مجتمع

“معلم فران الحومة”.. جندي يحرس فوهة نار رعت خبز المغاربة لقرون فخبا وهجها (فيديو)

على حافة الزوال (الحلقة السادسة)

مهن ضاربة في القدم والعراقة. قبل عقود كان لها دور حيوي في بوادي وحواضر المغرب، وشكلت على مر السنين مصدرا لعيش الكثير من الأسر، لكنها اليوم تدحرجت نحو الهامش وشارفت على الاندثار، وصارت مهنا على حافة الزوال.

فوهة بحجم نافذة صغيرة، تتراقص في عمقها الفسيح ألسنة اللهب ملوحة بوهج شاحب يكشف عن قطع خبز دائرية الشكل وهي تنضج مستجيبة لحرارة النار المتقدة. يقف “محمد الزين” مواجها فتحة الفرن أمام هذا المنظر الذي ألفته منه العينان نصف قرن من الزمن، متعرق الوجه يقبل على تقليب الخبز بهمة لا يعتريها الكلال.

مدخل بباب خشبي تعترض الداخل عبره طاولة خشبية بعلو متر تقريبا، بمجرد دفعها تتدحرج على عجلات صغيرة، فاسحة الطريق، وعند تجاوز عتبة الباب يجد الزائر نفسه في فضاء صغير تنتصب على جانبيه رفوف حديدية، وُضعت عليها ألواح خشبية محملة بالخبز.

في أقصى هذا الفضاء بقلب المدينة العتيقة لسلا يقف “المعلم” محمد الزين في مكان منخفض بحوالي متر، حيث لا تظهر قدماه، بجانبه كومة من الحطب وأمامه فتحة الفرن. يغذيها بين الحين والآخر بقطعة خشب، فتنفث حرارتها ليستجيب لها وجهه متصببا بالعرق، فيما تنشغل يداه في تقليب الخبز ليكتمل نضجه، مستعينا بـ”المطرح”؛ وهو عبارة عن عصا خشبية بطول أربعة أمتار في طرفها لوح مستطيل.

تصوير ومونتاج: رشيدة أبومليك

يحكي “معلم الفران” محمد، في حديث لـ”العمق” ويداه منشغلتان برص الخبز داخل “بيت النار”، أنه جرب الكثير من الحرف، قبل أن يتخصص في هذه المهنة منذ سنة 1969. بدأ مساعدا لـ”المعلم” إلى أن تشرب عقله مهارات الحرفة فأصبح “معلما”.

بنبرة تنطوي على الكثير من الحسرة، يقلب الزين ثنايا ذاكرته التي تحتفظ بالكثير من الصور الجميلة عن “فران الحومة”، قائلا إن فرن الحي كان له شأن عظيم في المجتمع، إلى حدود التسعينات من القرن الماضي، قبل أن يصبح شبه مهجور اليوم. إذ كان يكفي أن تضع ربة البيت “وصلة” الخبز على عتبة باب المنزل، فتجد من بين المارة من يحملها للفرن ويأتي بها إلى باب البيت.

يتذكر هذا الشيخ الستيني كيف كان لفرن الحي دور محوري في الحياة الاجتماعية داخل “الحومة”، ففيه ينضج خبز كل السكان، وعلى ناره تطهى مختلف الحلويات، وفي الأعياد والمناسبات يصبح قبلة للكبار والصغار ويضج بابه بأصواتهم وكل واحد منه ينتظر “وصلته”، “لكن اليوم أصبحت جل الأسر تقتني الخبز والكعك والحلويات من المخابز العصرية”.

وعندما يكون في “الحومة” عزاء أو عرس أو أي مناسبة، فرحا كانت أم قرحا، يقول محمد، كان صاحب المناسبة يقصد الفرن ويأخذ ألواحا، ويأتي بها محملة بمائة أو مائة وخمسين خبزة، بعدما تعاونت على عجنها وخبزها نسوة الحي، لتنضج في الفرن التقليدي.

يضع محمد خبزة على “المطرح” وقبل إدخالها إلى “بيت النار”، يلقم فوهة الفرن قطعة خشبية، مواصلا حديثه لـ”العمق”، “اليوم (التريتور) تيتكلف بكل شيء، كانت واحد الحلاوة ما بقاتش” بعد الاستغناء عن العديد من الخدمات التي كان يقدمها الفرن.

بنبرة حنين، يحكي هذا الشيخ كيف كان يمضي وقتا طويلا في إنضاج حلويات أعدها أصحابها من أجل مناسبات بعينها، في منتصف التسعينات من القرن الماضي، قائلا إنه كان يستمر في إنضاج حلويات ببعض الأعراس، هنا في هذا الفرن الذي عمر لقرابة قرن ونصف، لمدة 15 يوم أو أكثر.

وبقدر ما تراجع دور الفرن وقل زبناؤه وتقلص مدخوله، بقدر ما ارتفعت تكالفيه، يقول محمد، موضحا أن العديد من زبناء الفرن الأوفياء رحلوا إلى دار البقاء، أما أولادهم وأحفادهم فغادر عدد كبير منهم “الحومة”، “لا نراهم إلا في المناسبات القليلة عندما يقصدون الفرن، رغم البعد، من أجل إنضاج حلوى أو تحميص طحين قبيل رمضان أو غيره”.

اليوم تراجع عدد الأفران في المدينة، أما الأحياء الجديدة فلا مكان لها فيها، ليأخذ هذا التراث المغربي طريقه بخطى حثيثة نحو الزوال، يحكي “المعلم” محمد أن الفرن قبل عقود خلت كان يشتغل به “معلم” رفقة عدد من “العوانة” (المساعدين)، أما اليوم فبالكاد تجد مساعدا أو مساعدين في الفرن.

كان “فران الحومة” قديما مكانا للتواصل الاجتماعي، تجتمع النسوة عند بابه في انتظار خبزهن، وهن يتبادلن ما استجد من الأخبار ويجددن الوصال، وكان صاحبه يؤتمن على مفاتيح البيوت، فإذا غادرت الأم مثلا البيت قبل وصول ابنها، كانت تترك له مفتاح الباب عند صاحب الفرن. كما كان يرشد الغرباء عن الحي إلى عناوين بيوت أقاربهم واصدقائهم.

يتميز “المعلم” محمد بدقة الملاحظة وبديهة سريعة وذاكرة قوية، وهي الميزات التي يفترض توفرها فيمن يمارس هذا العمل. يستطيع أن يتعرف على خبز كل أسرة، بحيث يحرص على وضع كل خبزة في “الوصلة” الخاصة بها. أما إذا لاحظ عجينا لم يختمر بعد فإنه يؤجل إدخاله إلى “بيت النار”.

يتذكر محمد أول يوم له بأحد الأفران بمدينة سلا، “كلفني صاحب الفرن بأن أقوم بشؤونه، بمساعدة شخص يعرف سكان الحي ويمكنه التمييز بين ألواح الخبز، ما يساعد على توزيعه بسلاسة، لكن في الصباح لم يأت ذلك الشخص، فباشرت العمل وحيدا”.

و”تجنبا للإرباك”، يواصل المتحدث كلامه، “أغلقت الباب وفتحت نافذة كبيرة وطرحت الخبز بنفسي وبدأت أسال المنتظرين قبل تمكينهم منه عن مواصفات الوصلة والمنديل وعدد الخبزات إلى أن مر اليوم بسلام، وما هي إلا 15 يوما حتى أصبحت أميز بين هذا الخبز وذاك”.

رغم اقتناعه بتراجع دور هذه الفوهة التي أمضى أمامها أكثر من خمسينا عاما، إلا أنه يواصل تشبثه بهذه المهنة، مستمدا حماسه من بعض زبنائه القدامى الذين يحرصون على زيارته بين الفينة والأخرى على الرغم من مغادرتهم للمدينة. ومازال هذا الشيخ يتذكر أسماء كل أسر الحي التي دأبت لسنوات على التردد على فرنه، معتذرا لجيرانه على ما سببه لهم دخانه عبر السنين من ضرر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *