لنا ذاكرة، مجتمع

دار مولاي هشام بدمنات معلمة تحكي مجد الماضي وتهميش الحاضر (صور)

أن تتحدث إلى شخص من أصول دمناتية، فهذا يعني أنك ستسمع كلاما عن تاريخ المدينة، وعن كون تأسيسها سبق مدينة مراكش بعشرات السنين. كما لن يمل من الحديث عن قصباتها وأبراجها وساحاتها وأسوارها، وعن زواياها، ولن ينسيه هذا الكلام الكثير عن مدينته سرد تفاصيل عن قصر مولاي هشام الذي يعود بناؤه إلى مئات السنين.

مدينة دمنات، وإن كان ما آلت إليه يقلق البعيد قبل القريب بعد عقود من التسيير الذي يوصف بالعشوائي، فإن حبها يسكن قلوب كل المواطنين الأصليين، وقلب كل مواطن يقصد زيارتها لأول مرة حيث عبق التاريخ وسحر المكان.

المدينة مليئة بالمآثر التاريخية التي تسمح لقاصديها بزيارة عبر التاريخ “ليتأملوا لمسات فنان تلك الحقبة الذي صنع المعجزات بأيديه وأرجله وذكائه”، كما عبر عن ذلك الباحث في تراث الغرب الإسلامي، محمد أبحير.

قصر مولاي هشام.. أسرار الماضي

ومن بين المآثر التي لا تزال شاهدة على هذا الإبداع قصر مولاي هشام الذي يوجد بالقرب من الشارع الرئيسي محمد الخامس وغير بعيد عن دار الشباب الشهيد محمد الزرقطوني، “حيث الطبيعة الفاتنة على مد البصر، وتحرسه رحى تسمى بنفس اسم القصر، كما أن واجهة هذا الأخير الأمامية توحي بـأن داخله مازال يحكي أسرار الماضي”، يضيف الدكتور محمد أبحير في حديثه لجريدة “العمق”.

واستطرد المتحدث بالقول: “عندما نكون في قلب دار المولى هشام لابد أن نسرح بخيالنا إلى قرون مضت لنتصور كيف كانت صورة القصر في ذلك الزمن البعيد ونقارن بينها وبين الأطلال الباقيـة، فعلا! لنتصور أنفسنا في تلك الأيام أمام الدار في زمن بهائها ومجدها حين كان يؤمهـا أصحابها”.

أما عن تسمية القصر فقد أوضح الباحث في التراث والتاريخ، زيدان عبدالهادي، أن القصر سمي بـ “دار مولاي هشام” نسبة إلى مؤسسها أو بعبارة أخرى الذي قام ببنائها وهو المولى هشام نجل مولاي اسماعيل. وقد جاء بناؤه لهذه الدار أو القصر كما يحلو للبعض تسميته بعد أن التمس منه سكان دمنات أن يقيم بينهم ليضمن استقرارهم وتفاهمهم ويخلق بينهم السلم والسلام.

وأضاف زيدان في حديث مع جريدة “العمق” “وهو مايرجح أن بناء هذه الدار كان زمن انتفاض هذا الأمير ضد أخيه مولاي سليمان حيث دامت ثورته حوالي سبعة أعوام وقد عقد اتصالات مع عدة جهات لاسيما تادلا، ولعل سيطرته على منطقة دمنات قد يؤمن له الطريق نحو تادلا”.

وبشعور لا يختلف عن شعور كل الدمناتيين وهم يتحدثون عن مدينتهم، يتحدث الفاعل الجمعوي عبداللطيف بوغالم عن هذه المعلمة بالقول: “تبقى دار مولاي هشام بمدينة دمنات الشاهد الوحيد على أن المدينة كانت موقعا تاريخيا مهما وممرا اقتصاديا استراتيجيا بين جنوب وشمال المملكة. فاختيار السلطان المولى هشام النزول والإقامة بالمدينة ليس بمحض الصدفة بل له دواعيه السياسية والاقتصادية في ظل حكم سلاطين و أمراء المملكة المغربية منذ قرون”.

حاضر يطمس حضارة الماضي

أما اليوم فقد تنكر الحاضر لماضي القصر وأدواره وتاريخه، فـ”الدار الآن يلفهـا الصمت كـأنـهـا تنـادي من يـخـفـف عنهـا عبء الزمن وأهواله. فأسوار القصر الخلفية مدمرة وبعضها الآخر آيل للسقوط بل إن الأتربة التي يرمى بها داخل القصر قد طمست بعض ملامحه، ومما زاد المعلمة عذابا أن الروائح الكريهة تستقبلك من الباب إن حظيت بالدخول منه أو من واجهة الدار الخلفية، يتحدث الأستاذ محمد أبحير بكثير من الحسرة.

وفي نفس السياق، قال المستشار الجماعي، عبداللطيف بوغالم، إن هذا الموروث التاريخي المادي الذي يستوجب منا العناية كرمز لهوية وطبيعة الحكم بالمغرب أصبح أطلالًا و بقايا تجلب الويلات على السكان الذي يجاورون المكان و أصبح ملاذاً للمتسكعين. كما بات مصدر قلق لكل من يفكر بالمرور بالقرب منه، وتحول إلى مكان للخوف وانعدام الأمن.

أستاذ مادة التاريخ، عبدالهادي زيدان، قال في هذا الصدد، إن دار مولاي هشام بدمنات أصبحت اليوم عبارة عن أطلال وأسوار تواجه التهميش والدمار وفي طريقها إلى الاندثار في ظل غياب تدخل عاجل من طرف الجهات الوصية من أجل القيام بأعمال الترميم والمحافظة وإعادة الاعتبار لهذا التراث المادي الذي يشكل جزءاً لا يتجزأ من تاريخ مدينة عريقة لعبت أدوارا مهمة كونها صلة وصل بين العاصمتين التاريخيتن للمغرب (فاس ومراكش).

وأضاف أن هذا الوضع حول المكان إلى فضاء مهجور يعيش على وقع الإهمال والتهميش وتركه للمتسكعين وغيرهم. وأضاف أيضا أن ماتعيشه هذه البناية يجعلنا نطلق نداء إلى الجهات الوصية محليا وجهويا وكذلك وطنيا من أجل إنقاذ هذا التراث وترميمه والمحافظة عليه.

من جانبه، قال الفاعل الجمعوي، عماد اندهمو في تصريح لجريدة “العمق” إن هذا القصر كان قبل قرون من الآن بمثابة دار المخزن لفترة طويلة يأوي قواد وشيوخ المخزن المركزي، ومحل استقبال خدام الدولة المغربية، وقد تم إهمال هذه المعلمة بعد تأسيس دار القايد داخل أسوار المدينة بالقصبة التي أضحت تقوم بوظيفته، ومنذ ذلك الحين أهملت دار مولاي هشام وبدأت بنايته تتدهور شيئا فشيئا إلى أن وصلت إلى ماهي عليه اليوم.

وأضاف اندهمو إلى أنه بالإضافة إلى ما ذكر، فإن عوامل أخرى ساهمت في تآكل جدران هذه البناية التي تذكرنا بعبقرية العمارة المغربية، خصوصا في العقود الأخيرة ولعل ابرزها التلف الناجم عن عوامل المناخ، والضرر الذي ألحقه السكان بهذه المعلمة، والمتمثل في سرقة الأحجار والأخشاب بغية استعمالها في التشييد والبناء، بالإضافة إلى أعمال التخريب والنهب من طرف الباحثين عن الكنوز، يضيف المتحدث.

ماذا لو تم تأهيل المكان؟

المستشار بوغالم دعا ضمن تصريحه جميع مكونات المجلس الجماعي لدمنات إلى جعل تأهيل فضاء دار مولاي هشام من بين أولوياتهم، خصوصا وأن الجماعة وقعت اتفاقية برنامج التأهيل المندمج 2023-2026 والذي تعتبر فيه وزارة الشباب والثقافة والتواصل من بين أهم شركاء الاتفاقية بعد وزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة ومجلس جهة بني ملال خنيفرة.

وأشار المتحدث إلى أن الاتفاقية خصصت مبلغ 3.000.000,00 (ثلاثة ملايين درهم) لمحور تأهيل الأسوار والمآثر التاريخية. مجددا دعوته إلى جميع المكونات إلى العمل على تأهيل الفضاء وتشييد متحف يضم مكنونات الثقافات المتعددة التي عاشت بالمنطقة بجانب الثقافة الأمازيغية من عرب ويهود، وجعله رافعة لتنمية المدينة عن طريق تشجيع السياحة، وفق تعبيره.

أما الباحث في تراث الغرب الإسلامي محمد أبحير، فقد أوضح أن التراث الثقافي يعد خزانا أمينا لحضارتنا، وثقافتنا، وينعكس فيه الشعور والتفكير، وعادات الأفراد وتقاليدهم، وبالتالي فإنه خلاصة تختزل مجموع ثقافة مجتمع ما، وحضارته وتقاليده وقيمه.

وقال إن تثمين دار المولى هشام  يمكن في إطار ما يسمى بالسياحة الثقافية؛ إذ ستسهم بشكل أساس في التعريف بتاريخ المنطقة في مجال العمران والتذكير بمختلف الأحداث والوقائع المرتبطة به. كما يمكن استثمار هذه المعلمة عن طريق تحويلها إلى متحف يحتضن ثقافة الإنسان الدمناتي في مجال العلوم والصناعات التقليدية والأعراف والتقاليد ومختلف أشكال التعبير الفني.

ويأمل زيدان عبد الهادي أن ترمم دار مولاي هشام بدمنات بشكل يحافظ على أصالتها وهويتها ولم لا تحويلها إلى متحف اثنوغرافي محلي يضم كل ماله علاقة بدمنات (اللباس المحلي، أدوات الطبخ، الحلي، أدوات الفلاحة، صور فوتوغرافية تاريخية للمدينة، وأبوابها التاريخية وأسوارها، الخزف المحلي، الأدوات المستعملة في بعض الصناعات والحرف اليدوية).

وقال ضمن تصريحه إن هذا سيجعل المكان قبلة للسياح من مختلف مناطق المملكة وخلق رواج تجاري وسياحي، والأكيد أن تدخل الجهات الوصية بهذا الشكل سيمكن لا محالة من إعادة الاعتبار لهذا التراث المتميز.

وأضاف زيدان: “ينبغي إدراج نماذج من التراث المحلي لكل منطقة في المنهاج الدراسي على الصعيد الوطني”، مشددا على ضرورة إشراك المجتمع المدني في إعطاء تصوراته وبعض الأفكار التي من شأنها تقديم مقترحات عملية تروم إعادة الاعتبار لدار مولاي هشام وجعلها مزارا سياحيا يستقطب السياح والطلبة الباحثين والمتخصصين في التاريخ والتراث وعلوم الآثار.

أما أستاذ التاريخ في ثانوية دمنات التأهيلية، عماد اندهمو، فقد أكد على أن ترميم وصيانة “دار المولى هشام” سيعزز القيمة الثقافية والتاريخية للمدينة وسيساهم في الحفاظ على التراث الثقافي والتاريخي للمنطقة، وستعمل هذه الجهود على تعزيز الجاذبية السياحية للمدينة وزيادة الاهتمام بتراثها الثقافي والتاريخي.

ويضيف اندهمو قائلا: “أما من الناحية الاقتصادية، فإن ترميم “دار المولى هشام” وإعادتها إلى مجدها السابق سيساهم في توفير الفرص الاقتصادية للمجتمع المحلي، وسيعمل على تعزيز الحركة السياحية وزيادة عدد الزوار الذين يزورون المنطقة، وبالتالي ستحدث تأثيرا ايجابيا على الاقتصاد المحلي.

وختم تصريحه بالقول: “يجب أن نتذكر دائما أن التراث الثقافي هو جزء أساسي من الهوية الوطنية، وعدم الاهتمام به يؤدي إلى فقدان جزء من هويتنا وتاريخنا”.

من جانبه، قال عضو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، عزيز الوالي، لابد لنا كمهتمين بالشأن العام أن ننفض الغبار عن هذه المعلمة التاريخية  التي طالها التهميش والنسيان بمدينة دمنات، مشيرا إلى أن هذه المعلمة التاريخية، كباقي المآثر التاريخية بالمدينة لم تحظ بأي اهتمام من طرف القائمين على تدبير المدينة،

وقال في تصريح لجريدة “العمق” إنه من هذا المدخل لابد أن نسجل موقفنا الحقوقي المتمثل في الاستنكار الشديد الذي يطال المآثر التاريخية بالمنطقة، مطالبا بإعادة النظر في سياسة المدينة، والذي سيعود بالنفع على أبنائها، من خلال التركيز على المآثر التاريخية كركيزة أساسية لإحداث قفزة نوعية على المستويين السياحي والاقتصادي.

رغبة في التأهيل

مصدر مسؤول بالمصالح الجهوية لوزارة الثقافة ببني ملال عبر في تصريح لجريدة “العمق” عن قلقه لما آلت إليه هذه المعلمة التاريخية بالمدينة والتي تدخل ضمن التراث المادي الذي تزخر به دمنات، وأهاب المتحدث بكل الفاعلين على مستوى دمنات العمل من اجل الترافع للحصول على التمويل الكافي لتأهيل دار مولاي هشام.

وأكد في تصريحه أن المشكل الذي واجهته مديرية الثقافة أنها لم تحصل على أي وثيقة تثبت ملكيتها للدولة، كما أن السلطات لا تملك أي معلومات عن مالكها، مشيرا في نفس الوقت إلى أن المصالح الجهوية قامت الان بالإجراءات اللازمة لتسجيلها ضمن أملاك الدولة.

وأشار المصدر ذاته إلى أن مصالح الوزارة المعنية ببني ملال لها تصور واضح لتأهيل هذه المعلمة، كما أنها عازمة على ترميم القصر وتحويله إلى مرافق تؤدي وظائف تساهم في التنمية المحلية والمستدامة، وتعيد الاعتبار للمنطقة بشكل عام.

وفي انتظار ذلك، تبقى دار مولاي هشام مراحيض عمومية، ومكانا للمتشردين وتجار المخدرات ومأوى للكلاب الضالة، إن لم تتحول إلى كتل خرسانية كبعض المآثر التاريخية التي استولت عليها مافيا العقار بالمدينة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *