منوعات

الخريطة الجينية للبشر تحمل شواهد عن وباء الطاعون الذي قتل 200 مليون شخص

لا شك أن انتشار جائحة أو وباء يشكل محطة حساسة يقاوم فيها البشر من أجل البقاء. وما يزال وقع الخوف من جائحة كوفيد وموجات جديدة منه يجثم على صدر البشرية التي لم تتعافى منه بعد.

ويسجل تاريخ الأوبئة كيف شكلت مجازر حقيقية قضى فيها الملايين، ولعل اشهر تلك الأوبئة مرض الطاعون الذي تعد ضحاياه بعشرات الملايين في القرون السابقة

لكن الأوبئة لا يتوقف تأثيرها على الدمار الذي تحدثه في المجتمعات الإنسانية، ومت تحصده من أرواح، بل يتجاوز ذلك إلى بصم الخريطة الجينية للبشر، ليسجل بذلك أثره الذي سيتوارثه البشر في المستقبل أجيالا بعد أجيال، ويرهن قدراتهم على مواجهة الأمراض والأوبئة.

وهذه الحقيقة هي ما كشفت عنه دراسة حديثة رائدة أجريت على الحمض النووي المأخوذ من هياكل عظمية عمرها قرون، وخلصت إلى وجود متحورات أو طفرات ساعدت الناس على النجاة من الطاعون.

علامة وراثية عمرها 700 سنة خلفها “الموت الأسود”

رصد الباحثون، حسب بي بي سي عربي، علامة وراثية مذهلة، أو متحورات، ما زالت تؤثر على صحتنا بعد مرور قرابة 700 سنة على انتهاء وباء الطاعون.

وقضى حوالي نصف سكان أوروبا عندما اجتاح مرض الطاعون أو “الموت الأسود” القارة في منتصف القرن الرابع عشر.

لكن تلك المتحورات نفسها مرتبطة بأمراض تصيب جهاز المناعة وتؤثر على الناس اليوم.

ويعتبر الموت الأسود واحداً من أخطر الأمراض وأشدها فتكاً وقتامة في التاريخ البشري. وتشير التقديرات إلى أن عدد من قضوا نتيجة الوباء يصل إلى 200 مليون شخص.

وانطلق الباحثون من فرضية أن حدثاً بهذه الضخامة، لا بد أن يكون قد لعب دوراً في تشكيل التطور البشري، وعملوا على تحليل عينات من الحمض النووي “دي أن إيه” أخذت من أسنان 206 هيكل عظمي، وحددوا بدقة أن عمر الرفات البشرية يعود إلى ما قبل فترة انتشار وباء الموت الأسود أو خلالها أو بعدها.

وشمل التحليل عظاماً أخذت من حفر الطاعون في “إيست سميثفيلد” والتي كانت تستخدم كقبور جماعية لضحايا الوباء في لندن، ومزيداً من العينات التي جاءت من الدنمارك.

وتمحور الاكتشاف المميز، الذي نُشر في مجلة “نيتشر”، حول متحورات في جينة وراثية (مورثة) تدعى “إيراب 2”.

كيف شكل الطاعون خريطتنا الوراثية

تتلخص وظيفة الجينة الوراثية، “إيراب 2″، في تصنيع البروتينات المسؤولة عن تفتيت البكتيريا الغازية، وتعريف جهاز المناعة عليها، ما يمكنه من تحديد العدو بكفاءة أكبر.

ووجدت الدراسة، حسب نفس المصدر، أن الأشخاص الذين كانت لديهم المتحورات الصحيحة لتلك الجينة، كان لديهم احتمال أكبر للنجاة من الطاعون بنسبة 40 في المئة.

وقال البروفيسور لويس باريرو من جامعة شيكاغو: “تلك نسبة هائلة، وهو تأثير عظيم، إنه لأمر مفاجئ اكتشاف شيء كهذا في الخريطة الوراثية البشرية”.

وتأتي الجينة الوراثية بنسخ مختلفة- نسخ تعمل بشكل جيد وأخرى لا تفعل شيئاً- ويحصل الانسان على نسخة منها من كلا الأبوين. وبالتالي فإن المحظوظين، والمرجح بقاؤهم على قيد الحياة، هم الذين ورثوا نسخة فاعلة بدرجة عالية من الأم والأب. وكان للناجين أبناء فنقلوا لهم تلك المتحورات المفيدة، وهكذا أصبحت أكثر شيوعاً.

ويقول هندريك بوينار، أستاذ على الوراثة التطوري في جامعة ماكماستر، إن “التحول الهائل الذي نراه بنسبة 10 في المئة خلال جيلين إلى ثلاثة، هو أعظم حدث انتقاء لدى البشر حتى الآن”.

وتأكدت النتائج في تجارب معاصرة باستخدام بكتيريا الطاعون المعروفة باسم “يرسينيا بيستيس”. وكانت عينات الدم المأخوذة من أشخاص لديهم المتحورات المفيدة أكثر قدرة على مقاومة العدوى من أولئك الأشخاص الذين يفتقرون لتلك المتحورات.

وقال البروفيسور بوينار إن الأمر “يشبه مشاهدة الموت الأسود يتجلى أمام أعيننا في طبق اختبار زجاجي شفاف – ذلك أمر مثير للاهتمام”.

وتعتبر تلك المتحورات المقاومة للطاعون أكثر انتشاراً مما كانت عليه قبل تفشي وباء الموت الأسود.

والمشكلة هي أن هذه المتحورات مرتبطة بأمراض تصيب جهاز المناعة مثل مرض التهاب الأمعاء “كرون” – وهي ما ساعدت أجدادنا على البقاء على قيد الحياة قبل 700 عام لكنها قد تكون مدمرة لصحتنا اليوم.

آثار وراثية لفاعلين آخرين

وتركت قوى تاريخية أخرى أثرت على “دي أن إيه” الخاص بنا ميراثاً ما زلنا نشعر به.

فحوالي 1-4 في المئة من الحمض البشري المعاصر يأتي من تزاوج أسلافنا مع انسان نياندرتال، وهذا الميراث يؤثر على قدرتنا على الاستجابة للأمراض ومن بينها كوفيد.

وقال البروفيسور باريرو: “تلك الندوب من الماضي ما تزال تؤثر اليوم على قابليتنا للإصابة بالأمراض، بصورة لافتة جداً”.

وقال باريرو إن نسبة الـ 40 في المئة الزائدة في ميزة البقاء على قيد الحياة كانت بمثابة “تأثير اللياقة الانتقائي الأقوى على الإطلاق الذي تم تقديره لدى البشر”. وهو يقزّم على ما يبدو فائدة المتحورات المقاومة لمرض نقص المناعة المكتسبة “أتش آي في”، أو تلك التي تساعد على هضم الحليب- على الرغم من أنه حذر من أن المقارنات المباشرة شائكة.

غير أن جائحة كوفيد لن تترك ميراثاً مشابهاً.

فالتطور يعمل من خلال قدرتنا على التكاثر ونقل مورثاتنا. أما كوفيد فهو يعمل بشكل رئيسي على قتل كبار السن الذين تجاوزوا مرحلة إنجاب الأطفال.

لقد كانت قدرة الطاعون على القتل عبر الطيف العمري وبأعداد كبيرة جداً ما جعلته يخلف هذا التأثير الدائم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *