منوعات

قصة إطاحة عبدالناصر بـ«ضحية ثورة يوليو»: انقلب عليه رفاقه

«في ذلك المساء، فتحت دفتر مذكراتي اليومية، وأخذت أدوّن أحداث اليومين الأخيرين، وبعد أن انتهيت من الكتابة، صليت صلاة العشاء، استعدادًا للنوم، وقبل أن أنام، أقسمت بيني وبين نفسي أن أتحمل كل ما سيجري مهما كان مؤلمًا وأن أقبل أي اتهام، دون أن أدافع عن نفسي بكلمة واحدة»، بتلك الكلمات سجَّل اللواء، محمد نجيب، مذكراته عمّا حدث ليلة 14 نوفمبر 1954، وقتَ أن «انقلب مجلس قيادة الثورة، بقيادة جمال عبدالناصر عليه»، حسب قوله، والذي عُرف فيما بعد بـ«ضحية يوليو».

يقول «نجيب» في مذكراته، المعنونة باسم «كُنت رئيسًا لمصر»، عمّا قدمه في الاستقالة: «السادة أعضاء مجلس قيادة الثورة، بعد تقديم وافر الاحترام، يُحزنني أن أعلن لأسباب لا يمكنني أن أذكرها الآن، أنني لا يمكن أن أتحمل من الآن مسؤوليتي في الحكم بالصورة المناسبة التى ترتضيها المصالح القومية».

 

وأضاف: «أطلب قبول استقالتي من المهام التى أشغلها، وإني إذ أشكركم على تعاونكم معي، أسأل الله القدير أن يوفقنا إلى خدمة بلدنا بروح التعاون والأخوة»،

يقول: «بهذه العبارات المُختصرة والحاسمة قدمت استقالتي، في 22 فبراير 1954».

دوّنَ «نجيب» في مذكراته ظروف كتابة الاستقالة التى شعر بعدها براحة شديدة، حيثُ واجه أعضاء المجلس بمنتهى الصراحة، وتحديدًا المواجهة التى تتعلّق بسرقة الأموال العامة، كما يذكر: «سألني جمال سالم (لماذا أنت غاضب علينا إلى هذا الحد؟)»، فقلت لهُ: سأذكر لك أنت وأسرتك واقعة واحدة تجعلني غاضبًا، واقعة شقيقك الذي طبع اسمه على بطاقة وكتب تحتها (شقيق جمال سالم وصلاح سالم) ليسهل أموره ويكسب من ورائها الكثير».

 

في ذلك الوقت، كانت مصر تُحكم بواسطة 3 قوى، الجماعات، الوزارة الرسمية، مجلس قيادة الثورة، والمؤتمر المشترك المكوّن من الوزارة والمجلس، وكانت كل جماعة تتصور أن لها الحق في اتخاذ القرار قبل غيرها، وكرئيس للجمهورية والوزراء، وكزعيم للثورة، كان من المفترض أن يقود كل هذه السلطات، لكن في واقع الأمر كان نجيب لا يقود شيئًا على الإطلاق، وكانت القيادة مشتركة بين أغلبية أعضاء مجلس قيادة الثورة الذين سبقوني في ممارسة سُلطاتي، ولم يكُن أمامي إلا أمر من اثنين، إما أن أمارس سلطاتي كاملة، أو أستقيل لصالح جمال عبدالناصر.

وعن «عبدالناصر»، يقول «نجيب»: «إن عبدالناصر الذي كُنت أحترمه، كان شابًا صغيرًا، ذا قدرات متميزة، وقد اقترحت عليه أن أدير وأقود البلاد لعدة سنوات، إلى أن يكتسب الخبرة اللازمة التي تمكنه من أن يخلفني في الرئاسة».

 

كان على مجلس قياد الثورة أن يقرر خلال أسبوعين، إما أن يقبل الاستقالة، وإما أن يعترف بكامل سلطات نجيب، وفي اليوم التالي عرف أن المجلس غيّر رأيه، ففي ذلك اليوم لم يحضر اجتماع مجلس قيادة الثورة سوى أربعة من 6 وزراء عسكريين، كما يقول نجيب: «وعند مغادرتي قاعة المجلس، أحاط بي الصحفيون واستفسروا عن اجتماع بقية الأعضاء بدوني في المقر الجديد لمجلس قيادة الجزيرة».

ويُكمل: «في الصباح، استيقظت في السادسة والنصف، أديت صلواتي، وبعد نصف ساعة حاولت أن أتصل بإسماعيل فريد، لكن التليفونين كانا معطلين، وحاولت مع الثالث والأخير، لكنه هو الآخر كان معطلاً، وعندها أيقنت أنني وضعت تحت (التحفظ)».

 

لم يكُن «نجيب» يستطيع التحرُك من منزله، كما يقول: «أرسلت خادمي (محسن) لكي يرى ما إذا كان الحرس الجمهوري في مكانه أمام منزلي أم لا، فجاءني مذعورًا، وقال: (إن الحرس تم استبداله بخليط من المشاة والبوليس الحربي، وأن الجنود أمروه بأن يعود للمنزل ويبقى فيه)».

ويُضيف: «أرسلت إلى قائد البوليس الحربي مذكرة، سألته فيها عما إذا كان مسموحًا للخدم بالدخول والخروج أم لا، وما إذا كان من الممكن أن يذهب أولادي إلى المدرسة أم لا، وبعد ساعة جاءني الرد بالرفض، لكن سُمح لخادم واحد بالدخول والخروج لشراء الحاجيات الضرورية لنا».

 

وفي 25 فبراير، أصدر مجلس الثورة بيان إقالتي، والذي نصّ على:

«بالرغم من أن اللواء نجيب عُين رئيسًا للجمهورية ورئيسًا للوزراء، ورئيسًا لمجلس قيادة الثورة، فقد أصر اللواء نجيب على طلب سلطات أوسع وأكبر من المجلس نفسه، ولكننا رفضنا ذلك لكي نوزع السلطات توزيعًا عادلاً بين أعضاء المجلس».

لم يكُن البيان شديد اللهجة فقط، بل حاول الإساءة إلى شخص محمد نجيب، والتقليل من دوره في الثورة، كما ذكر: «حاولوا تحطيم صورتي، وتحويلي من ثائر إلى فاترينة، والتأكيد على أنني اخترت قائدًا للثورة على الرغم من أنني كنت بعيدًا عن صفوفهم، وأنني اخترت لهذه المهمة قبل قيام الثورة بشهرين، وكان سر اختيارهم لي (سمعتي الحسنة الطيبة)، وأنني علمت بقيام الثورة في ليلتها، عن طريق مكالمة من وزير الداخلية، فتحركت إلى مبنى قيادة الأركان، وأن جمال عبدالناصر وافق على ضمي إليهم وتنازل لي عن رئاسته للمجلس».

وبعد إذاعة البيان، اندلعت المظاهرات التلقائية الصاخبة في القاهرة والأقاليم تؤيد اللواء محمد نجيب، واستمرت لمدة 3 أيام، وكان وقتها نجيب معزولًا عن العالم إجباريًا.

 

وفي فجر السبت، 27 فبراير، يقول نجيب: «قمتُ من نومي على صوت نقر على شباك غرفة نومي، فطلبت من الطارق أن يحضر من الباب الأمامي، كانوا 8 ضباط شبان من سلاح الفرسان، على رأسهم الصاغ خالد محيي الدين، والذي انتحى بي جانبًا وقال: (المجلس قرر تعييني رئيسًا للوزراء)».

وأضاف: «عند الظهر فوجئت باليوزباشي، حسن التهامي، ومعهُ 5 من الضباط الذين لا أعرفهم، وقال لي: (لقد اكتشفنا أن خالد محيي الدين ورفاقه يدبرون انقلابًا شيوعيًا، أنت مشترك فيه؟)، فضحكت وقلت: (أقترح عليك أن توجه لي تهمة الخيانة العظمى وأن تطلق عليَّ الرصاص)».

وفيما بعد، تقرر عودة محمد نجيب وأذاع المجلس النبأ، وكما فرحت مصر، فرح السودان أيضًا، فنحر الناس الذبائح، ووزعوا الفاكهة والشربات، وأرسلوا في أول يوم من الخرطوم إلى القاهرة 20 ألف برقية تهنئة.

 

وفي التاسعة والنصف من صباح 28 فبراير، خاطبَ محمد نجيب الجماهير الغفيرة من قصر عابدين، وحاول التخفيف من حدة الأزمة فوصفها بأنها سحابة صيف سُرعان ما تنقشع، وطلب منهم أن يحافظوا على الوحدة وأن يساعدوا إخوانهم أعضاء مجلس قيادة الثورة.

وفي اليوم التالي، سافر إلى الخرطوم، برفقة صلاح سالم والشيخ أحمد حسن الباقوري، لافتتاح البرلمان، وكان التوقيت غير مُناسب للسفر، كما يقول، وفي أثناء غيابه زاد الموقف سوءا في مصر، حيثُ اعتقل عبد الناصر 118 شخصا بتهمة «استغلال الخلاف بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر في إشعال فتيل الثورة المضادة».

 

وعند تلك المرحلة، شعر نجيب أنّ كل شيء بينه وبين عبدالناصر انتهى، فكان لا بُد من عودة الحياة الديمقراطية والتخلص من الحكم الديكتاتوري، حسب قوله.

وفي منزل عبدالناصر، جرى اجتماع موسّع لمجلس قيادة الثورة، في منتصف ليلة 5 مارس، كما سجله نجيب، قائلاً:  «اتخذت فيه القرارات التاريخية الخاصة بعقد جمعية تأسيسية منتخبة بطريق الاقتراع العام المباشر، على أن تجتمع خلال شهر يوليو 1954، ويكون لهما مُهمات بارزة، مناقشة مشروع الدستور وإقراره، والقيام بمهمة البرلمان إلى الوقت الذي يتم فيه عقد البرلمان».

في ليلة 27 مارس، بالضبط في الساعة الثانية بعد مُنتصف الليل، يقول نجيب: «أيقظوني من النوم، لأجد أمامي في حجرة النوم، محمد رياض، يعتذر عن هذا الاقتحام، قُلت لهُ في توتر (في إيه يا محمد)، فقال (أنا آسف يا فندم، لكن فيه معلومات مهمة لازم أبلغها لسيادتك، هناك مظاهرات ستقوم في الصباح، لإسقاط الديمقراطية بإيعاز من مجلس الثورة)».

وكان من المقرر أن يزور الملك سعود الإسكندرية، ويرافقه محمد نجيب، فيما انفجرت مظاهرات في القاهرة، تغمر الشوارع وتسد طرقاتها وتهتف بحياة الثورة والضباط، وتطالب بسقوط الأحزاب والرجعية والديمقراطية، ودارت المظاهرات حول البرلمان والقصر الجمهوري، مُرددة: «لا أحزاب ولا برلمان».

وهو ما استدعى عودة «نجيب» فورًا، كما ذكر: «قطعت زيارتي للإسكندرية، وعدت بالطائرة في المساء، لأجد مجموعة من الضباط في انتظاري، يعلنون استعدادهم الكامل لتحريك قواتهم ضد مجلس الثورة، أو اعتقالهم في مقرهم، وكان الموقف يقترب من المذابح ونزف الدماء».

وعن اللحظات الأخيرة، يقول «نجيب»: «في 14 نوفمبر، توجهت إلى مكتبي في القصر الجمهوري، فوجدت بعض ضباط البوليس الحربي على باب القصر، وقالوا لي بصوت خافت: (إن مجلس الثورة قرر إعفاءكم من منصب رئيس الجمهورية)».

 

وأضاف: «هُنا قلت (أنا لن أستقيل الآن لأني بذلك سأصبح مسؤولاً أمام التاريخ عن ضياع صلة السودان بمصر، أما إذا كان الأمر إقالة فمرحبًا لأنكم تعفونني من مسؤولية لم يعُد ضمير يحتملها)».

خرج بعدها اللواء محمد نجيب من القصر الجمهوري، حاملاً مصحفه، وركب السيارة مع حسن إبراهيم، مُتجهين إلى المرج، حيثُ مكان استراحة «زينب الوكيل»، ثم وضعَ تحت الحراسة، واستمرت إقامته من نوفمبر 1954 إلى أكتوبر 1983.

يقول «نجيب» في مذكراته أيضًا، إنه «شعر بالغدر من رفاق الثورة، والذين انقلبوا عليهِ وأطاحوه من منصبه، وكثيرًا ما كان يردد: (ماذا جنيت لكي يفعلوا بي كل هذا؟)، وظلّ ذلك الإحساس يرافقه طوال حياته، وحينما توفي أحد كلابه دفنه في الحديقة وكتب على شاهد القبر «هنا يرقد أعز أصدقائي».