مجتمع

الخراز.. طبيب يداوي جراح النعال بالغراء والمخصف يئن تحت وطأة الكساد (فيديو)

على حافة الزوال (الحلقة الثالثة)

مهن ضاربة في القدم والعراقة. قبل عقود كان لها دور حيوي في بوادي وحواضر المغرب، وشكلت على مر السنين مصدرا لعيش الكثير من الأسر، لكنها اليوم تدحرجت نحو الهامش وشارفت على الاندثار، وصارت مهنا على حافة الزوال.

دكان صغير يضج بالأحذية، معلّقة ومكدسة على الأرض، بالكاد يجد الإسكافي، أو “الطراف” كما يسميه أهل فاس، مكانا بينها، جالسا على كرسي بقوائم قصيرة، مسندا ظهره إلى جلد ماعز مثبت على الحائط بمسامير صغيرة، بينما تنشغل يداه بخياطة حذاء بمهارة فائقة. فهذا “الخراز” لا ينتظر ماردا ينقذه كما حصل لـ”معروف الإسكافي” في قصص “ألف ليلة ولية”، بل ينتظر زبونا ليصلح له ما أفسد الدهر في نعليه.

هنا في هذا الزقاق بالمدينة العتيقة بفاس، تصطف دكاكين عدد من الإسكافيين، الذين أخذ الحي اسمه من حرفتهم “الطرافين”، وهي من الحرف القديمة في العاصمة العلمية، التي تفرغ أصحابها لترقيع النعال المتضررة ورتق فتوقها. فالتطور الذي عرفته صناعة الأحذية على مر السنين، انعكس على هذه الحرفة، في محاولة من أصحابها للتأقلم من أجل كسب قوت يومهم.

بعدما غادر مقاعد الدراسة في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، انحشر محمد بين النعال والجلود ومختلف مستلزمات وأدوات الإسكافي في دكان والده، فتعلم الحرفة على يديه، وها هو اليوم “معلم” “طراف” يداوي جراح النعال بالمخصف والمخيط والغراء.

تصوير: سليم الحسوني- مونتاج: ياسين السالمي

يدرك هذا الإسكافي جيدا أن مهنته بحر شاسع، أمواجه عاتية ورياحه متقلبة، لذلك عليه أن يدير أشرعة مركبه كلما تغير اتجاه الرياح، فكل شيء “يتطور مع الوقت والحرفة إذا هملتيها غادي تهملك، لكن إذا عطيتيها غادي تعطيك”، كما قال في حديثه لـ”العمق”.

فهذا الإسكافي يحاول جاهدا أن يعطي لهذه الحرفة كل الجهد والإبداع لتبادله عطاء بعطاء، وفي هذا الصدد يقول إن “الطريقة القديمة في ترقيع النعال لا يمكن أن تنجح في إصلاح الأنواع الجديدة من الأحذية، (ما يمكنش واحد يعطيك صباط ماركة مزيانة وترقعو من برا)”، مشيرا إلى أن جل الإسكافيين تخلوا اليوم عن استعمال المسمار.

على بعد أمتار فقط من ورشة محمد ينهمك العلمي، وهو إسكافي في عقده السابع، في تلميع حذاء انتهى لتوه من إصلاحه، قبل أن يرفعه بيده اليمنى نصب عينيه ويحد بصره فاحصا نتيجه عمله. فهذا الشيخ الذي أنفق 58 عاما من عمره في خصف النعال لا ينظر بعين الرضى لما آل إليه حال الحرفة.

حرفة الإسكافي، بحسب الشيخ، تواصل منذ سنوات التقهقر، والسبب هي الأحذية والنعال التي بدأت تتقاطر على المغرب من الخارج، حيث أقبل العديد من الناس على انتعال أحذية مصنوعة من مواد أخرى لا ترقى إلى جودة الجلد، فهجروا “الخراز”.

يتفق هذان الإسكافيان على أن شباب اليوم عزف عن تعلم هذه الصنعة، لذلك فهي في نظرهما مهددة بالزوال إذا انعدم الخلف الذي يؤمن استمرارها، وهذه معضلة يستحيل إصلاحها بالمخرز والغراء، وفتق يعجز المخيط عن رتقه.

الركود الذي يخيم على حي الطرافين بالمدينة العتيقة بفاس لا تخطئه العين، فإصلاح الأحذية والنعال وترقيعها، لم يعد مطلبا للجميع كما في الماضي، لذلك لجأ جل الإسكافيين في هذا المكان إلى عدم الاقتصار على الإصلاح، فوسعوا أنشطتهم لتشمل بيع الأحذية الجديدة والمستعملة، لعلهم يسدون ثغرة في مداخيلهم اليومية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *