منوعات

بويخف يكتب.. حين ينظر العماري لـ”الديمقراطية التحكمية”

عكس كثير من الآراء فإن ما يكتبه السيد إلياس العماري، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، يعتبر مهما للغاية من الناحية السياسية، ويسمح لأحد الفاعلين في الغامض من تلك السياسة من إفلات ما يجعل منه شاهدا على عصرها. ومن الخطأ محاكمة جودة لغته وأسلوبه إلى قواعد أخرى غير قواعد السياسة الغامضة وإكراهاتها. فأن يرفع “جبل” أو أن ينصبه لا يهم مادام الجبل الذي يتحدث عنه ليس جبل الطبيعة الذي يتطلب وصف جماله زادا لغويا مقدرا، بل جبل السياسة ذي التضاريس الجارحة. وأن يخطئ في اسم من ألهمه فكرة مقاله ليس مهما، فأحمد ومحمد سيان.

في مقاله الأخير الذي اختار له عنوان “لهذا الديموقراطية مشروع غير مكتمل “، استطاع السيد العمري التعبير بنجاح كبير عن المخفي من السياسة التي لا يمكن الحديث عنها بصدق ودقة إلا من طرف من كان من أهل مطبخها، ويكون هو شاهد من ذلك المطبخ.

ولعل الحديث عن مخاض الديمقراطية المغربية ودور حزب الجرار فيها من القضايا التي ينبغي الاستماع حولها إلى السيد العمري. فهذا الأخير يعتبردستور 2011 جاء قبل أوانه وولد بعملية قيصرية. ووجد العمري ضالته في ما ذهب إليها الدكتورمحمد جبرون، (وليس أحمد جبرون) مشيدا بقراءته المشهد السياسي من زاوية “طبيعة الأشياء” و”بروح ميكيافيلية عالية”، مستعيرا منه مفهوم “البنية التحتية للديمقراطية” غير المتوفرة بعد بالمغرب للتمكين للديموقراطية، وقال بالحرف: (و كأن الولادة القيصرية للدستور التي استدعتها التحولات السياسية المتسارعة بالمحيط الإقليمي و الدولي للمغرب فيما سمي تجاوزا بـ “الربيع العربي”…، لم تراع « طبيعة » تطور ما يسميه الأستاذ جبرون بـ “البنية التحتية للديموقراطية”؛ إذ أن إكراهات هذا “الربيع” دفعت، و من الخلف، الديموقراطية دفعاُ، وسط حقول من التناقضات الاقتصادية و الألغام الاجتماعية و البنيات الثقافية و الفكرية المتناقضة، و في إطار مناخ عام تتقاذفه إيقاعات تنموية متفاوتة السرعة و فوارق اجتماعية صارخة).

ويقدم العمري الديمقراطية، من خلال استعارة تحليل جبرون، وكأنها عروس ينبغي إعداد مكان استقبالها، لا على أنها ورش يشمل النضال الديمقراطي في معارك إعداد شروط الممارسات “الديمقراطية التامة” أو “المكتملة”، وبالطبع لا تختلف هذه المقاربة عن المقاربات التي اعتمدتها الأنظمة الدكتاتورية دائما، بما فيها المغرب، حين مقاومتها للمد الديموقراطي ورفضها دمقرطة الحياة السياسة باعتماد إصلاحات سياسية حقيقية هي جزء لا يتجزأ من العملية الديمقراطية، وذلك بدعوى أن الشعوب ليست مؤهلة بعد للديموقراطية! ولا فرق بين تلك المقاربات والمقاربة التي أسماها العمري بـ”التجديدية” لدى جبرون، حين يشترط “بينية تحتية للديموقراطية” أولا، كأن صرح الديموقراطية منفصل عن تلك البنية وأن ذلك الصرح لا يبنى حجرا بعد آخر عبر مدة قد تستغرق أجيالا، وأنه سيرورة متراكمة من الانجازات والمكتسبات الإصلاحية حتى يستوي البناء الديموقراطي على سوقه كما تشهد على ذلك قصة الديموقراطية في بلدانها الكبيرة. ففي مقاربة العمري، ومن خلاله جبرون، فالديمقراطية أشبه ببناية “مسبقة الصنع” (préfabriqué) يكفي إعداد الأرضية التي ينبغي أن توضع عليها فنكون ديمقراطيين بتركيب أجزائها الجاهزة فوقها.

لكن الذي يميز “البنية التحتية للديمقراطية” عند السيد العمري هي أنها مجرد منظار لقراءة الواقع السياسي وتبريره، وأول خطوة في هذا الصدد، وانطلاقا من كون جبرون قد وضعه في سياقه التاريخي منذ الاستقلال إلى اليوم، هي اعتبار “التحكم” نوعا من القدر السياسي.

فالعمري يقول بالحرف في نفس مقاله:(هكذا، يبدو لي أن الحزب المتصدر عدديا لنتائج استحقاقات سابع أكتوبر، في ادعائه مواجهة « التحكم » في شخص حزب الأصالة و المعاصرة، فهو يواجه « طبيعة» الأشياء التي تميز الحياة السياسية ببلادنا. وعدم إقراره بالمسافة الحقيقية الفاصلة بين «الديمقراطية التامة» والديمقراطية الانتقالية والمتدرجة، هو إقرار بعجزه عن إدراك منطق الأشياء الذي يتطلب الحفاظ على السير الطبيعي للمسار الديمقراطي في المغرب. و مواجهة التحكم، باعتباره بنية راسخة للدولة كما يقول الأستاذ جبرون، من أجل حماية الديمقراطية، كما يدعي الحزب الأغلبي، هي مغامرة تعاكس رغبة الشعب المغربي في نموذج ديمقراطي يلائم خصوصيات دولته، و يراعي إيقاع الخطوات الثابتة التي تناسب مسارات تطوره و تقدمه).

وهكذا فالعمري يقر بكون التحكم بنية من بنيات الدولة وحزب الأصالة واجهته الحزبية. لكنه يرى أن مواجهة التحكم من خلال حزبه، حزب الجرار، مواجهة لطبيعة الأشياء، لذلك فهو يرى أن المطلوب ليس مواجهة التحكم بل مسايرته وهو ينسج “الديمقراطية المغربية”، والأخطر من ذلك أن يجعل مواجهة التحكم مغامرة تعاكس رغبة الشعب المغربي، وهو بالفعل تأصيل تجديدي لفكر التحكم وأدبياته حين يجعل ذلك التحكم تعبيرا عن إرادة الشعب! وهو نفس التأصيل الذي اعتمدته الديكتاتوريات عبر التاريخ باعتبارها تلبي رغبة الشعوب.

ومن النتائج التجديدية التي خرج بها العمري مما ذهب إليه جبرون، وتحت يافطة التجديد، هو شيء يمكن تسميته بـ”الديمقراطية التحكمية”، إذ أن العمري يرى في التعايش مع التحكم بصفته بنية أساسية في الدولة، وبالتالي مع حزبه السياسي، إنتاج ديمقراطية تناسب خصوصية الشعب المغربي، وهذه الخصوصية هي أن الشعب المغربي راغب في التحكم! ويرى العمري من خلال كل ذلك أننا في مرحلة من مسارات تطور النموذج الديمقراطي المغربي، التي يدخل التحكم ضمن طبيعتها.

بالفعل نحن أما “تهكم” أدبي من الديمقراطية وأدبياتها وآليات عملها ومن المعارك التي تخوضها ضد كل أشكال الظلم والتي يعتبر التحكم من أكبرها. لقد حاول العمري أكل ثوم التحكم بفم جبرون في مقاله ذلك. لكن المقال، رغم حفاضه على درجة كبيرة من الغموض والتردد، يفيد كثيرا في تفسير أمرين أساسيين. الأمر الأول يتعلق بردة فعل حزب التحكم على نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، والجدل الذي دار في المكتب السياسي للتراكتور مباشرة بعد ظهور النتائج، فقد كان جدلا يدور حول تعديل الدستور، وخاصة الفصل 47. فما دام التحكم أمرا طبيعيا يلبي رغبات الشعب، وللدولة حزب يمثل التحكم، فالذي يقف في وجه القفز على نتائج الاقتراع للاستقرار على ظهر الحكومة هو ذلك الفصل من الدستور الذي جاء بولادة قيصرية، لأنه لو جاء بولادة طبيعية لما كان فيه مثل الفصل 47، ولأمكن بكل يسر تكليف السيد العمري بتشكيل الحكومة ورئاستها، تحت تصفيقات الشعب الذي سيفرح بتتويج حزب التحكم أيما فرح. والأمر الثاني الذي يفيد المقال في تفسيره وفهمه، هو مفهوم المصالحة الذي طرحه العمري ولم يفهمه حتى رفاقه في المكتب السياسي، إلى درجة أن المقال الذي دعا فيه العمري إلى المصالحة أحدث أزمة حقيقية في المكتب السياسي لحزب الجرار، لكن المقال الأخير للعمري يسلط الضوء على العتمة التي أحاطت بـ”المصالحة” التي دعا إليها، ليتبين الآن أن المصالحة المقصودة هي بين الديمقراطية المنشودة والتحكم القائم، وهنا نكتشف عبقرية العمري التلفيقية كمجدد معاصر للتحكم والاستبداد اعتمادا على أدبيات الخطاب الديمقراطي والحداثي.

إن الراجح في خوض العمري تجربة الكتابة هي سعيه لملء الفراغ الذي تركه فقهاء ومثقفو الاستبداد والتحكم، فالتحكم اليوم لا يجد من يدافع عنه بهذه الجرأة وبلبوس فكري قدري، لذلك تلقف العمري ما ذهب إليه جبرون لأنه يساعده في بسط نظريته التجديدية لفكر التحكم وثقافته، نظرية لا تستحيي من المزاوجة القدرية بين الديمقراطية والتحكم و المطالبة بالقبول بذلك كأمر واقع بذريعة أن ذلك جزء من طبيعة الأشياء في عالم السياسة.

إن العمري كان صادقا مع نفسه، فهو بصفته قائد حزب التحكم وأحد الفاعلين في الجدل من ذلك الموقع، لا يمكن أن يفكر أو ينظر خارج دائرة التحكم ولأجله، لذلك لا ينبغي الاستغراب من محاولة العمري عقد قران شاذ بين الديمقراطية ونقيضها التحكم.