مجتمع

بنى لهم مسجدا ولا يأكل رمضان.. “هوبير” سويسري أسس دار أيتام “غير عادية” بالمغرب (فيديو)

في يوم السبت، الثالث من شتنبر سنة 2022، غادرنا إلى دار البقاء “هنزجورج هوبير”، رجل الأعمال السويسري ومؤسس دار الأيتام الشهيرة “دار بويدار”، المتواجدة بمنطقة تحناوت بإقليم الحوز، ضواحي مراكش، مخلفا رحيله أسا وحزنا كبيرين لدى أبناء قرية الأيتام، ليعيشو صدمة فراق الأهل مرتين.

كيف لا يكون ألم اليُتم مضاعفا والأب السويسري الراحل الذي أنفق كل ثروته في سبيل بناء “دار بويدار”، لايسمح لنفسه بالنداء على أطفال القرية المستحدثة إلا بعبارة أبنائي، وهي العبارة التي يقدمهم بها لزوار القرية، ويوصي بها مؤطريهم ومعلميهم وأمهاتهم المربيات.

لم آت للسياحة.. جئتُ لنشر القيم

كثير ما يتوافد الأجانب على مدينة مراكش من أجل السياحة والاستجمام، لما تملكه المدينة من مآثر سياحية بمواصفات عالمية وبنايات فخمة تقليدية وحداثية، وتنوع طبيعتها المحيطة من جبال إمليل المؤدية إلى توبقال وصحراء أكفاي الشاسعة. إلا أن تواجد “هوبر” هنا وراءه سبب آخر.

سبق لـ”هنزجورج هوبير”، أن قال قيد حياته، في لقاء صحفي مصور مع جريدة “العمق”: أمضيت أكثر من عقدٍ في أحضان مراكش، هذه المدينة الخلابة التي تجذب السياح بأشعة شمسها الدافئة. لكن، بينما يأتون من أجل الاستمتاع بالأجواء الساحرة، جئتُ أنا لأرسم صورة واقعية. إنني أؤمن أن تقدّم الحضارات والمجتمعات تستند إلى القيم الدينية والفلسفية والأخلاقية؛ فبدونها، تتلاشى القوة الحقيقية للمجتمعات.

فكرة قرية الأطفال كانت في ذهن “هوبير” لأزيد من خمسين عامًا، هدفها وفق ما صرح به في اللقاء ذاته، هو “مشاركة السعادة التي عِشتها في طفولتي، والحب الذي تلقيته بوفرة”، يقول “هوبر ذلك”، ويضيف: أرغب في مشاركة هذا الحب مع هؤلاء الأطفال الذين يعيشون في ظلام وحرمان، وعمرهم لا يتجاوزون سن العاشرة.

سويسري الجنس مغربي القلب

واجه “هوبير” في بداية تنزيل فكرة قرية الأطفال “دار بودير” مجموعة من العراقيل والإكراهات الإدارية، وقد ظل يخفيها ولم يبُح بها جهرا طيلة حياته. المشاكل البيروقراطية لم تثبط عزيمته، بل كان دائما يتحدث بكل عزيمة وافتخار عن تجربته الفريدة، ويصرح باعتزاز “أنا مواطن سويسري، بقلب مغربي”.

أحد القريبين من “هوبير”، فضل عدم ذكر إسمه، من كشف الصعوبات التي واجهت تجربة “دار بويدار” في بدايتها، من شراء العقار وربطه بالماء والكهرباء وغيرهم.

وبرر المصدر ذاته، مخاوف السلطات حينها، في المراحل الأولى من إنشاء قرية الأطفال بتحناوت البعيدة على مراكش بـ 30 كلمتر، لكون صاحب الفكرة أجنبي وأول مشروع من هذا النوع في المغرب، مردفا أن العقلية الإدارية لها تخوفات مقبولة أحيانا، ورغم كل ذلك، انتصرت في الأخير إرادة  الخير وبددت هواجس الخوف لترحم مئات الأطفال منذ انشائها إلى اليوم، لتعوضهم ما سلب منهم.

فاعل خير بقلب فيلسوف باحث عن المعنى

قليلا ما نصادف “كانطيو” التفكير (فلسفة كانط الأخلاقية) في مجال التطوع وأعمال الخير، بمعنى تلك الذوات التي تهدف إلى نشر قيم أخلاقية لغاية في ذاتها (أي القيم)، لا لغايات أخرى؛ أخلاق تهدف لتجاوز المعضلات القيمية التي تعيشها المجتمعات من جذورها، وليس فقط من أجل التخفيف من وطأتها دون البحث عن سبل استئصالها. وإن كان هذا دور الدولة من ناحية المبدأ، فلا ضير أن يكون الفاعل في مجال التطوع واعي بأن التعب يصيب اليد المعطاءة، لكنه لن يصيب اليد التي تأخذ.

يقول الراحل “هوبر” في لقائه السابق بـ”العمق”: أنا في هذا العمر، أبحث عن المعنى، أدرك تماما الآن، بعد كل هذه السنوات، أهمية أن نصبح حكماء وعدم الاندفاع للحكم على الآخرين. وعلى الرغم من أنني رجل أعمال ليبرالي، إلا أنني أرى أن الرأسمالية بدون أخلاق ستفقد طريقها، فما يحدث في أوروبا أدى إلى فقدان القيم التي يستند عليها التعليم والتربية والثقافة، وهذا أمرٌ مؤسف للغاية.

إن ما يشغل بال “هوبر” هو نشر القيم الأخلاقية والتربوية، ويظل يردد ذلك على لسانة في كل حجة يُطارح بها الأفكار المثارة في النقاش الذي يجمع بضيوف داره؛ دار بويدار، الذين يأخذهم بكل تواضع واحترام في زيارة للاطلاع على كل مرافقها.

يقول “هوبر”: أعلِّم أطفالي في القرية الصغيرة أشياءً تعزز تميزهم في الحياة مستقبلا، كالفن والموسيقى ونزور المتاحف الفنية، في مراكش ومدن أخرى، فلديهم الحق في السفر واكتشاف كل مدن بلادهم.


لمحة عن دار بويدار وتكاليفها

تمتد القرية على مساحتها 15 هكتارا، وتتسع لاستقبال 120 طفلاً في فيلات صغيرة على طبقتين، كل واحدة تحمل اسم معينا، تضم ثمانية أطفال مع أمهم المربية. من بين هؤلاء الأطفال الذين يتجاوز عددهم 140 طفلا، معاقين أو مصابين بالعمى، يحضون بالعلاجات داخل القرية من طرف أطر صحية في غرف مجهزة بأحدث التقنيات والتجهيزات الطبية.

وتحتوي على مسجد ومساحات خضراء وفضاءات للعب، وقاعات دراسية نظامية من الروضة حتى نهاية المرحلة الابتدائية، يؤطرهم أساتذة رسميين، يمكنهم ذلك من الاستمرار في مسارهم الدراسي الإعدادي والثانوي. إضافة إلى ذلك يوجد متحف يحتوى على رسومات تبدعها أنامل “هوبير” وهي معروضة للزوار للاطلاع عليها وكذلك للبيع، توجه عائداتها المالية لتسديد تكاليف القرية.

وتعتمد موارد القرية، وفق ما صرح به “هوبير”، والتي تتجاوز 400 ألف درهم شهريا،  على شراكات مع جمعيات سويسرية ومؤسسات فرنسية وألمانية، حيت تجمع التبرعات وتخصيصها لتلبية حاجيات أطفال قرية “دار بويدار”.

القرية تمنعُ الشاشات

ويتعلم الأطفال أيضا في “دار بويدار”، إضافة إلى التعليم الأولي والابتدائي، وتعلم اللغات، والأنشطة الرياضية، دروسا في الشعر والمسرح والرسم، في فضاءات مخصصة ومؤهلة لوجيستيكيا لذلك، بهدف التغلب على الصدمات النفسية التي تعرضوا لها.

في قرية الأطفال، يمنع بشكل كلي استخدام الشاشات من هواتف شخصية وتلفاز وسط المنازل، ويعتبر “هوبر” أن المسرح والشعر والتواجد مع الطبيعة طبيعيا، هو البديل وهو الفرق الذي يصنع مستقبل هؤلاء الأطفال وأقرانهم، ويصبحون من خيرة المغاربة في المستقبل.

فإذا كان الجميع في هذا العصر يسعى لضجيج التقدم، يقف “هوبر” لحظة تفكير عميقة ويقول بحكمة: أنا أركز بشكل أساسي على قيم الفلسفة والدين، ويعتبر أن بدونهما تفقد المعرفة كبريائها.

الله اختاره لهذا 

فكَّرت سهام فضلة، إحدى الناشطات في مجال التطوع بمدينة مراكش، والتي سبق لها الاشتغال مع “هانزجورك هوبر”، مليَّا قبل تقديم شهادة طلبنها في جريدة “العمق” عن الراحل، قبل أن تنطق بتأثر أن شهادتها مجروحة في حقه، مردفة القول: الله تعالى لم يختره ويوفقه لهذا العمل إلأ وأن شيئا جميلا في قلبه.

تضيف سهام فضلة، أن العديد من أغنياء المغرب لم يخطر ببالهم القيام بمشاريع خيرية متكاملة مثل قرية بويدار، ما يعني أنه اختيار إلهي عابر للقارات لنشر الحب بين الأطفال اليتامى والمتخلى عنهم.

أول لقاء لفضلة ب”هوبير” كانت قبل ستة سنوات من الآن، كمتطوعة لزيارة الأطفال والقيام بأنشطة تربوية وترفيهية لهم، أخبرها “هوبر” بحسرة عن عدم قيام المغاربة بزيارة الأطفال بالقرية، رغم أن الدين الإسلام يوصي بالأيتام خيرا.

وأشارت فضلة إلى خاصية العدل لدى “هوبر”، إذ أنه قسم ثروته على أبنائه الثلاثة، وترك نصيبا له، سخرها لإنشاء مشروعه الخيري، فمن ناحية لم يظلم أبناءه، ولم يأخد كل شي وقام بمشروعه، وقال هذا مالي ولي حق التصرف فيه كما أريد.

دار أيتام غير عادية

بحكم زياراتها للعديد من دور الأيتام، تصف هندسة “دار بويدار” بـ”الغريبة”، وغرابتها لأنها غير معهودة ولا مألوفة. كل ثمانية أطفال يعيشون في منزل خاص على شكل فيلا، تحمل اسما معينا، ترافقهم مربية يطلقون عليها إسم “ماما” وتتوفر هذه المنازل على جميع الشروط، من مطبخ وأماكن للنوم واللعب.

تضيف فضلة في حديثها مع “العمق”، أنه عند تنظيم جمعية وطنية أو أجنبية لزيارة للأيتام، يحرص “هوبير” وفريقه على احترام سير “الدار”، ولا يتسامح أبدا مع خرق بروتوكول العمل، بداية من احترام وقت الأكل والقيلولة، والمفاجئ على غير العادة مما نصادف، وهنا سيفهمني من يزور دور الأيتام ومخيمات الأطفال، هو الهدوء عند اجتماع الأطفال على طاولات الأكل في المطعم دون ضجيج ولا تدافع، كأن الطير فوق رؤوسهم.

كما يحرص “هوبير”، وفق كلام سهام فضلة، على أن تكون الوجبات منزلية، ولا يقبل أن يشتري لهم المعلبات والبسكويت والياغورت، ويشدد على أن تكون العصائر طبيعية ومُعدة في المنزل، لأن هذا ما يسهر عليه أيضا رفقة فريق المطبخ.

بنى لهم مسجدا ولا يأكل نهار رمضان

تلفت سهام فضلة الانتباه إلى احترام “هوبر” معتقدات الأطفال الدينية، وتقول بأنه لم يبني كنيسة أو معبد للتأثير فيهم، بل بنى مسجدا رائعا، قد لا تجد مثله في مؤسسات عمومية وخاصة، بإمام راتب، يؤدي له أجرته الشهرية.

تزيد سهام وتقول إن “هوبر” يحتاج الدعاء له بالرحمة والمغفرة. طبعا هناك بعض من يقول أن ذلك لا يجوز، لكن بالنسبة لي، فأنا أجهر بها: الله يرحموا، ويا ريت أن ترسل الأقدار نماذج أخرى مثله لإنقاذ الطفولة.

إن “هوبر” في عين سهام فضلة وكل من التقاه، “إنسان خدوم لا يطمع في أي شيء، بل أعطى كل ما يملك في سبيل اليتامى والمتخلى عنهم. تقول سهام: أطعم وكسى وسقى أولاد وبنات المسلمين، فكيف لا يجوز الدعاء له بالرحمة.والله أعلم بينه وبين ربه.

وعن إسلامه، تقول سهام، إن أقرب الناس إليه لا يؤكدون ذلك ولا ينفونه، ما رأوه هو كفه في رمضان عن الأكل والشراب حتى آذان المغرب، هل صياما أم احتراما للشهر الفضيل، الله أعلم بذلك.

إعلان وفاة وعزم على الاستمرار

الصفحة الرسمية لجمعية أطفال الأطلس التي يترأسها السويسري الراحل “هنزجورج هوبير”، أعلنت رحيله عن الحياة، يوم السبت 03 شتنبر 2022، وعلقت بالقول أن “أب 200 طفل، ووالدنا جميعا، غادرنا ليلة أمس.

وأخذت مشعل “دار بويدار” وتحملت أمانتها، إذ كتب مسيرو الصفحة بأن “أبناؤه” سيواصلون المهمة الإنسانية التي ربطتهم بقرية أطلس “كيندر للأطفال”.

ترجل “هنزجورج هوبير” عن الحياة، وما زالت فكرته حية مستمرة وباقية وسابقة على عصرها، في حاجة لكثير من الغيرة والتنافس بين أغنياء المغرب لخلق مشاريع تطوعية مماثلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • Dghoghi nordine
    منذ 10 أشهر

    اكيد سيقولون الظلاميين ان هوبر رغم ما فعله طوال حياته للأيتام.. ليس مسلم. .. انهم جهلة ولا يدركون كلمة رب العالمين وليس لهم وحدهم.. الله يرحمه ... انه الرحمان الرحيم... الذغوغي نورالدين تيفلت...