دقيق القمح.. إليك تاريخ أقدم خبز أكله البشر

من بين أخطر الأزمات التي يواجهها العالم اليوم نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا أزمة الحبوب. ذلك أن مشتقات الحبوب تستحوذ على مائدة طعام البشر عموما بشكل كبير.
وقبل أن تكون للحبوب هذه المكانة التي تأسر معظم البشر اليوم وتتحكم في مصير عدد من المجتمعات الإنسانية اليوم، تشكلت علاقة الانسان بالدقيق عبر مراحل مند آلاف السنين، وكان الخبز من أول الأكلات التي صنعها الإنسان من الدقيق.
فما هو تاريخ الحبوب؟ وتاريخ طحنها” وتاريخ خبزها؟ وما هي أوجه الاستعمالات المختلفة لطحين الحبوب وكيف تطورت؟
من منجزات الثورة الزراعية
لا شك في أن قصة علاقة الإنسان بالحبوب موغلة في التاريخ، وترتبط بشكل أساسي بتحول البشر إلى اعتماد الزراعة فيما سمي بالثورة الزراعية التي انفجرت في مناطق مختلفة من 10,000 إلى 8000 قبل الميلاد في منطقة الهلال الخصيب، وربما 8000 قبل الميلاد في موقع كوك (Kuk) الزراعي في ميلانيزيا، حسب ويكيبيديا.
أما طحن الحبوب، فيعود تاريخ صناعته، حسب “الموسوعة العربية” إلى عصور قديمة. فقد ضم أهرام سقارة الذي بني في مصر عام2600 ق.م عدداً من الصور الممثّلة لعملية الطحن.
وحسب نفس الموسوعة يعود تاريخ استخدام أدوات الطحن الحجرية البدائية إلى نحو 7500 عام، واستخدام الهاون الحجري إلى نحو 8000 عام، تلاه استخدام الحجارة المستديرة يدوياً، ثم استخدم الحيوان في تدوير الحجر العلوي. وفي عام 100ق.م بدئ باستخدام الماء والهواء في إدارة الطواحين الحجرية.
وفي عام 1769م، حسب نفس المصدر، استخدم البخار، وفي عام 1875م بدئ باستخدام طرائق متطورة في نقل الحبوب للنواقل الحلزونية، وثم نظام الطحن بالأسطوانات Roller-mill system عام 1881م، وفي عام 1943 أدخل نظام النقل الهوائي Pneumatic system الذي يعدّ ثورة كبيرة في عمليات الطحن.
الدقيق والخبز في العصور القديمة
رغم اكتشاف أقدم فرن بالعالم في كرواتيا والذي يعود تاريخه إلى 6500 سنة مضت، حسب الجزيرة نت، فإن البشر عرفوا الخبز قبل ذلك بوقت طويل، حيث كان أهل العراق والشام قبل 9600 عام قبل الميلاد يجمعون الأعشاب البرية ويقومون بنقعها في الماء ثم يضربونها بالحجارة لتكون عجينة خشنة، ويسكبونها بعد ذلك على الصخور التي تسخنها حرارة الشمس ويتركونها لفترة حتى تطهى وتتحول إلى ما يشبه الخبز.
لكن قدماء المصريين، حسب نفس المصدر، هم أول من صنع الدقيق من الحبوب مثل القمح والشعير. فكانوا يطحنون الحبوب لتصبح ناعمة قدر ما يمكن في أواني تشبه “الهون”، ثم يعجنها الخبازون بالماء ويشكلونها في صورة أرغفة، وتطهى في أفران مفتوحة.
وفي بعض الأحيان يقوم الخبازون بتحلية الخبز بالعسل أو عصير الفواكه للأثرياء، كما كان المصريون أول من استخدم الخمائر البرية لتخمير الخبز. وصنع الخبازون المصريون أيضا كعكات على شكل حيوانات تستخدم في قرابين المعابد.
وكان لتجارة الخبز أهمية كبرى في روما القديمة، وكان الخبازون يصنعون مخبوزات مزخرفة خصيصا للاحتفالات والمهرجانات. كما صنع الإغريق أول مطحنة للدقيق في القرن الخامس قبل الميلاد، وكانت بسيطة، لكن فعاليتها كانت أكبر من مجرد سحق الحبوب بالصخور.
أما الرومان فقد صنعوا أول مطحنة مخروطية تدور، تحركها الأحصنة والحمير والبغال، ثم أنشأوا طواحين مائية تطحن كميات كبيرة من القمح. وسرعان ما انتشرت تلك الطريقة في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية وتحول طحن القمح وتصنيع الدقيق إلى أمر شائع.
معجنات فاخرة
ثم شهدت القرون التالية ظهور طواحين الهواء في جميع أنحاء أوروبا، وكان المزارعون يجلبون الحبوب إلى المطحنة لتتحول إلى دقيق، بينما ظلت المجتمعات الصغيرة تستخدم المطاحن اليدوية المعروف بالمراجل، لكن مع تزايد الطلب على الدقيق تحول طحن الدقيق إلى صناعة كبيرة وحيوية، وفرضت الضرائب على المطاحن الكبرى.
واختلف الدقيق القديم عن الدقيق الذي نعرفه حاليا لأن حبة القمح كانت تطحن بالكامل من دون إزالة القشرة الخارجية “النخالة”، لذلك كان الدقيق غامقا وأرغفة الخبز كثيفة وداكنة لا تشبه الأرغفة المصنوعة من الدقيق الأبيض الحالي.
لكن الغريب في الأمر أنه في وقتنا الحاضر هناك توجه عالمي للعودة إلى استخدام الدقيق الكامل من دون تغيير؛ نظرا لاكتشاف فوائده الغذائية المتعددة التي تفوق الدقيق الأبيض.
وانتشرت صناعة المعجنات الفاخرة وأصبحت فنا مهما في أوروبا. ففي عام 1635 رسم الرسام الهولندي رامبرانت لوحته الشهيرة “بائعة البان كيك” التي تصور امرأة تبيع فطائر “البان كيك”، يحيط بها الأطفال في انتظار فطائرهم التي تعد لغاية اليوم مفضلة في شوارع هولندا.
ولاحقا، مرت عملية خبز الدقيق بتحولات وتجارب مختلفة، وأثمرت النتائج عما يطلق عليه الآن الكعكات أو الكيك الذي أصبح من أهم مظاهر الاحتفال في العالم بالكامل سواء في أعياد الميلاد أو أعياد الزواج، وتم ابتكار كعكات مناسبة ومخبوزة خصيصا لكل مناسبة.
حلويات العالم العربي
ولم يقتصر إنتاج الكعك على أوروبا فقط؛ بل انتقل أيضا إلى العالم العربي، وبدأت صناعة ما يسمى “الحلويات الشرقية” مثل الكنافة وأم علي ولقمة القاضي.
وصنعت الكنافة لأول مرة في عهد معاوية بن أبي سفيان أول خلفاء الدولة الأموية حين طلب من طباخه الخاص حلوى يأكلها في سحور رمضان، فصنع له الكنافة. لكن مؤرخي التاريخ الإسلامي لهم رواية أخرى تقول إن الكنافة ظهرت في العصر الفاطمي بمصر في عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي ثم انتقلت إلى الشام.
ومن الحلويات الشهيرة في الشرق أيضا “أم علي” التي ظهرت أيضا لأول مرة في مصر عندما صنعتها زوجة عز الدين أيبك احتفالا بمقتل زوجته الثانية “شجر الدر” وتنصيب ابنها “علي” وليا للعهد. وقد أمرت وقتها بصنع حلوى من الدقيق والسكر والمكسرات لتوزيعها على الشعب للاحتفال، ومن هنا جاءت تسمية أم علي.
مصر القديمة والكعك
ووفق وصف عالم المصريات الراحل الدكتور عبد الحليم نور الدين، كان هناك العديد من أشكال المخبوزات التي تشبه الكعك في مصر القديمة، فمثلا كان ما يعرف بـ”نقش الكعك” موجودا في مصر القديمة، وفق دراسة نور الدين، وكان على شكل أرغفة دائرية تظهر بصمات الأصابع على حافتها.
بينما يرى المؤرخ حسن حافظ، الباحث في التاريخ الإسلامي، أن قدماء المصريين صنعوا مخبوزات تشبه الكعك، ولكن من دون دليل على توارثها.
كما يرى حافظ أن تقليد صنع كعكات العيد بدأ في عهد أحمد بن طولون أي منذ عهد الدولة العباسية، وكان يخبز ويوزع في المناسبات الدينية وخاصة عيد الفطر.
بينما تبلورت فكرة كعك العيد في العصر الفاطمي مثلها مثل العديد من مظاهر الاحتفال التي اهتم بها الفاطميون الذين اعتادوا مظاهر مختلفة للبذخ والاحتفال؛ مثل أن يرتدي الخليفة عباءة بيضاء اللون مخصصة للاحتفال في عيد الفطر وحمراء في عيد الأضحى في إشارة إلى لون دم الأضحية. واستمرت عادة صنع الكعك بعد زوال الدولة الفاطمية، وشهد العصر الأيوبي تحولها من عادة تخص قصر الحاكم فقط، إلى عادة عامة للشعب امتدت واستمرت إلى العصر الحديث.
اترك تعليقاً