أدب وفنون

لوحة من صنع الذكاء الاصطناعي تفوز في مسابقة فنية

تمكن مصمم ألعاب الفيديو، جيسون ألين، من خداع لجنة التحكيم والمعجبين على السواء في مسابقة للوحات الفنية أجراها متحف كولورادو، لتحتل لوحته التي صممها اعتمادا على برنامج للذكاء الاصطناعي المسماة بـ”مسرح أوبرا الفضاء” (Théâtre D’opéra Spatial) المركز الأول وتفوز بمكافأة مالية.

وخدعة ألين لم يكتشفها أحد، فقد نالت لوحته الإعجاب من طرف الجميع من بين جميع اللوحات التي تنافس من خلالها مبدعون لنيل جائزة المتحف، فهو من كشف سره، وأعلن بعد ذلك أن لوحة “مسرح أوبرا الفضاء”، التي جمعت بين لمسة فنية من العصور الوسطى وتعابير فنية عن المستقبل، هي من صنع الذكاء الاصطناعي.

وتثير نازلة لوحة “مسرح أوبرا الفضاء” أسلة مقلقة عن مستقبل الفن في ظل إمكانية اختراق إنتاجات الذكاء الاصطناعي لمجال الإبداعي الذي يعبر من خلاله الفنانون بمهاراتهم الفنية عن مشاعرهم ومواقفهم. فهل سيرهن الذكاء الاصطناعي مستقبل الفن؟

خدعة “فنية” كشفها صاحبها

لوحة “مسرح أوبرا الفضاء” (Théâtre D’opéra Spatial)، و

احتلت لوحة “مسرح أوبرا الفضاء”، حسب الجزيرة نت، مركز الصدارة بمكافأة 300 دولار. وقد جهل المحكمون والمعجبون في حينها كل الجهل أنها ليست من وحي خيال رسام ولا من نتاج ضربات سريعة أو مُتمهِّلة لفرشاته، بل يعود تصميمها إلى برنامج ذكاء اصطناعي.

ذكر ألين هذه الحقيقة، حسب نفس المصدر، بعدها بهدوء في منشور ثارت على وقعه زوبعة من الاعتراضات والمناقشات الحامية، اتُّهِم فيها بالاحتيال وبتقديم عمل يخلو من مهارة أو فن أو رسالة، فقد استعان ألين بأحد أحدث نماذج الذكاء الاصطناعي من نوعية “مُولِّد الصور من النصوص” (text driven image generation AI)، ألا وهو برنامج “ميد جيرني” (Mid journey). كل ما عليك هو إعطاء الذكاء الاصطناعي لمحة مكتوبة عما تود أن يرسم، وسيفعل الحاسوب كل شيء.

ولكي يتنصَّل ألين من تلك الإدانات، شدَّد على أن المعرض يأخذ بعين الاعتبار الأعمال الفنية التي يستخدم فيها الحاسوب، مؤكدا استحقاقه الفوز لاستغراقه نحو ثمانين ساعة في عمل أكثر من 900 تكرار للعمل، بادئا بصورة ذهنية بسيطة مثل امرأة ترتدي ثوبا على الطراز الفيكتوري وخوذة فضاء، مضيفا كلمات أخرى لضبط النغمة والإحساس، ليقع اختياره في النهاية على ثلاثة تصميمات. لاحقا، عدَّل ألين التصميمات ببرنامج فوتوشوب، وعزَّز دقتها باستخدام أداة تُسمى “Gigapixel” قبل أن يطبع الأعمال على قماش ويُقدِّم أحدها في المسابقة.

لا عجب أن ما فعله ألين أثار جدلا كبيرا، وأجَّج العديد من المخاوف الكامنة حول تأثير التكنولوجيا حول مستقبل الإبداع، والطريقة التي يهدد بها الذكاء الاصطناعي مستقبلنا الوظيفي واضعا إياه على المحك على المدى البعيد، وهو ما عبَّر عنه أحدهم تعقيبا على منشور ألين بالقول: “نحن نشاهد موت الفن أمام أعيننا”، وسبق أن صرَّح إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركة تسلا، قائلا: “الذكاء الاصطناعي قد يكون أشد فتكا من الأسلحة النووية، مُمثِّلا أكبر تهديد وجودي لنا”.

بيد أن ألين لا يزال يتمسك بتصوُّره الخاص عن عمله، محتجا أن البشر بحاجة إلى تجاوز إنكارهم وقبول أن الذكاء الاصطناعي محض أداة مثل فرشاة الرسم، وأن القوة الإبداعية رهينة بالشخص الذي يوجِّهها.

وفي حال صَدَق ألين أو تحقَّقت نبوءة ماسك، فإن ذلك يُثير حوارا أوسع وتساؤلات لا حصر لها: فهل يأتي اليوم الذي تصبح فيه حِرَف المصممين والفنانين وقد عفا عليها الزمن؟ وكيف لنا أن نُصدر حكما عقلانيا حول إذا ما كان عمل ما ضربا من الإبداع الفني أم لا؟ وهل الأصالة حكر على البشر دون الآلات؟

سؤال الفن

تصب تلك الاستفهامات في مَعين واحد يُعيد الجدل القديم الجديد حول تعريفنا للفن. على سبيل المثال، يجادل الكاتب الأميركي الساخر أمبروز بيرس أنه ما من تعريف محدد لهذه الكلمة. بيد أن قاموس أكسفورد الإنجليزي شرحها بأنها إطلاق العنان لخيال الفرد وإبداعه، الذي عادة ما يتخذ شكلا مرئيا كالرسم أو النحت، وغيرها من الأعمال التي يتم تقديرها في المقام الأول لجمالها أو قوتها العاطفية.

يتوافق ذلك مع منظور الفيلسوف ألان دي بوتون بأن الجزء الأكبر من الفن الذي صنعته البشرية ينطوي على علاج وعزاء بتعاطيه مع مسائل الفقر والتمييز والقلق والندم والخزي والعزلة والشوق.

من هذا المنظور يصير الفن تعبيرا حرا عن أفكارنا وعواطفنا وأعمق رغباتنا، ونقلا لانطباعاتنا المعقدة التي لا يمكن أن تدركها الكلمات وحدها. لكن المحتوى الذي نُنتجه أيًّا ما كانت وسائطه ليس فنا في حد ذاته بقدر ما يكمن الفن فيما ينقله هذا الوسيط من مشاعرنا المعقدة، وهذا ما يقودنا إلى السؤال المحوري: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصنع فنا؟

أليست لوحة “مسرح أوبرا الفضاء” فنا؟

تبدع الآلة وفقا لآلية منظَّمة، قوامها الأساسي هو التعلم (machine learning)، يعرض الفنان عليها نماذج متعددة لأعمال فنية، حتى تتمرن عليها مُحلِّلة آلاف الصور. بعد ذلك تحاول الآلة إنشاء خوارزمية تُمكِّنها من صناعة عملها الفني الخاص، ويُجري الفنان تعديلا في الخوارزمية حتى تقترب بنتائجها من محاكاة الأعمال الفنية التي تدربت عليها. وحين تنجح الآلة يعود الأمر إلى الفنان من جديد ليُقرِّر ويُقيِّم إنتاجيتها مُجريا تعديلات أخرى حتى يكون الإنتاج صالحا للعرض، مما يعني أن العنصر البشري لا غنى عنه لتوجيه وتسيير تلك العملية تماما كما حدث مع ألين ولوحته.

في بعض الأحيان، يحدث أن تُخفق البرامج في محاكاة الوجوه البشرية فتخرج صورا مشوهة، شبيهة بالتي رسمها الفنان فرانسيس بيكون، بخلاف أنه في تلك الحالة تفتقر الوجوه المشوهة المصنوعة آليا إلى المقصد والنية.

وبالتمعن في لوحة ألين توحي إلينا بأنها هجين أو شظايا من أعمال لا حصر لها، فالمكان الذي تشغله الشخصيات بمساحته الشاسعة وتفاصيله المثيرة يكاد ينتمي إلى فن العمارة الباروكية المميز بتصميماته المسرحية.

بوسع الآلات إذن تقليد أعتى أساليب الفنون المرئية التي أوجدها البشر، ولكن دون عواطف، وهي بهذا تفتقر إلى مَلَكتين رئيسيتين لا غنى عنهما لوصف أي عمل بكونه فنا: أولاهما التعبير عن الدواخل كالحسرة أو الفرح أو الغضب أو الرغبة الدفينة في التعبير عن النفس، وثانيهما هي الأصالة وتلبية معايير التعبير الإبداعي .

يُدرج الفيلسوف ماركوس غابرييل في كتابه “معنى الفكر” (The Meaning of Thought)، الذي يفحص فيه عواقب الذكاء الاصطناعي، فكرته عن كوننا يُجانبنا الصواب في حال أطلقنا على لوحة من صنع الآلة فنا. ويحاجج ماركوس أن الأعمال الفنية هي نتاج إبداع فردي ليس إلا، واصفا الفن بأنه غير قابل للتكرار. يوافق فولاند، مؤلف كتاب “القوة الإبداعية للآلات” (Die kreative Macht der Maschinen)، على أن لوحات الذكاء الاصطناعي ليست إلا تقليدا للفن والإبداع، لأن الآلات المبرمجة تعوزها الإرادة الحرة.

بشر أم برامج “فنانة”؟

لكن ماذا لو صارت الآلة في غنى جزئي أو تام عن العنصر البشري؟ أنشأ أحد المختبرات حديثا برنامجا يُدعى “AICAN” يمكن اعتباره فنانا شبه مستقل، يتعلم الأنماط والجماليات التي تُمكِّنه من إنشاء صور مبتكرة خاصة به بعد أن تغذَّت خوارزميته بـ80.000 صورة للفن الغربي على مدى القرون الخمسة الماضية. وقد التزم مُصمِّمو البرنامج عند صناعته بنظرية اقترحها عالم النفس كولين مارتنديل، الذي افترض أن العديد من الفنانين سيسعون إلى جعل أعمالهم جذابة من خلال البعد عن الأشكال والموضوعات والأساليب الموجودة التي اعتاد عليها الجمهور.

قدَّر عالم الرياضيات “ماركوس دو سوتوي” تلك الاحتمالية، ففي كتابه الحديث نسبيا “قانون الإبداع: الفن والابتكار في عصر الذكاء الاصطناعي” (The Creativity Code: Art and Innovation in the Age of AI)، يبحث دو سوتوي في إمكانية أن يصبح الذكاء الاصطناعي مبدعا في حد ذاته، حيث يُعرَّف الإبداع بأنه “ابتكار شيء جديد”، مستقصيا الطرق التي يغير بها الذكاء الاصطناعي الموسيقى والفنون البصرية والأدب والرياضيات.

يدس دو سوتوي خفية بين طيات الكتاب فقرة مكوَّنة من 350 كلمة كتبها الذكاء الاصطناعي، مُبديا لنا أن بإمكاننا أن نرى أن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والبشر لا تستوجب الخصومة بقدر ما قد تكون علاقة تعاونية نتجاوز فيها كل انحياز معرفي مسبق.

تدعم إحدى النظريات الأدبية تلك الفكرة بدعوى أن المقصد من إبداعك لذلك العمل الفني ليس حقا ما يهم. ففي منتصف العشرينيات من القرن الماضي، أجمع الناقد الأدبي وليم كورتيس ويمسات والفيلسوف مونرو بيردسلي بأن النية الفنية ليست ذات صلة، وأطلقوا على ذلك اسم “المغالطة المتعمدة”، معتقدين بأن تقييم نية الفنان كان نهجا مُضلِّلا. كانت حجتهم ذات شقين: أولا، لم يعد الفنانون الذين تمت دراستهم على قيد الحياة للإجابة عن الأسئلة المتعلقة بأعمالهم. ثانيا، حتى وإن توفرت تلك المعطيات، فإن ذلك سيصرف انتباه المشاهد عن جودة العمل نفسه.

يُضرب المثل على ذلك بـ”بورتريه إدموند دي بيلامي”، وهو عمل فني أُنشِئ بواسطة برنامج ذكاء اصطناعي بأسلوب البورتريه الأوروبي في القرن التاسع عشر (25)، وعُرض للبيع قبل أربعة أعوام فقط تحت شعار “الإبداع ليس حكرا على البشر”. في البداية، قُدِّر ثمن اللوحة بنحو 10 آلاف دولار، بعدها قفز السعر إلى 432,500 دولار. كانت تلك هي المرة الأولى في التاريخ التي تبيع فيها دار للمزادات (كريستيز) لوحة لم تُرسم بواسطة فنان بشري حقيقي.

الحلم العميق

ربما يعود تاريخ فن الذكاء الاصطناعي حقا إلى عام 1973، عندما ابتكر عالم الحاسوب الأميركي هارولد كوهين أول لوحة للذكاء الاصطناعي على الإطلاق. استعان كوهين ببرنامج طوَّره وأطلق عليه اسم “آرون” (AARON)، وهو برنامج ذكاء اصطناعي يُولِّد الفن بناء على مجموعة من القواعد المبرمجة فيه، كأن تكون إحدى القواعد التي تضعها “رسم خط أزرق”. باستخدام هذه القاعدة، سيُنشئ “آرون” لوحة تتكوَّن من خطوط زرقاء مختلفة. أخرجت هذه الطريقة لوحات تجريدية قورنت بعمل الفنان جاكسون بولوك للتشابه السطحي بينهما.

سبق ذلك محاولات وتلته أخرى، حتى تقدَّم مُولِّد الصور بشكل ملحوظ مع مشروع شركة غوغل في 2015 المسمى بـ”الحلم العميق” (Deep Dream)، الذي يُشرف عليه المطوِّر أليكساندر موردفينستف، ويقول: “استخدمت صورة لكلب وقطة في البداية، وجاءت النتائج شبيهة بحبوب الهلوسة”. شارك أليكساندرا الكود مع زملائه في العمل، الذين صمَّموا بدورهم عشرات من الرسوم السريالية، ثم حثَّته زوجته على طباعة بعض هذه الصور وتجميعها في معرض فني، ليصبح أول معرض فني لرسوم الذكاء الاصطناعي تاريخيا.

واليوم، مع تعدُّد أدوات تحويل النص إلى صورة مثل “DALL-E 2″ و”Midjourney” وسهولة استخدامها بواسطة الجميع، يتفاقم القلق من إقبال الناس على الأعمال الفنية المصنوعة آليا وإعراضهم عن اللوحات التقليدية. لكن في حين أن نماذج التعلُّم الآلي يمكن أن تساعد في صياغة محاكاة مذهلة، يشعر الممارسون أن الفنان ما زال لا يمكن الاستغناء عنه لأنه مَن يعطي الصور سياقا فنيا ومقصدا. ويبقى السيناريو الراجح اليوم هو أن الذكاء الاصطناعي سيصبح أداة للفنانين، لكنه لن يحل محلهم. أما تحديد إذا ما كان ما تُبدعه الآلة فنا أم لا فهو يعود إليك، لأن الجمال يكمن في عين ناظريه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *