منتدى العمق

الأسود الخائن والأزرق المطيع

هنا ياصديقي بالكلية، دخلت وسط دهول الجميع لا أعرف محتوى المادة ولا أستاذها، كل ما أعرف هو اسمها. أخذت الورقة أتجرع صعوبتها، ماذا عساي أن أكتب؟ وكيف لي أن أصيغ موضوعاً وعقلي يملأه الخواء. كتبت اسمي أعلاه ونمقتُ بكل ما يملأ دواخلي من عبارات قواميسي بياضها بمدادِ قلمي الأسود كخياط يطرز ثوبه أو كخزّاف يتفنن في شكل تماثيله. صبر قلمي اليتيم على قبضة أناميلي العنيفة وأفكاري المتضاربة حتى طال صبره فانتفض مداده ليدمي بياض ورقتي في محاولة منه لتشويه صورتي، أي انتقام هذا الذي انتقمت وأي تمرد به أنت تمردت، سأستعير غيرك ليغازل بياض ورقة عذراء ويفظ بكرتها ببطء حتى يقذف بداخل أحشائها ألفاظاً من صلبه تنتسب إليه، يفتخر بها وتفتخر به.

أما أنت أيها المتمرد الملعون فمصيرك سلة المهملات تنفرد فيها بالورقة التي أدميتها والكل سينظر إليكما بنظرات شمتاء، لأنكما جزءاً من العفن وكل العفن، حيث تكون خليلتك ملعونة وأنت الشرير. حتى السلة لن تحتمل وسخكما وستنتظر بفارغ الصبر الخلاص منكما، فما يجبرها على صبر تحملكما هو وقت وصول شاحنة الأزبال، ثم سترمون في الخلاء لتحرقا نهاية، ولن يبقى من عفنكما إلا الرماد. إن الوقت يمر، وأنا بحاجة إلى ورقة أخرى وقلم مطيع وإلى أفكار قيمة تطاوعني، فالأستاذ عند انتهاء الساعة لن يرحمني. استدرت برأسي جانباً فوقعت عيني على حسناء فاتنة عيونها تشبه زرقة البحر، وشعرها ذو نعومة تفوق ملمس الحرير، وهي الأخرى تنظر لمصيبتي بكل أسف، تسرق النظر ثم تعود لتحدق ثانية ربما لتراني بأي طريقة سأندب قدري.

عدت ببصري ثانية فرأيت هنالك على طولتها أقلاما متناثرة تتسابق لملامسة أناملها، يسعون لتدوين أفكارها العذباء، أما الأعوجون فلا يملكون إلا أقلاما عوجاء مثل اعوجاج حظي. أعارتني أزرقاً بابتسامة أخاذة تجلي المصائب والأحزان، كما أن عسلوتها كافية لتجعل الكافر يعتنق الإسلام، أما عن عيينيها فهي رصاصة ثاقبة كرصاصة الإعدام. مرت دقيقة وراء أخرى، فبدأت الكتابة ببركة قلمها الأنيق، أراه يسبق أفكاري ويسبكها بنسق جميل، كيف لا وهو لازال تحت تأثير سحرها، حاملا إلي نسمات عطرها لليسرع دقات قلبي إعجابا بها. وماهي إلا لحظات حتى التمست العذر لأسودي الحبيب حين أدركت سبب فيضانه، فمن لم يغلي من حر جمالها فلا حياة فيه. أي روح أنت مالكها يا أسودي، وأي عزيز أنت ألقيّ به في سلة غاشمة.

سأحررك من قعرها لأمسح برأسك العزيز، سنغادر معاً إلى حيث نكتب قصصنا الجميلة. اعذرني ياصديقي، ظننت أن قبضة أناملي هي من أفاضت المداد فيك، ما رأيت حسنها ولا بحر عينيها العميق حتى لطمتني أمواجه، ولا حلكة شعرها الأسود حتى شنقتني شعيراته، فكيف لك ألا تفيض، وأنت أشد رغبة لتكون سجين قبضة أصابعها الناعمة بعيداً عن قبضة عنيفة مثل قبضتي، فاعذرني ولا تأخذني على انفعالي، فأنت العزيز والكريم. لكن حين أحررك ستنقلب ضدي فإحدى الليالي الدامسة وستغدر بي ثانية عند غسق الليل ولن تفيض كما فعلت من قبل، بل ستجمد المداد فيك وتتركني في تخبط مع أفكاري دون أية طريقة لتكريسها في المذكرة، كمن يريد أن ينسج وتغيب تزطشا. سأضطر للنفخ في جعبتك لعلك تسيل مدادك رحمتي بي قبل أن تندثر أفكاري وأتيه في أمواج الليل بحثاً عن النوم.

أنت الآن في قعر السلة ونفسك تُسوّل لك بأية طريقة ستنتقم ولن تفَوّت الفرصة إذا أتتك لتخون، ستخون حتماً حين تجد سبيلاً للخيانة، لأنك أسود خائن، وتحريرك منها كمن يداوي الداء بالسم. تذكرت أيام صحبتنا وبموجب الوفاء نذرت ألا أتركك في قعرها لكن من خان مرة سيخون ويخون لأنه خوان. سأحتفظ بأزرقها المطيع وأتركك في قعرها، فكم أنا متلهف للنظر إليك وأنت تُحرق مع الأزبال، فالخوانون جزاءهم النار، أما المطيعون فهم من الأبرار، فألف خزي لك وألف عار. أقولها صراحة أمثالك لايستحقون الإعتذار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • عزالدين
    منذ 11 شهر

    نص رائع👍

  • تماضر
    منذ 12 شهر

    نص رائع أشعرنا بألم الخيبة اتجاه من أهدايناهم نبض قلوبنا وخانواْ الفؤاد لا شيء غير أنهم خوانون.

  • MIAMMI HOUSNI
    منذ 12 شهر

    مبدع اخي واصل...

  • محمد غرفة 413
    منذ 12 شهر

    صديقي العزيز .. ماظي فالمستوى بل فوق المستوى ما ان تبدأ القراءة حتى تجد نفسك ملهفا للوصول للنهاية و غي نفس الوقت لا تريد للقصة ان تنتهي. تبارك الله على صاحبي وخلاص معاك محمد الواليدة

  • غير معروف
    منذ 12 شهر

    نص جميل رحلنا بين طياته في رحلة رائعة، شهدنا فيها العديد من الأحداث التي خلدت في خواطرنا آثارا كبيرا مما لحقنا من خيبة وغدر، أعتقد أن النار هي عقوبة صغيرة في حق الخيانة.