وجهة نظر

صناعة “القطيع” في قضية الصحراء!

لن يختلفَ المهتمين بتفاصيل الشأن السياسي المغربي والمغاربي عموما حول ترنح “النظام المغربي” في تسيير ملف قضية الصحراء منذ تفجرها عقب ”انتفاضة الزملة” سنة 1970 وإن كان واقع الحال والظرفية السياسية الدولية يفرضان حالة لا رابح ولا خاسر وسيادة وضع الستاتيكو على كل الأطراف منذ توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار بين جبهة البوليساريو والمملكة المغربية سنة 1991.

تسيير ملف الصحراء الذي اتسم في فترة طويلة بالأحادية والتعتيم من طرف المؤسسة الملكية، اللهمَّ حملات الشحن والتعبئة الشعبية التي تقفز مرةً تلو الأخرى منذ أيام المسيرة الخضراء سنة 1975 إلى ”مظاهرات بان كيمون” الأخيرة لتنفيس أزمات النظام المغربي، سيقفزُ (تسيير الملف) إلى مرحلة التشاور والتسيير التشاركي من أجل الدفاع عن القضية الوطنية الأولى كما يسميها النظام موحياً بتغيير العقلية القديمة في تسيير ملف الصحراء ونهج تكتيكات أكثر ديمقراطية وعصرية من قبيل دبلوماسية الأحزاب والبرلمانات واشراك قطاعات الشعب المغربي والانفتاح على القوى الدولية الأخرى خارج حلف فرنسا-الولايات المتحدة الأمريكية.

إلا أن الثابت الذي لا يعرفُ تغير وتجديد لدى النظام المغربي هو مَنهج صناعة القطيع “الشعبي” وفق آليات قديمة سوَّقت لبروباغاندا رسمية عمياء أبعدت الشعب المغربي عن حقيقة قضية الصحراء وأخفت عنه حقائق تاريخية كانت ستساعد في بناء موقف وطني واضح وتقديم وقفة نقدية صريحة حيال هذه القضية التي عطَّلت مسيرة نهضة شعوب المنطقة لعقود طويلة.

بالفعل النظام المغربي سوَّق طيلة العقود الماضية لخطاب المظلومية وضحية المؤامرات الخارجية وشيطنة جبهة البوليساريو في الوقت الذي عملت فيه آليته الإعلامية والتعليمية والسياسية على إخفاء حقائق تاريخية ومعطيات تنسفُ جملةً وتفصيلا الخطاب والمواقف الرسمية اتجاه قضية الصحراء وقد تُغير حتى رؤية الشعب المغربي للصراع الدائر، فعلى سبيل المثال:

في سنة 1912 وبعد دخول قوات الاستعمار الفرنسي إلى المغرب وتنازل السلطان عبد الحفيظ عن العرش قامت أغلب القبائل الصحراوية والسوسية بمبايعة المجاهد الصحراوي أحمد الهيبة بن الشيخ ماء العينين على الجهاد وبجمع جيش من المجاهدين والزحف إلى مراكش، التي دخلها في أواسط شهر غشت 1912 وطردَ المقيمين الفرنسيين المتواجدين هناك. ثم قام بمبايعته كل القواد المغاربة الذين كانوا قد بايعوا السلطان العلوي فيما قبل وعلى رأسهم ”الباشا إدريس بن منو” و”الباشا الكلاوي” و”القايد التهامي” وغيرهم.

هذه النازلة التاريخية التي يسكتُ عنها النظام المغربي والتي لا تتطرق لها كتب التاريخ غير الموضوعية (برغم أن بحث بسيط عن هذه الحقائق سيظهر أكثر مما نستطيع التطرق إليه هنا) شكلت حالة قطيعة وانتفاء لعهد البيعة بين القبائل الصحرواية وحتى السوسية مع الحكم العلوي بمجرد توقيع العلويين على عهد الحماية مع فرنسا ومبايعة أحمد الهيبة بن الشيخ ماء العينين.

في سنة 1975 كذلك، وأمام تزايد الضغط الشعبي الذي تحول إلى حراك تحرري صحراوي بعد انتفاضة الزملة سنة 1970 وارتفاع العمليات الفدائية ضد قوات الاستعمار الإسباني قررت اسبانيا تنظيم استفتاء تقرير المصير لـ “الشعب الصحراوي”، وهو ما أثار حفيظة كل من المغرب وموريتانيا آنذاك كون النتيجة كانت محسومة باستقلال “الصحراء الغربية” وقيام كيان صحراوي جديد.

لذلك سارع المغرب إلى تنظيم المسيرة الخضراء في نونبر 1975 لخلط الأوراق وتوافرت معلومات عن كون إسبانيا اتفقت مع المغرب على هذه الخطوة لأنها كانت ترفض استقلال الصحراء وترغب ببقاء مصالحها وحمايتها من طرف حليف موثوق بهو هو ما تُرجم في تراجع القوات العسكرية الإسبانية إبان المسيرة الخضراء وعدم إطلاق رصاصة واحدة ولو للتخويف أمام الحشود المعزولة السلاح وتُرجم بشكل أوضح فيما بعد في اتفاقية مدريد 1976 التي جمعت إسبانيا بالمغرب وموريتانيا.

في هذا الصدد، وفي 14 نونبر 1975، بعد تنظيم المسيرة الخضراء وصدور الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول الصحراء، وقعَ الحسن الثاني اتفاقية مدريد التي تضم اسبانيا والمغرب وموريتانيا وتنص على تسليم إقليم “الصحراء الغربية” إلى المغرب وموريتانيا مع الإبقاء على الأسطول البحري الإسباني وضمان حماية المصالح السياسية والاقتصادية لإسبانيا، ثم بعد ذلك سيقوم المغرب وموريتانيا بتوقيع اتفاقية بينهما في أبريل 1976 قُسِّمت بموجبها “الصحراء الغربية” بين المغرب وموريتانيا بحيث تحصل هذه الأخيرة على إقليم واد الذهب ويحصل المغرب على إقليم الساقية الحمراء.

هذه الاتفاقية المسكوت عنها أيضاً تضع نظام الحسن الثاني مُتهماً أمام الشعب المغربي (الذي قال له في يوم من الأيام لن أتنازل عن شبر واحد من الصحراء) بزعزعة الثوابت الوطنية والتفريط في أراضي مغربية قبل أن يتهم جبهة البوليساريو بالتربص بالوحدة الترابية للمغرب وهكذا تنتفي سيادة المغرب وفق مقتضيات القانون الدولي على إقليم وادي الذهب. بهذا الخصوص كانت أسبوعية الصحيفة قد نشرت سنة 2005 معلومات سرية مسربة عن اتفاقية مدريد تُفيد بأن اسبانيا سلَّمت الحسن الثاني إقليم الساقية الحمراء مقابل السكوت عن احتلالها لسبتة ومليلية، وهي المعلومات التي أقفلت بسببها هذه الأسبوعية ولم تعد للنشر!

بعد تقسيم “الصحراء الغربية” بين المغرب وموريتانيا أعلنت “جبهة البوليساريو” الحرب على الدولتين وقامت بتركيز عملياتها العسكرية ضد موريتانيا بحكم ضعفها آنذاك ودخولها في موجة الانقلابات العسكرية، فسرعان ما خرجت موريتانيا من الصراع بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس ”المختار ولد داداه” ووقعت مع جبهة البوليساريو اتفاق سلام بالجزائر يوم 5 غشت 1979 دخلت بموجبه قوات البوليساريو إلى اقليم واد الذهب لكن سرعان ما تحرك الجيش المغربي الذي لم يقبل بتواجد كيان جديد على حدوده الجنوبية واستمر الصراع طويلا إلى أن استطاع المغرب دفع قوات البوليساريو شرقا وبناء الجدار الرملي الذي يقسِّم الصحراء إلى نصفين بين المغرب والبوليساريو (القسم الشرقي هو مايطلق عليها بالمنطقة المعزولة السلاح).

من بين المراوغات الإعلامية التي يُراوغ بها النظام المغربي من أجل صناعة “قطيع شعبي” يدعم سياسته حيال قضية الصحراء هو ترويجه الناقص لقرار محكمة العدل الدولية الصادريوم 16 أكتوبر 1975 مفاده إقرار وجود روابط بيعة بين سكان إقليم “الأقاليم الجنوبية” والمملكة المغربية وأنَّ الصحراء لم تكن أرضا خلاء قبل الاحتلال الإسباني، في حين قراءة قرار المحكمة الصحيح يوحي بأن النظام المغربي قرأ آية ”ويل للمصلين” واكتفى!

إذ أن قرار المحكمة يقرُّ بالحرف وجود صِلات اجتماعية وروحية وسياسية بين إقليم الصحراء وسكانه وبين البلدين (المغرب وموريطانيا)، كما نصَّ على أنَّ “الصحراء الغربية” لم تكن أرضا خلاء قبل الاحتلال الإسباني وأن العلاقات القائمة لم ترقَ يوما إلى مستوى السيادة ولا يُمكن أنْ تُؤثر على حق سكان الإقليم في تقرير مصيرهم السياسي. وكان هذا القرار قد جاء بعدما طالبت الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل يومين من صدور قرار محكمة العدل، بتنظيم استفتاء لتقرير المصير في إقليم “الصحراء الغربية”.

كما أن روابط البيعة بين قبائل “الصحراء الغربية” والحكم العلوي بالمغرب التي يصرُّ النظام المغربي على التأكيد عليها كورقة قانونية وتاريخية في دفاعه عن سيادته على إقليم الصحراء الغربية تُظهره فاقدا للمصداقية وناهجا لسياسة الكيل بمكيالين وهو الذي تخلى عن إقليم موريتانيا بأكمله في آواخر الخمسينات رغم روابط البيعة التي تجمعه بشعب البيظان في موريتانيا! (لعل خير تجلي لهذا المثال هو انتماء الرئيس الموريتاني الحالي ولد عبد العزيز إلى أحد أكبر القبائل المغربية قبيلة أولاد بالسباع).

إخفاقات النظام المغربي تتجلى أكثر في الكذب على الشعب ببروباغاندا ”المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها” وهي ليست سوى بروباغاندا مُضللة أعمت الشعب عن حقيقة أن المغرب لا يحكم ولا يتواجد أصلا بمناطق شاسعة في الصحراء الغربية كمنطقة الكويرة وتفاريتي وبئر الحلو وأمغالة ومهيرس وميجك وأكوانيت وزوك والكراكات، فضلا عن المحاولات التشويهية لجبهة البوليساريو من التعميم الإعلامي للفظ “البوليزاريو” مقابل “البوليساريو” (وكأن إقليم الساقية الحمراء اسمه الزاقية الحمراء) إلى ربط مقاتليها بالإرهاب والتطرف.

قضية وطنية وحساسة كقضية الصحراء تستلزم من كافة أطياف الشعب المغربي بمعية مثقفيه وفعالياته السياسية والمدنية وقفة نقدية واعية بالنزيف التاريخي والحضاري الذي تعانيه شعوب المنطقة من جراء هذه القضية وإقرار موقف شعبي حازم وجريء يضعُ حلولا جادة بعيداً عن منطق ترويج الأكاذيب وخطاب المظلومية وصناعة القطيع.