وجهة نظر

حزب المصباح ومستقبل المشاركة المؤسساتية في ظل “التطبيع ببعد استراتيجي” (2/2)

كانت خلاصة المحور الأول من هذا المقال تفيد أن التطبيع أصبح “إشكالية سياسية” معقدة وشديدة الحساسية بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، أصبح معها في وضع يتجاذبه فيه محوران: محور الالتحاق بشكل من الأشكال بـ”نموذج الحزب الحكومي المطلوب في ظل التطبيع” كعتبة سياسية جديدة أمام استمراره في المشاركة المؤسساتية واقتسام حصيلة نتائج الانتخابات. ومحور البقاء الفعال في حقل مناهضي التطبيع، كعربون على الوفاء للقضية الفلسطينية ولمواقفه المبدئية.

في هذا الجزء الثاني من المقال، سوف نقارب السيناريوهات الممكنة في تدبير حزب المصباح لوضعيته السياسية الجديدة في مواجهة “إشكالية التطبيع”.

 

المحور الثاني: سيناريوهات مستقبل المشاركة السياسية لحزب المصباح في ظل التطبيع؟

إن درجة الإماتة في التناقض المشار إليه في المحور الأول يتعلق، من جهة، بدرجة وطبيعة موقف الدولة من وجود أحزاب مشاركة في تدبير الشأن العام لها مواقف مناهضة للتطبيع مع إسرائيل بعد أن أصبحت “شريكا استراتيجيا” لها، وأيضا بمدى تشبث الدولة بالاستمرار في التطبيع في حال ظهور تطورات سياسية قوية مناهضة له، داخليا وخارجيا. ومن جهة ثانية، يتعلق بطبيعة تدبير حزب المصباح لهذه الوضعية، سواء في اتجاه قبول التعامل مع التطبيع، أو الاستمرار في موقفه التقليدي المعروف. مما يعني أننا أمام نوعين من السيناريوهات، نوع متعلق بالتحولات الممكنة في تدبير الدولة لملف التطبيع، ونوع متعلق بتدبير الحزب لنفس الملف والتحولات الممكن تسجيلها في هذا الباب. وهذا ما سنقاربه من خلال خمس سيناريوهات كبرى.

السيناريو الأول: تحولات قوية في العوامل الخارجية تفرض تراجع الدولة عن التطبيع

التطورات السياسية الممكنة، سواء في ساحة المقاومة الفلسطينية على إثر جرائم جديدة لدولة إسرائيل وما قد تفرزه من توازنات سياسية جديدة في العلاقات الدولية، أو في قوة مناهضة التطبيع في الشارع المغربي، عوامل لها تأثير في مواقف الدولة من التطبيع مع إسرائيل. فقد سبق للمغرب أن أغلق مكتب الاتصال الإسرائيلي في الرباط سنة 2000 نتيجة زخم الانتفاضة الفلسطينية وما أفرزته من ديناميكية سياسية قوية في الشارع العربي والإسلامي حينها بشكل عام، وفي الشارع المغربي بشكل خاص.

لكن إلى أي حد يمكن لمثل هذه التحولات إن وقعت أن تعيد نفس السيناريو، وترفع التناقض الحاصل بين توجهات الدولة في ملف التطبيع ومواقف حزب العدالة والتنمية الرافضة له؟

في التقدير، إمكانية تكرار نفس سيناريو سنة 2000 ليست مستحيلة، لكنها في الحالة المغربية على الأقل ضعيفة على المدى المتوسط على أقل تقدير، أو أن الدولة سوف تدبر تكتيكيا تلك المرحلة بالقيام بإجراءات جزئية تجاه إسرائيل على غرار ما تقوم به دولة تركيا (تهم بالخصوص المستوى الدبلوماسي). وذلك بالنظر، من جهة أولى، إلى المستوى المتقدم جدا وغير المسبوق الذي بلغه التطبيع المغربي، والذي يتعزز بنشاط وفعالية يوما عن يوم. ومن جهة ثانية، إلى نوع من الارتهان المغربي إلى “محور إسرائيل-الولايات المتحدة الأمريكية” في إحداث اختراق سياسي كبير في ملف القضية الوطنية وما لها من ثقل استراتيجي. ومن جهة ثالثة، إلى ضعف الشارع المناهض للتطبيع بشكل عام، في تحقيق اختراق في توجه الدولة نحو التطبيع، وعجزه في حشد “مِعشار” ما كان يحشده من زخم سياسي في محطات التضامن مع الشعب الفلسطيني ضد جرائم إسرائيل، لمواجهة أخطر أشكال التطبيع التي لم تخطر على بال أحد…

وهذا يعني أن الحزب الإسلامي عليه ألا يراهن كثيرا على هذا العامل في معالجة وضعيته السياسية المتناقضة مع توجهات الدولة في ملف التطبيع كحزب مشارك يسعى إلى الاصلاح.

السيناريو الثاني: تجميد وضع التطبيع بعد فشله في خدمة القضية الوطنية

لا شك في أن البوابة التي دخل منها المغرب إلى التطبيع هي خدمة القضية الوطنية، ومن الطبيعي أن يراهن المغرب على الموقف الإسرائيلي من القضية الوطنية، وعلى ما تملكه أقوى اللوبيات في مختلف دوائر صناعة واتخاذ القرار الاستراتيجي، ليس فقط في الولايات المتحدة الأمريكية بل في أوروبا وداخل منظماتها الدولية.

وإذا كان المغرب قد لعب أدوارا كبيرة في الدفاع عن عضوية دولة إسرائيل كمراقب في الاتحاد الافريقي، فإنه يتوقع في المقابل أن يرى تحولا في موقفها من مغربية الصحراء بخروجه إلى الوضوح على غرار الموقف الأمريكي، وقيام لوبيات ضغطها بأدوارهم لصالح المغرب في قضيته.

وإلى حدود كتابة هذه السطور، لم يطرأ أي تحول لصالح القضية الوطنية في موقف الدولة العبرية (راجع مقالنا في هذا الباب تحت عنوان: لماذا تتلكأ إسرائيل في الاعتراف بمغربية الصحراء؟)، ولا تم الإعلان عن أية استثمارات لها في الصحراء أو نيتها فتح تمثيلية لها في إحدى مدنها. كما لم يثر المغرب من جهته هذا الأمر بشكل جاد حتى الآن كما فعله مع كل من ألمانيا وإسبانيا.

إن إسرائيل قد لا تخضع لأي ضغوط كبيرة فيما يتعلق بموقفها من مغربية الصحراء، كونها تستفيد من التشابك الحاصل بين التطبيع المغربي وبين الموقف الأمريكي المعترف بها. مما يجعل إمكانية إثارة المغرب للموضوع بشكل يدفع به إلى حد تجميد العلاقات بينهما، أمرا مستبعدا على المدى القريب على الأقل.

 

السيناريو الثالث: “تسامح” الدولة مع المواقف الرافضة للتطبيع من داخل المؤسسات

بعد استكمال “مشروع التطبيع ببعد استراتيجي” والتمكين لأسسه وتحصينه خلال الولاية الحكومية الجارية، قد تمارس الدولة بعد ذلك قدرا من “التسامح” مع المواقف الرافضة للتطبيع حتى من داخل الحكومة، وتستوعب داخل اللعبة السياسية حزبا بمثل مواقف حزب المصباح (وهذا قد يفيدها أيضا كورقة ضغط تفاوضية مع إسرائيل التي تخشى عودة الحزب الإسلامي إلى قيادة الحكومة والجماعات الترابية، مما قد يهدد مصالحها ومستقبل مشروع التطبيع).

وهذا السيناريو وإن كان ظاهريا لا يتطلب من الحزب الإسلامي التحول الكلي عن مواقفه المبدئية من التطبيع، إلا أنه يواجه تحديان أساسيان يتعلقان بـ”قدر التسامح” الذي قد تتعامل به الدولة:

التحدي الأول، يتعلق بكون الدولة قد تشترط حدودا في الممارسة السياسية وفي التعبير عن تلك المواقف، أو سقفا محددا لها، لا تضر بمشروع التطبيع مع إسرائيل.

والتحدي الثاني، وهو الأهم، هو أنه حتى مع وجود ذلك “التسامح” من طرف الدولة فإن الحزب إذا واصل خيار المشاركة المؤسساتية سيكون عليه مواجهة شكل جديد من تلك المشاركة، وهو “المشاركة في ظل التطبيع” وما تتطلبه من حد أدنى من التعامل المباشر معه، والقيام بما تفرضه الالتزامات المترتبة عنه. مما يفرض عليها إحداث تحولات في سلوكه وخطابه السياسيين ومواقفه من التطبيع.

ومثل هذه السيناريوهات تتطلب “تفاوضا” بين الدولة والحزب لضبط قواعد التعامل، يسجل خلاله الحزب “تنازلات” مقابل “قدر معين من تسامح” الدولة معه. لكن مسألة التنازلات في قضايا ذات الحساسية المفرطة داخل الحزب تشكل تهديدا مباشرا لتماسكه الداخلي، ولدوائر نفوذه الشعبي، وخاصة في بعدها المتصل بالحساسيات الإسلامية، والحساسيات المناهضة للتطبيع.

السيناريو الرابع: مواصلة الحزب نهجه الراديكالي في رفض التطبيع

في هذا السيناريو، وفي ظل عدم تسجيل أي اختراق لصالح الحزب في السيناريوهات السابقة، قد يستمر الحزب في تمثل رفضه المبدئي للتطبيع عبر أشكال من المشاركة السياسية، ونجد هنا خيارين كبيرين:

 الخيار الأول: التخلي عن المشاركة المؤسساتية

والمقصود به الاستمرار في خيار المشاركة السياسية كخيار استراتيجي في الإصلاح مع المقاطعة الممنهجة للانتخابات إلى أن يتخلى المغرب عن التطبيع. وهذا الخيار يجد له في تاريخ الحزب مرجعا، حيث سبق له أن قاطع الانتخابات احتجاجا على التزوير الممنهج الذي كان ضحيته، حيث لم يعد إلى المشاركة الانتخابية بشكل رسمي وواضح إلا في الانتخابات التشريعية لسنة 1997.

غير أن هذا الخيار مستبعد جدا على المدى المتوسط على الأقل لأمرين اثنين أساسيين:

الأول: باستحضار مواقف الحزب بمناسبة الاستعداد للانتخابات الأخيرة في ظل اعتماد قوانين إقصائية صوت ضدها في البرلمان، وطعن فيها سياسيا، نجد أن الحزب ومن خلال ثاني أعلى هيئة تقريرية فيه، والتي هي المجلس الوطني، وحتى مع ظهور مؤشرات قوية حول الاستعمال المفرط للمال ولتدخلات السلطة، ظل متشبثا بالمشاركة الانتخابية على أساس أنها من ثوابت عمله السياسي. وهذا يعني أنه حتى الفساد الانتخابي الذي كان سببا في مقاطعة الحزب للانتخابات قديما لم يعد كذلك في نسخة ما بعد الدكتور الخطيب، رحمه الله.

الثاني: مقاطعة الانتخابات بسبب ملف التطبيع أكثر حساسية من مقاطعتها بسبب طبخ القوانين واستعمال المال للتأثير في نتائجها، ذلك أن خيار المقاطعة بسبب الفساد الانتخابي سيكون موجها ضد دائرة أدنى في هرم السلطة: “الحكومة -وزارة الداخلية –الأحزاب المشاركة” حيث المفروض أن الانتخابات تدبر داخلها. لكن مقاطعتها بسبب التطبيع يعني اتخاذ موقف سياسي ضد الدولة ورئيسها، وهذا مستبعد في أدبيات الحزب في صيغته الحالية على الأقل، كما أشرنا إلى ذلك، وخصوصا تحت قيادة الأستاذ عبد الإله ابن كيران، التي يتوقع أن تمتد لعقد من الزمن على الأقل، إذا شاءت إرادة الله ذلك.

 

الخيار الثاني: المشاركة بأفق مُعارِض

والمقصود به أن الحزب يشارك في كل الانتخابات، غير أنه يمتنع أو يقاطع تشكيل المؤسسات والهياكل التي تفرزها لتفادي التماس مع البرامج والسياسات التطبيعية، أي “نصف مشاركة انتخابية”. هذا الخيار الممكن نظريا غير واقعي، وتواجهه عدة عقبات تجعله مجرد خطاب شعبوي بدون أفق سياسي. وذلك للاعتبارات التالية:

الأول: مفهوم المعارضة هنا مجرد التفاف على الحقيقة التي يعرفها الجميع، وهي أنها لن تكون معارضة في إطار ما تفرزه الانتخابات من توازنات سياسية، بقدر ما ستكون معارضة في إطار رفض توجهات سياسية للدولة ورئيسها يتم التعبير عنها من داخل المؤسسات. وهذا الاعتبار وحده كاف لإضعاف فرص هذا الخيار، لما سبقت الإشارة إليه.

الثاني: المشاركة في الانتخابات بأفق عدم المشاركة في تشكيل الهياكل التي تفرزها ضرب من العبث السياسي قد يُتفهم بالنسبة للأحزاب الصغيرة والضعيفة التي لا أمل لها في اقتسام حصيلة نتائج الانتخابات، وليس بالنسبة لحزب من مثل حزب العدالة والتنمية.

الثالث: أنه خيار ينطوي على مخاطر سياسية لا تتسع لها أدبيات الحزب، فهو في العمق أسلوب فوضوي يجعلنا أمام احتمالات نسف العملية الانتخابية في الحالات التي يحصل فيها الحزب على أغلبية المقاعد، أو حين يتصدر وطنيا نتائج الانتخابات التشريعية، ويكون مطلوبا منه دستوريا تشكيل الحكومة…

الرابع: حتى لو افترضنا أن الحزب اختار هذا الخيار، فنجاحه، يتوقف على سكوت الدولة وباقي الفرقاء عنه لكل ما سبقت الإشارة إليه.

الخامس: خيار “صوتو علينا باش نعارضو”، ولكل ما سبق الإشارة إليه سابقا خاصة ما يتعلق بكونه عبث سياسي، سيعني دخول الحزب منطقة “التعارض السياسي” مع الدولة ومع مختلف الفرقاء السياسيين، وهو أسلوب مستبعد في منهجه وأدبياته.

وخلاصة هذا السيناريو الثالث، والذي يتعلق بتنزيل الحزب موقفه الراديكالي في تعامله مع التطبيع في أشكال من المشاركة السياسية تجعله وجها لوجه مع الدولة ورئيسها، ليست له حظوظ تذكر إلا إذا طرأ تحول في منهج الحزب في تدبير علاقته بالدولة، وخاصة بالملك. وهذا التحول مستبعد جدا في ظل المعطيات المتوفرة، وعلى المدى المتوسط على الأقل. ويقدم السيناريو الخامس التالي مقاربات ممكنة لخروج الحزب من “منطقة رمال التطبيع المتحركة” في الحقل السياسي المغربي.

 

السيناريو الخامس: التحول من موقف راديكالي رافض إلى موقف براغماتي متعامل.

إذا استحضرنا ما تمت الإشارة إليه سابقا من كون التطبيع خيارا استراتيجيا للدولة (شاملا وبعيد المدى) وأنه يفرض على الأحزاب السياسية التكيف معه كأمر واقع. واستحضرنا ما تمت الإشارة إليه حول ضعف قوى مناهضة التطبيع وضعف احتمال تأثير أي تحول مفاجئ في الساحة السياسية في الموقف المغربي. واستحضرنا صعوبة تحول حزب المصباح إلى حزب راديكالي تجاه خيارات الدولة الاستراتيجية، يثار سؤال: هل يقتحم حزب العدالة والتنمية عقبة التحول في مواقفه الراديكالية تجاه التطبيع إلى موقف براغماتي متعامل معه كأمر واقع أصبح معه التطبيع عامل فرز قوي في الحقل السياسي المغربي؟

  • خيار النموذج التركي؟

كما أشرنا إلى ذلك في مقال سابق تحت عنوان “حماس والكيل بمكيالين”، يعتبر النموذج التركي من النماذج المناسبة أكثر لتأطير أي تحول براغماتي في التعامل مع ملف التطبيع بالنسبة لحزب العدالة والتنمية. فحزب العدالة والتنمية التركي يعتبر من أشرس المدافعين عن القضية الفلسطينية ومناصرتها، وفي نفس الوقت يعتبر من أكثر الأحزاب ذات الخلفية الإسلامية براغماتية في التعامل مع التطبيع.

ورغم الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها حزب المصباح التركي في أوساط إسلاميي المغرب، وخاصة في وسط العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح، إلا أن ثمة فوارق كبيرة بين التجربتين ينبغي استحضارها في مقاربة مَغربة النموذج التركي، والتي يمكن إجمالها في المقارنات التالية:

  • في تركيا كما في المغرب يتعلق الأمر بخيار الدولة التعامل مع ملف التطبيع بمنطق يجعل الدولة العبرية شريكا استراتيجيا، سبق ذلك تولي حزب العدالة والتنمية التركي مقاليد الحكم في تركيا، وجاء ذلك خلال الشوط الأخير لترؤس حزب العدالة والتنمية المغربي للحكومة.
  • الحزبين، التركي والمغربي، لا يشتركان في نفس الإسم فقط، بل في خلفيتهما الإسلامية، وفي موقفهما القوي المساند والداعم لفلسطين وشعبها.
  • في الوقت الذي يواصل الملك محمد السادس في هدوء ترؤس لجنة القدس خلفا للراحل الحسن الثاني بفعالية في مجال اشتغالها، وقيامه بعدة مبادرات كبيرة واستثنائية في دعم الفلسطينيين والتضامن معهم، مثل الدعم الاجتماعي للمقدسيين، وإرسال المساعدات الغذائية والطبية، وقطع العلاقات مع إسرائيل ضد جرائمها في مواجهة انتفاضة سنة 2000، وإقامة المستشفى الميداني العسكري المغربي في غزة سنة 2018، … يحرص رئيس الدولة التركي وزعيم حزب المصباح فيها، رجب طيب أردوغان، على التموقع في قيادة العاطفة المساندة للقضية الفلسطينية والمحتجة ضد جرائم إسرائيل عبر العالم، بلغت أوجها خلال مواجهة الحروب الثلاثة لإسرائيل على قطاع غزة (2008 و 2012 و 2014) وجهود رفع الحصار الإسرائيلي عن غزة سنة 2010 (فرض مند سنة 2007)، من خلال خطابات مهددة لإسرائيل ومتهمة لها بالإرهاب والاستئصال، وتعزيز علاقاته مع حماس، …
  • فيما اضطرب حزب العدالة والتنمية المغربي في مسايرة قرار الدولة التطبيعي، اختار مصباح تركيا عدم مناقضة الدولة والعمل بفعالية غير مسبوقة في تنزيل ذلك الخيار بعد توليه مقاليد السلطة في البلاد، دشنه بزيارة “أمينه العام”، أردوغان، لإسرائيل في 2005، سنتين بعد انتخابه رئيسا للوزراء، “عارضا أن يكون وسيطا للسلام في الشرق الأوسط”.
  • وفي تحليل عناصر “القبول” الدولي والإقليمي للحزب الإسلامي على رأس دولة علمانية كبيرة مثل تركيا، سنجد أن موقفه من التطبيع مع إسرائيل يوجد ضمن العناصر القوية في ذلك “القبول”. وقد أشرنا سابقا إلى أن تدبير مصباح المغرب لملف التطبيع وما قد يتوقع منه فيه، من العوامل الراجحة في تفسير شبه استئصاله السياسي عبر الانتخابات الأخيرة.
  • لم تؤثر الممارسات التطبيعية العميقة وغير المسبوقة لحزب العدالة والتنمية التركي وقياداته في شعبيته، ليس فقط في تركيا حيث تنظم المسيرات الضخمة المتضامنة مع الشعب الفلسطيني، بل في صفوف إسلاميي المغرب وقواعد حزب المصباح المغربي أيضا، فيما كاد هذا الأخير أن ينهار تحت وقع قرار للدولة المغربية لا علاقة له به إلا من موقع ترأس أمينه العام للحكومة وتوقيعه الاتفاق الثلاثي بهذه الصفة تحت إشراف الملك.
  • تتميز المنظومة الفكرية والسياسية لحزب العدالة والتنمية التركي بـ”مرونة واقعية” كبيرة تستوعب الجمع بين الدفاع القوي عن القضية الفلسطينية وبين التعامل النفعي البراغماتي الكبير مع الدولة العبرية (حاليا يسعى الرئيس أردوغان إلى إعادة العلاقة بين البلدين بكل ما اوتي من قوة، بعد انقطاعها لمدة 13 سنة تقريبا). كما أن طبيعة الوعي السياسي لقواعده والمتعاطفين معه يستوعب الجمع بين الأمرين على أساس أنهما أمران “متكاملان” ومساران غير متناقضين. ومقابل ذلك نجد “صلابة مثالية” في المنظومة الفكرية والسياسية لدى حزب المصباح المغربي، ولدى قواعده ومحيطه، تقيم التناقض التام بين دعم القضية الفلسطينية والدخول في أي شكل من أشكال التطبيع أو القبول به، واعتبار كل ذلك خيانة مع إضفاء طابع عقائدي على كل ذلك…

من المهم استحضار هذه المقارنات التي اكتفينا بأهمها في مقاربة عقبات محاولة مغربة النموذج التركي، فتحليل تلك المقارنات يعطي خلاصات أساسية، نجملها في العناصر التالية:

  • على مستوى الدولة ليس هناك فروق كبيرة بين التطبيع المغربي والتركي، فكلا الدولتين تنشطان بقوة في دعم القضية الفلسطينية والتضامن مع الشعب الفلسطيني، وأقامت علاقات استراتيجية مع إسرائيل، مع فارق يتعلق بحداثة التجربة المغربية في هذا المستوى الأخير.
  • رغم أنه يمكن اعتبار التجربة التركية “تفند” المقاربة التي تجعل التناقض بين التعامل التطبيعي من منطلق دولتي والدفاع القوي على القضية الفلسطينية في مختلف تجلياتها، إلا أن محاولة مغربة النموذج التركي في تدبير حزب العدالة المغربي لملف التطبيع تواجهه تحديات كبيرة، منها ما هو تصوري وسيكولوجي، ومنها ما هو تنظيمي وسياسي.
  • محاولة مغربة النموذج التركي سيتطلب جهودا تنظيرية وتأطيرية وتواصلية ضخمة، كما يتطلب حدوث تحول في الموضوع على مستوى قيادة الحزب وتشكيل نواة قوية للقيام بمهام التأطير والتواصل المشار إليها. ولا توجد أي مؤشرات حول إمكانية حدوث هذا الاختراق على المدى المتوسط على الأقل، لما سنجمله في المحور التالي من عقبات وتحديات.

 

  • العقبة الكؤود أمام التحول

لقد تتبعنا كيف أدى حزب العدالة والتنمية ثمنا سياسيا وتنظيميا باهظا جراء دخول المغرب في التطبيع مع إسرائيل بقرار ملكي لمجرد توقيع أمينه العام اتفاقية التطبيع الأولى بصفته رئيس الحكومة بأمر من الملك وتحت إشرافه. وحُمل الحزب (داخل صفه، وفي أوساط مناهضي التطبيع داخل المغرب وخارجه، وفي أوساط الفلسطينيين) مسؤولية قرار لا علاقة له به كحزب سياسي ولا قبل له برده، وكانت لذلك تداعيات سلبية على صورته داخل المغرب وخارجه، كما كان لذلك تأثير على أداءه الانتخابي ونتائجه في الانتخابات الأخيرة.

وسيكون من المفيد محاولة جرد مختلف التحديات التي تشكل العقبة التي تقف أمام أي تحول في موقف حزب المصباح من التطبيع، ونجملها في خمسة تحديات.

الأول: تحدي الصف الداخلي

الصف الداخلي لأحزاب الأغلبية الحالية لم يتأثر نهائيا بالتحول في ملف التطبيع، وانخراط الحكومة ووزرائها في تنفيذ أجندات التطبيع بفعالية ونشاط. عكس ما عرفه حزب المصباح بمجرد فتح المغرب الباب للتطبيع والتوقيع على اتفاقاته من طرف رئيس الحكومة والأمين العام للحزب.

إن “إقحام” الأمين العام لحزب المصباح في التوقيع على الاتفاق الثلاثي شكل زلزالا قويا للصف الداخلي للحزب، ما تزال هزاته الارتدادية لم تهدأ بعد. وعاشت قواعد الحزب في حالة اختناق بين ضغط مواقع التواصل الاجتماعي، وضيق فرص التنفيس عن الضغط من خلال التظاهر الرافض، وعجز قيادات الحزب عن إعلان مواقف قوية تعيد بعضا من التوازن السيكولوجي داخل الحزب، … وقد ساهمت دعوة الحزب لقيادات حركة حماس لزيارة المغرب في التخفيف من ذلك الضغط. غير أن تسارع أشكال التطبيع في ظل السنة الأخيرة في قيادة الحزب للحكومة وعجزه عن فعل أي شيء ضد إرادة الدولة، كرست لدى قواعد الحزب نوعا من “الشعور بالذنب” تجاه قضية فلسطين. وقد تم التعبير عن ذلك بأشكال مختلفة شملت بعض القيادات البارزة للحزب، يمكن إجمالها في حالات من الاستقالة التنظيمية، أو تجميد العضوية، وحالات من العزوف، وحالات من “التمرد” العلني في مواقع التواصل الاجتماعي، والأخطر من ذلك انتشار “فوبيا مواجهة الناخبين” جراء الشعوب بالذنب فيما يعتبره البعض “خيانة القضية الوطنية الثانية”، مما أضر بحجم وفعالية انخراط تلك القواعد في الحملة الانتخابية.

الثاني: تحدي الشريك الدعوي

تعتبر حركة التوحيد والإصلاح إحدى الدعامات السياسية الأساسية لحزب المصباح، وخاصة فيما يتعلق بتأطير قواعد الحزب المتشابكة بين التنظيمين، وعلى مستوى تأثر الرأي العام الداخلي للحزب بمواقف الحركة، وعلى مستوى الدعم اللوجستيكي للحملات الانتخابية… وقد ساهمت الديناميكية الرافضة التي شكلتها مواقف الحركة والضغط الذي مارسه أعضاؤها سواء في مواقع التواصل الاجتماعي أو في الفضاءات الداخلية، أحد أكبر العوامل في تشكيل سيكولوجية الانهزام أمام واقعة التطبيع داخل الحزب، وقد تراجعت حيوية الحركة وقواعدها في الانخراط في الحملة الانتخابية، وساهمت بذلك في جزء من التراجع الانتخابي للحزب.

ومن المفيد التوقف قليلا عند قرار الأمين العام للحزب، الأستاذ عبد الاله ابن كيران، رفض تجديد الشراكة بين الحزب والحركة، وفي التقدير قد يكون هذا خطوة استباقية منه لتحرير مواقف الحزب من أي التزامات تجاه الحركة في مستقبل الأيام، وهذا قد يعطي للحزب بعض المرونة في تدبير كثير من الملفات، وخاصة ما يتعلق بملف التطبيع.

الثالث: تحدي “لوبي مناهضة التطبيع”

مباشرة بعد التوقيع الثلاثي على اتفاقية التطبيع، قررت السكرتارية الوطنية لمجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين تجميد عضوية حزب العدالة والتنمية داخلها. وهو إجراء لم يتخذ مثله إلى اليوم في حق عموم الأحزاب الحكومية التي تباشر تنفيذ برامج التطبيع وخاصة حزب الاستقلال الذي هو أيضا عضو في السكريتارية الوطنية للجمعية. وهو أمر قد يتفهم باعتبار الرمزية الخاصة التي لحزب العدالة والتنمية في مجال مناهضة التطبيع ودعم القضية الفلسطينية.

وتشكل شبكة الهيئات المدنية المناهضة للتطبيع في المغرب لوبيا سياسيا ورمزيا له تأثير قوي على مستوى تشكيل الرأي العام داخل الحزب وحليفه الدعوي. وقد تعرض حزب المصباح بسبب التوقيع الثلاثي وبسبب قيادته الحكومة في بداية تنزيل اتفاقات التطبيع لانتقادات قوية وسط مناهضي التطبيع بلغت حد تصنيفه ضمن المطبعين، وهو تصنيف قاس جدا على معنويات الصف الداخلي للحزب.

الرابع: تحدي الفعاليات الفلسطينية والعربية

كان من تداعيات توقيع الاتفاق الثلاثي على حزب المصباح على مستوى الفعاليات الفلسطينية والعربية أن كان موضع انتقاد البلاغ الثاني لحركة حماس حول التطبيع المغربي، حيث حشر فيه حزب العدالة والتنمية في قرار تطبيع الدولة المغربية وكأنه طرف فيه، كما فصلنا ذلك في مقال سابق بعنوان “حماس والكيل بمكيالين”. وبعد بلاغ حماس تعرض الحزب لسيل من الاتهامات من قوى فلسطينية، وأحزاب عربية، وشخصيات إعلامية أجنبية، وغير ذلك. ونذكر على سبيل المثل قرار مؤتمر الأحزاب العربية تجميد عضوية الحزب فيه…

الخامس: تحدي الإعلام والرأي العام

كل ما سبق من تحديات شكل حضورها القوي في وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ضغطا قويا على قواعد الحزب وقياداته، ساهم في تشكيل “أزمة سيكولوجية” داخل حزب المصباح، كما أشرنا إليه سابقا، وما يزال يستمر في إعادة نَكْءِ جراح التوقيع الثلاثي، وفي وصم الحزب بالتطبيع. وقد ساهم التعاطي الإعلامي مع القضية في التشويش على صورة الحزب في علاقته مع دعم فلسطين ومناهضة التطبيع، مما أضعف خطاب الحزب في هذا المجال أمام الرأي العام الذي ما يزال يحتفظ بتوجهاته المساندة لفلسطين والرافضة للتطبيع.

  • هل من فرص لتدبير تحديات التحول؟

التحديات المشار إليها أعلاه، والتي نقدر أنها الخمس الأقوى، ترهن قرار حزب المصباح فيما يتعلق بفرص تحوله إلى حزب براغماتي فيما يتعلق بتدبير ملف التطبيع بأفق التعامل معه. وكما رأينا فالأمر يتعلق بتحديات قوية تتجاوز البعد السياسي إلى الأبعاد التنظيمية داخل الحزب. وهو ما يجعل من التطبيع ورقة حارقة تحوله إلى “إشكالية سياسية” تواجه الحزب، سواء في علاقته بالدولة من زاوية المشاركة السياسية، كما أوضحنا ذلك، أو في علاقته بمختلف الفاعلين في تشكيل الرأي العام فيما له علاقة بفلسطين، أو في تدبير الرأي العام الداخلي للحزب.

غير أن هذا التوجه، في التقدير، قد يشق له طريقا في جبال التحديات السابقة في ظل قيادة الأستاذ ابن كيران، إذا اقتنع بجدواه خاصة في تدبير علاقة الحزب بالمؤسسة الملكية وارتهان مستقبل المشاركة المؤسساتية للحزب بذلك.

السيناريو السادس: سياسة “دعها حتى تقع”

في هذا السيناريو قد يختار الحزب ترك الأمور كما هي عليه، فلا يفتح ملف التطبيع، ولا يعلن عن أي تحول فيه أو تبديل، وقد يعلن بالعكس ثبات مواقفه المبدئية فيه، كما جدد الأمين العام للحزب تأكيد ذلك مؤخرا، خلال كلمته المشار إليها سابقا، وكما ضمن بلاغي الأمانة العامة الأخيرين عبارة رفض التطبيع. وهذا سيعفيه من تداعيات أي تحول قد يدفعه إليه التداول في الملف، سواء على مستوى صفه الداخلي، أو على مستوى علاقته مع حليفه الدعوي (حركة التوحيد والإصلاح)، وعلى مستوى حضوره في شبكة الفاعلين في مناهضة التطبيع، وعلى مستوى قواعده الانتخابية، وعلى مستوى صورته في الساحة الفلسطينية بين الأحزاب السياسية العربية والإسلامية.

وفي هذا التوجه سيختار الحزب اعتماد قاعدة “دعها حتى تقع” في مواجهة العديد من الأسئلة التي ستفرضها مشاركته المحتملة في تدبير للشأن العام، سواء من موقع القيادة أو من موقع المشاركة فيه.

غير أن إرجاء معالجة إشكالية التعامل مع التطبيع في صيغته المغربية ذات البعد الاستراتيجي قد لا يعني سوى شكلا من أشكال “العمى الطوعي”، والذي يراهن على تدبير اللحظة القائمة مع التعامي عما قد يترتب عنها في المستقبل القريب أو المتوسط وإرجائه إلى حينه، وفق مقولة “لها مدبر حكيم”.

وهذا الخيار له “إيجابيات” آنية كثيرة كما له أيضا سلبيات كبيرة على المدى المتوسط والبعيد.

بالنسبة لإيجابيات إرجاء الخوض في الموضوع وربط أية مراجعة حول التطبيع بنتائج الانتخابات، أي أن فتح الملف رهين بالموقع الذي ستبوئه إياه نتائج الانتخابات، نذكر منها:

  • “مرونة” في تدبير ورقة التطبيع بجعل أي تحول فيه “نتيجة طبيعية” لوضع سياسي لا خيار للحزب فيه، وليس لمراجعات إرادية فكرية وتصورية قد تكون “شبه مستحيلة” بما رسخ حولها من الطبيعة المبدئية لمواقف الحزب.
  • إرجاء الجدل الداخلي وتجنيب الحزب ما قد ينتج عنه من رجات حول الموضوع.
  • إعفاء المؤتمر التاسع القادم من لغم ورقة التطبيع وترك تدبيرها للأمانة العامة حسب ما قد يستجد.
  • مواصلة الانخراط العادي والفعال بسلاسة في أجندات الدفاع عن القضية الفلسطينية وفي مقاومة التطبيع، سواء بالنسبة لقواعد الحزب ومتعاطفيه او لقياداته.
  • مواصلة التموقع السياسي ضد التطبيع على مستوى الخطاب السياسي العام والانتخابي بالخصوص (مع استحضار صعوبات جمة في ذلك سبقت الإشارة إليها).

وبالنسبة لسلبيات الإرجاء نذكر منها:

  • إذا كان على الحزب بلورة تصور جديد يستوعب إمكانية تعامله السياسي مع واقع التطبيع وإكراهاته فإن تأجيل فتح ذلك الورش داخليا وفق مقاربة بيداغوجية متدرجة، يهيئ فيها موارده البشرية ومحيطه السياسي لخوض المعارك الانتخابية المقبلة بأفق المشاركة المؤسساتية الشاملة، لا يعني سوى ضياع وقت سياسي وتنظيمي لا يعوض.
  • إضافة إلى ضياع الوقت السياسي والتنظيمي فإن خيار الإرجاء قد يفرض على الحزب فتح نقاشات داخلية والدخول في جدالات واهتزازات في وقت يحتاج فيه إلى أن يكون قويا وعلى كلمة واحدة جامعة. مما قد يحكم بالضعف والارتباك على الحزب في محطات من التفاوض السياسي أو تحمل مسؤولية تشكيل الأغلبيات حين تبوئه نتائج الانتخابات ذلك.
  • التأجيل يعزز أزمة الخطاب السياسي الذي سيفقد وقت إنضاج وإدخال التكييفات الضرورية المناسبة للمرحلة المقبلة، مما قد تترتب عنه اضطرابات في الخطاب خاصة المتعلقة بالموقف من التطبيع ومن “المنجزات” ذات البعد التطبيعي خلال هذه الولاية السياسية، وبالموقف من دعم القضية الفلسطين، وبالموقف من تحديات تدبير متطلبات مسؤولية تدبير الشأن العام ذات العلاقة بالتطبيع.

خاتمة

حاولنا فيما سبق جرد أهم السيناريوهات الممكنة التي “تفرض” على الحزب استحضارها، مع غيرها طبعا، في بلورة رؤيته السياسية في التعامل مع “تطبيع الدولة ببعد استراتيجي” بصفته يمثل في الواقع “إشكالية سياسية” حقيقية، سواء وعى الحزب ذلك أم لم يعه بعد.

وبدون مبالغة، وانطلاقا من مختلف التحديات والإشكالات المتنوعة والكثيفة التي أشرنا إليها خلال تناولنا لمختلف السيناريوهات والقضايا، فحزب المصباح مقبل على مخاض عسير لا تقل أوجاعه حدة عن أوجاع مخاض انتقال فكر قادته وقواعده ذات الجذور الدعوية من الخيار الراديكالي تجاه “الدولة التي لا تحكم بما أنزل الله” في إطار تجربة الشبيبة الإسلامية، حيث يتم تكفير الدولة والمجتمع معا، والساعية إلى “إقامة الدولة الإسلامية” (1969-1983)، إلى خيار “التعاون مع الغير على الخير” و “إقامة الدين”، أولا في إطار جمعية الجماعة الإسلامية وحركة الإصلاح والتجديد (1983-1996) ثم حركة التوحيد والإصلاح (مند 1996) التي توحدت ضمنها حركة الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي، ليتوج هذا المسار بخيار المشاركة السياسية المباشرة في إطار حزب العدالة والتنمية عبر الانتخابات مند سنة 1996.

غير أنه إذا كان التحول في الموقف من الدولة ومن العملية السياسية في مجملها في “مرحلة الدعوة” قد نتج عن نقاش داخلي واسع وعميق ومتجدد، فإن موضوع التطبيع لم يطرح بعد داخل حزب العدالة والتنمية بشكل جدي وعميق.

وإذا كان التحول السياسي والفكري خلال المسار الدعوي فرضته بالأساس مخاطر المواجهة مع الدولة، ففي التقدير لم يستوعب كثير من قادة الحزب وقواعده بعد أن “تطبيع الدولة ببعد استراتيجي” يمثل “إشكالية سياسية وفكرية” حقيقية على الحزب مواجهتها وإيجاد ما يناسبها من أجوبة سياسية وفكرية، بل ومن اجتهادات فقهية أيضا، لتجنب احتمالات العزلة السياسية أو المواجهة مع الدولة من جديد.

إنه من الناحية الفكرية سيواجه الحزب معضلة “تجديد” الموقف من “تطبيع الدولة ببعد استراتيجي” وما يتطلبه ذلك من المراجعات الفكرية والسياسية، سواء فيما يتعلق بالموقف من “الدولة المطبعة” أو فيما يتعلق بمستقبل دعم القضية الفلسطينية والتضامن مع الفلسطينين في ظل تطبيع الدولة، أو فيما يتعلق بحدود مسؤولية الأحزاب والأفراد وطبيعة النضال المساند لفلسطين، وما يتطلبه كل ذلك من جهود التأصيل الفقهي والفكري والسياسي.

ومن الناحية السياسية سيواجه الحزب تحديات تدبير علاقته مع “الدولة المطبعة” وفي نفس الوقت تدبير تحديات صفه الداخلي، وتحديات مناهضي التطبيع، وتحديات الرأي العام الرافض للتطبيع. وهي تحديات عظام، تتطلب كلها جهودا فكرية وسياسية عظيمة.

ففي علاقته مع الدولة يطرح سؤال مستقبل المشاركة السياسية لحزب العدالة والتنمية: هل سيستمر الحزب في خيار المشاركة السياسية الانتخابية في ظل “الشريك الاستراتيجي” لدولة إسرائيل؟ هل سيكون ضمن أفق تلك المشاركة قيادة الحكومة والجماعات الترابية أو المشاركة فيها؟ وهل سيقوم الحزب بـ”مراجعات” فيما يتعلق بموقفه من التطبيع مع إسرائيل؟ وفي أي اتجاه؟

وفي تدبيره للصف الداخلي وضغوطات مناهضي التطبيع وإكراهات الرأي العام يطرح سؤال مستقبل وحدته التنظيمية، وحماية قاعدته الشعبية، وفعالية خطابه السياسي.

والأسئلة السابقة ومثيلاتها هي أكثر شيء ينبغي على قيادة الحزب ومؤتمر الوطني القادم تقديم الإجابات عليها في إطار تجديد رؤيته المذهبية ومنهجه في العمل في ظل “تطبيع الدولة ببعد استراتيجي”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *