مجتمع

حينما روى القرضاوي مشهدا نادرا من مناقشة دينية مع الحسن الثاني بالدروس الحسنية

بعد وفاته عن سنِّ الـ96 عاما بالعاصمة القطرية الدوحة، أول أمس الإثنين، أضحت سيرة العلامة المصري ومؤسس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الشيخ يوسف القرضاوي، محط اهتمام وأنظار العديد من الباحثين الذين أعادوا تسليط الضوء على مسار هذا العالِم الذي يُوصف بكونه أحد أبرز رموز الإسلام الوسطي المعتدل في العصر الحالي.

وعقب وفاته وحجم الحزن الذي خيَّم على الملايين من محبيه ورسائل النعي والرثاء في حقه على مستوى العالم الإسلامي وحتى البلدان الغربية، برز إلى الواجهة كتابه “ابن القرية والكتاب.. ملامح سيرة ومسيرة الدكتور يوسف القرضاوي”، الذي روى فيها أبرز المحطات التي عاشها في حياته وخلاصة أفكاره ومواقفه الشهيرة.

ومن ضمن المحطات التي ظلت راسخة في ذهن الشيخ الراحل، مشاركته في درس من الدروس الحسنية بالمغرب، ودخوله في مناقشة دينية مع الملك الراحل الحسن الثاني حول حديث نبوي، وذلك خلال ثمانينيات القرن الماضي.

ويكشف القرضاوي في كتابه المذكور، أنه دُعي في شهر رمضان سنة 1983، من قبل وزير الأوقاف المغربي الراحل، عبد الكبير العلوي المدغري، عن طريق سفير المغرب بالدوحة، للمشاركة في الدروس الحسنية التي اعتاد ملك المغرب الحسن الثاني أن يقيمها كل رمضان، ويدعو إليها عددًا من العلماء من خارج المغرب، بالإضافة إلى علماء المغرب.

وأوضح أن مشاركته في الدروس الحسنية جاءت بعد سلسلة من الاعتذارات التي قدمها سابقا، حيث كان قد قرر الحضور إلى المغرب قصد المشاركة في الدروس الحسنية سنة 1978، إلا أن دخول الملك إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية تسبب في إلغاء تلك الدروس حينها، قبل أن يقرر المشاركة في دروس سنة 1983.

وأشار إلى أن المبررات التي كانت تدفعه للاعتذار عن المشاركة في الدروس الحسنية، من قبيل أن هذه الدروس تلزم العلماء بطقوس معينة لا تتفق مع طبيعته، مثل الانحناء والمبالغة في الثناء والتعظيم للملك، لم يجد منها شيئا في الواقع، موضحا أن هناك علماء كانوا يسرفون في الثناء والإطراء نثرًا وشعرًا، لكن لم يلزمهم أحد بذلك، وإنما هم الذين التزموا به طوْعًا.

يقول القرضاوي في هذا السياق: “لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أدعي إليها لهذه الدروس، فقد دُعيت إليها من قبل عدّة مرات، ولكني كنت أعتذر عن عدم تلبية الدعوة بأعذار شتّى، فقد حذرني كثيرون: أن هذه الدروس تلزم العلماء بطقوس معينة لا تتفق مع طبيعتي، مثل الانحناء، والمبالغة في الثناء والتعظيم للملك الذي يدعونه عادة بأمير المؤمنين. وقلت: أنا في غنى أن أكلف نفسي ما لا تحبه ولا تحتمله، فالاعتذار أسلم طريق”.

وأضاف: “لكن سفراء المملكة في قطر الذين خالطوني وعرفوني ظلوا يلحُّون عليّ أن أستجيب، وقالوا لي: إن أحدًا لا يلزمك بشيء من هذه الطقوس، وكل عالم حر في تصرفه. وأخيرًا استجبت للدعوة في رمضان الموافق 1978م، وسافرت إلى المغرب فعلًا، للمشاركة في هذه الدروس، ولكن قدَّر الله أن يدخل الملك المستشفى لإجراء عملية جراحية، فلم تعقد هذه الدروس في ذلك الموسم”.

وفي سنة 1983، قرر القرضاوي المشاركة في الدروس الحسنية، حيث روى تفاصيل تلك المشاركة بالقول: “في الليلة المعهودة، ذهبت إلى قصر الملك، وحيَّيته وسلَّمت عليه من وقوف، ولم أضطر إلى أن أنحني، أو أخرج عن طبيعتي قيد أنملة، كما قد قيل لي من قبل. بل كان الرجل ودودًا بشوشًا مُرحَّبًا بي أكثر من غيري، ممن ألقوا دروسًا قبلي”.

وأضاف: “جلست على الكرسي وجلس الجميع -ومنهم الملك نفسه- على الأرض، وقد حضر ولي العهد -وهو الآن الملك محمد السادس- وحضر الوزير الأول والوزراء وكبار رجال الدولة، وقادة الجيش، وسفراء الدول الإسلامية، وكبار العلماء ووجهاء البلد. وكان سفير قطر في ذلك الوقت هو عميد السلك الدبلوماسي، لعراقته في وظيفته هناك، وهو الأستاذ عبد الله الجيدة”.

وتابع قوله في الكتاب نفسه: “ابتدأت درسي بقولي: مولانا الملك المُعظم… ثم استرسلت في درسي. وجدت الخطاب بهذا الوصف هو أكثر ما يكون ملاءمة لموقفي، وهو تعبير صادق عن الواقع، وليس فيه ما يؤخذ عليَّ”.

وأضاف: “أما كلمة «مولانا» فكر المسلمين موالي بعضهم لبعض، {وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖ} [التوبة: 71]، وأما كلمة «الملك» فهذه حقيقة، فهو ملك مبايع من شعبه، وأما كلمة «المُعظم» فهي حقيقة كذلك، بل هو معظَّم جدًّا، ولا سيما من ناحية نسبه الشريف، إذ هو يفخر بأنه ينتمي إلى الحسن السبط أحد سيدي شباب أهل الجنة. فلم أكذب ولم أنافق فيما قلت”.

وأوضح أنه اختار درسا مرتجلا ينطلق من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة: من يجدد لها دينها”، معتبرا أن الذي رجّح اختياره لهذا الحديث حينها هو “أننا في أوائل القرن الخامس عشر الهجري، فلم يمض منه إلا سنتان وبعض الثالثة”.

وأفاد القرضاوي في سيرته، بأنه شرح هذا الحديث أمام الملك وربطه بالواقع، مُبيِّنًا معنى التجديد وجوانبه المختلفة، وهل المجدَّد فرد أو جماعة أو مدرسة؟، وعرج على قضايا واقعية حية، طيلة 50 دقيقة استغرقها درسه.

وكشف أن الملك الحس الثاني كان يصغي إليه باهتمام، بوجهه وعينيه وأذنيه، وكذلك الحاضرون جميعًا، مضيفا: “كان حديثي يحمل نقدًا للواقع، الذي نعيشه في ديار العرب والإسلام، وهو حديث عالم مشغول بالدعوة والإصلاح والتجديد، فلا يُتصور أن ينفصل عن واقع الأمة وأدوائها وآمالها”.

وفي نهاية الدرس، سأل الملك القرضاوي سؤالًا مهمًا على عادته في مناقشة العلماء، حيث قال: “إنَّ الذي نحفظه في رواية هذا الحديث:، أنه بلفظ: «يجدِّد لها أمر دينها»، ليرد القرضاوي: “هذا هو المشهور على الألسنة، ولكن الذي رواه أبو داود في كتاب الملاحم من «سننه»، ورواه الحاكم في «مستدركه»، ورواه البيهقي في «معرفة السنن والآثار»، كلهم متفقون على هذه الصيغة: «يجدد لها دينها»، والتجديد بالمعنى الذي شرحته لا حرج فيه”.

واعتبر القرضاوي أن هذا السؤال من الملك والرد عليه بصراحة، كان موضع حديث المغرب كله باعتباره ردد على الملك ولم يُوافقه في الرأي، كما يفعل كثيرون، موضحا: “لا أرى في ذلك بطولة ولا فضلًا، فقد سأل الملك سؤالًا، وبيَّنت له الإجابة حسب علمي. ولن أحرّف العلم من أجل الملك، ولا أحسبه هو يرضى ذلك مني، ويبدو أن الذي تعوده الناس من العلماء: ألا يعقبوا على ما يقوله الملك”.

وأوضح القرضاوي أنه نظرا لانشغاله بالدرس أكثر من انشغاله بالملك، لم يفكر في الدعاء له في ختام حديثه، مشيرا إلى أنه ترك نفسه على سجيَّتها، “وكأنما أنا في درس في أحد جوامع الدوحة” وفق تعبيره.

وفي ختام المجلس، يقول القرضاوي: “صافحني الملك بحرارة، وقال لي: نريدك أن تكون معنا في الموسم القادم. وطلب مني أن أبلغ سلامه إلى سمو أمير قطر الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، وقد فعلت. كما سلَّم عليّ وليّ العهد وكبار رجال الدولة، وسفير قطر، الأستاذ عبد الله الجيدة، عميد السلك الدبلوماسي في المغرب، وسفير عُمَان، وقد كان ممن يحضرون دروسي في الدوحة، وقد حصل على الثانوية من قطر، وهو من آل الحارثي”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *