حوارات، مجتمع

هشام المكي: يرصد الأدوار الفعلية لوسائل التواصل الاجتماعي وانعكاساتها على الأفراد

لا يختلف اثنان على أن وسائط التواصل الاجتماعي أضحت تشكل جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية للأفراد، بل يمكن القول إنها باتت تستحوذ على قسم من الأقسام الحياتية الطبيعية للإنسان، على غرار الأكل والنوم، ولعل من نافل القول أن فاعلية هذا العنصر الدخيل تسائل الجميع، أفرادا ومجتمعات ومؤسسات، عن طبيعة وأبعاد ومحددات العلاقة التي تجمع الكائن البشري به، أو يمكن القول إن التطورات التكنولوجية المتسارعة تستعجل العمل على ضرورة تقييم آثار ونتائج وانعكاسات هذا العنصر على المجتمعات الإنسانية، ومناقشة مسمياته وأدواره الفعلية.

في هذا السياق يرى أستاذ الإعلام والتواصل، ومدير كرسي الألكسو للاتصال: الأخلاقيات والمعرفة والمجتمع، هشام المكي، أن الفوضى التي يعرفها استخدام هاته المواقع، وعدم وجود قواعد واضحة، هي أمر مقصود يخدم التوجه التجاري الربحي لهاته المواقع، وأنه يمكن القول إن المعايير الأخلاقية لـ”فيسبوك” وضعت فقط لإرضاء الزبناء/ المستخدمين وهي مجرد “تجميل” فرضته الضرورة التسويقية.

ويضيف المكي في حوار مع ‘‘العمق‘‘، أن استخدامات مواقع التواصل الاجتماعي هي بمثابة تعلم اجتماعي للأفراد، مقدما في ذلك ثلاثة مسارات أساسية غير معلوماتية للنضال في اتجاه تطويع وكبح جماح التطور التكنولوجي المتسارع بما يجعله يتماشى ومتطلبات الحياة الإنسانية.

وفيما يلي نص الحوار كاملا:

ما هي المحددات المعيارية التي تؤطر علاقة مواقع التواصل الاجتماعي مع مستخدميها؟

أحب أن أعكس السؤال بداية قبل الإجابة عنه، حتى نستوعب حجم الفجوة: فمستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي لهم دوافع متنوعة ويبحثون عن إشباعات مختلفة؛ تشمل مثلا التعبير عن النفس، والتواصل مع الآخرين، والترفيه وتزجية الوقت، وإشباع الفضول، والتلصص على الآخرين، والبحث عن موارد تطوير الذات وتثقيفها… فهل تتخيل أن مواقع التواصل الاجتماعي مصممة أصلا لإشباع كل هذه الطموحات بشكل ناجح؟ وبالعودة إلى السؤال الأصلي، يبدو أن مواقع التواصل الاجتماعي مصممة وفق منظور تجاري صرف، بمعنى أن الطريقة التي صممت بها مواقع التواصل الاجتماعي تهدف أساسا إلى التربح من سلوك مستخدميها، وهذه الفوضى في الاستخدام ودوافعه، وعدم وجود قواعد واضحة هي أمر مقصود يخدم هذا التوجه التجاري.

ما موقع الأخلاق نسبية كانت أو عامة من سياسة هذه المواقع؟

ما دمنا نتحدث عن الاستخدامات، فسنستخدم مصطلح الأخلاقيات باعتبارها أقرب إلى قواعد أخلاقية عملية تؤطر الطريقة التي نستخدم بها مواقع التواصل الاجتماعي. ويمكن أن نقدم نموذج أخلاقيات فيسبوك باعتباره أكثر مواقع التواصل الاجتماعي استخداما بما يقارب ثلاثة ملايير مستخدم، وهو ينطلق من أربع قيم أساسية هي: المصداقية والسلامة والخصوصية والكرامة، ويمكن أن نلخص التوجهات الأخلاقية للفيسبوك كما يلي: تقييد المحتويات المروجة للعنف والسلوك الإجرامي المخالف للقانون، وتقييد المحتوى المروج لإذاية الذات أو إذاية آخرين خصوصا الاستغلال الجنسي وخطاب الكراهية، والحرص على النزاهة والمصداقية من خلال تقييد المحتوى الاحتيالي وحذف المعلومات المضللة واحترام الملكية الفكرية.

لكن بتقييم هذه التوجهات الأخلاقية في ضوء السياسة الواقعية لفيسبوك، نكاد نجزم أن تلك المعايير الأخلاقية وضعت فقط لإرضاء الزبناء/ المستخدمين وهي مجرد “تجميل” فرضته الضرورة التسويقية؛ حيث يتعرض فيسبوك إلى اتهامات متوالية، شملت المشاركة في تزوير الانتخابات الرئاسية الأميركية في 2016 وانتهاك الخصوصية، ونشر الكراهية، بل وتعريض المراهقين لأخطار عديدة جراء استخدام منتجاتها. كما تعرض موقع “فيسبوك” إلى فضيحة كبيرة إثر تسريب العديد من المعلومات التي تظهر خروقاته من طرف الموظفة السابقة في فيسبوك، فرانسيس هوغن، حيث تطور الأمر لتقدم شهادتها أمام الكونغرس.

وقد أشارت التسريبات إلى أن خروقات الفيسبوك شملت التغاضي عمدا عن نشر الأكاذيب والمعلومات المضللة لزيادة أعداد المتابعين وخدمة بعض التوجهات السياسية. مثلما تعمد الفيسبوك التغاضي عن المنشورات التي تنشر معلومات خاطئة عن لقاح كورونا بدعوى الحفاظ على حرية التعبير، لكن الدافع الحقيقي هو أن تلك المنشورات تزيد التفاعل على المنصة.

ما هي الانعكاسات -الآنية والمتوقعة- الاجتماعية لهاته المواقع على الأفراد؟

إذا أردنا أن نبقى حصرا ضمن الانعكاسات الاجتماعية، فاستخدامات مواقع التواصل الاجتماعي هي بمثابة تعلم اجتماعي للأفراد، يقوم بإحداث تغييرات عميقة في قيمنا الاجتماعية، فجميعنا نلاحظ أن استخدام هواتفنا الذكية أصبح مصدر إلهاء لنا عن المشاركة الاجتماعية الواقعية، وقديما عنونت أحد مقالاتي بعبارة: حين يكثر الاتصال ويقل اللقاء؛ فقدرة الأفراد على الاتصال خارج حدود الزمان والمكان تخفي في المقابل تراجع القدرة والرغبة في إقامة علاقات حقيقية قائمة على التقارب المكاني والإلزام الأخلاقي، بينما تقوم الروابط “الاجتماعية” الرقمية على المصلحة المتحررة من الالتزام، وهذا يؤثر طبعا على قوة التماسك الاجتماعي.

كما أن الكثير من القيم المنظمة لحياتنا الاجتماعية تخضع إلى إعادة التعريف الرقمي، فالعمل الخيري الذي كان يتشدد في قيمة الستر واحترام الكرامة الإنسانية وإخفاء الصدقة مثلا، أصبح مضطرا حاليا إلى القيام بعملية “فضح” رقمي لأجل طلب الإحسان والمساعدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولاحقا لأجل إثبات التوصل بالمساعدات!

ما هي السبل غير المعلوماتية التي يمكن اعتمادها لتطويع وكبح جماح التطور التكنولوجي المتسارع بما يجعله يتماشى ومتطلبات الحياة الإنسانية؟

يمكن أن نقترح ثلاثة مسارات أساسية للنضال في هذا الاتجاه، أولها هو البحث العلمي الذي يستطيع أن يفهم الإشكالات الأخلاقية والعميقة التي تختفي وراء الاستخدامات الممتعة لمنصات التواصل الاجتماعي، وهو الذي يمكنه التنبيه إلى الخروقات الأخلاقية وإلى الأضرار المحتملة، كما يمكنه أيضا التنبيه إلى الإمكانات الإيجابية لاستثمار مواقع التواصل الاجتماعي. المسار النضالي الثاني هو للمجتمع المدني، الذي عليه أن يبذل الجهد للضغط والمرافعة سواء تجاه تلك المنصات لتعديل سياساتها بما يحمي مستخدميها، أو تجاه الدولة أو المنظمات الدولية لإقرار تشريعات حمائية صارمة ومبدعة تواكب الإشكالات المتجددة. والمسار الثالث، هو المسار التعليمي، سواء عبر المدرسة بمختلف مستوياتها عبر إدراج التربية الإعلامية والرقمية ضمن المناهج التعليمية المدرسية والجامعية، أو عبر الإعلام والسياسات الثقافية.

ويبقى العائق الأكبر هو التوجه التجاري غير الأخلاقي لمنصات التواصل الاجتماعي بما تتوفر عليه من فرق مؤهلة من الخبراء في تخصصات مختلفة يجمعهم التفكير في طرق جعلنا نستخدم تلك المواقع لأطول وقت ممكن، نقدم فيه خصوصياتنا ونكشف فيه ميولاتنا طوعا ليتم بيعها لنا لاحقا.. وهي مواجهة غير عادلة ولا متكافئة بين خبراء وشركات ضخمة من جهة، وأفراد بسطاء من جهة أخرى، لذا من الضروري قيادة حيوية مجتمعية للتحسيس ورفع الوعي المجتمعي بإشكالات استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا من أهم أدوار الإعلام الرصين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *