما سيُمكِّنك من التمييز بسهولة بين الجوع الحقيقي والجوع العاطفي. احرص كذلك على ألا تتناول الطعام أمام التلفاز أو أي مصدر إلهاء آخر، التركيز فيما تأكل سيُسهِّل اكتشاف قدر الجوع وما إذا كنت تأكل لإشباع احتياج عاطفي، يمكنك توفير وجبات خفيفة صحية مثل الفاكهة الطازجة أو الخضار لتواجه بها الشعور بالجوع العاطفي الذي ستميزه جيدا.

لا تشعر بالذنب

أخيرا، إن ما يميز الأكل العاطفي هو ما يعقبه من شعور بالذنب بعد أن تدرك كيف استسلمت لندائه وتناولت كل هذا القدر من الطعام، فكِّر هنا أننا كائنات عاطفية بطبيعتها، والسلوكيات التي نمارسها استجابة لمشاعرنا المختلفة جزء أصيل من آليات النجاة الغريزية داخلنا.

يظل الأكل وسيلة مقبولة تماما للتأقلم مع المشاعر المزعجة أو الانفعالية، إنه قانوني وآمِن، لا بأس إذن من تناول كوب من الشوكولاتة الساخنة حين تشعر بالإحباط لأنك لم توفَّق في أمر ما، أو أن تخبز كعكة تغمرك بالذكريات إذا شعرت بالوحدة بعد الانتقال إلى بيت جديد، ندعوك لاستشعار الخطر فقط حين لا يعود أمامك سوى تلك الآلية للتأقلم مع مشكلاتك، وحين يصبح هذا ما تفعله عفويا وباندفاع، أو حين يتسبَّب لك في حالة أسوأ من التي كنت عليها.

الفكرة الرئيسية هنا هي الاختيار، أن تُقرِّر بوعي أنك ستُهدِّئ نفسك بتناول الطعام، باعتباره آلية مقبولة للشعور بالراحة، وأن تتأكد في الوقت نفسه أنك تمتلك آليات أخرى للتأقلم مع مشكلاتك.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *