سياسة، لنا ذاكرة

النويضي.. مستشار اليوسفي الذي نذر حياته للدفاع عن المظلومين

ترجّل عن صهوة جواد الإنسانية، المحامي والحقوقي والسياسي والجامعي عبد العزيز النويضي، رحل ولم يرحل من أجمع المختلفون حول مواقفه على طيبوبته وبشاشته، وصدق مواقفه، وعزيمته التي لم تنضب يوما في مناصرة القضايا العادلة والمشروعة والدفاع عن حقوق بني الإنسان، أفرادا وجماعات، في ردهات المحاكم بجلباب المحامي، وفي ساحات الميادين بصوت المناضل، وفي مدرجات الجامعة وكراسي العلم بجبة الأكاديمي والباحث المتمرس.

كانت جنازة النويضي المهيبة، حقا مرآة تعكس عظيم التأثير لعمله طيلة حياته وللأثر العميق الذي خلفه في وجدان كل من عرفه من قريب أو بعيد، جنازة تجاوزت مجرد الحداد، وتطورت إلى احتفاء حزين بإرثه الدائم. جنازة حجت إليها من كل حدب وصوب، شخصيات اختلفت أطيافهم ومشاربهم السياسية والحقوقية، وطبقاتهم الاجتماعية، واتحدوا في تكريم التزام النويضي الثابت بالعدالة والمساواة. في جو ملؤه الإحساس المشترك بالخسارة، والإصرار الجماعي على تنفيذ مُثله النبيلة. جنازة مهيبة ترددت خلالها أصداء حكايات دفاعه الدؤوب عن المظلومين والمهمشين والمضطهدين، في لوحة رسمت صورة حية لرجل كرس كل نفس للسعي من أجل عالم أكثر عدلا.

ولد النويضي في عام 1956، ونشأ بالحي المحمدي بالدار البيضاء، تلقى تعليمه الأولي في الكتاب القرآني، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية، ودرس بثانوية عقبة بن نافع، قبل أن ينال شهادة الباكالوريا ويلتحق بجامعة الحسن الثاني لدراسة الحقوق.

بيت اليسار

بعيد تخرجه، التحق النويضي بفاس كمدرس جامعي وهو في عمر ال 23، حينها قرر الالتحاق بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وبالكونفدرالية الديمقراطية للشغل بعد تأسيسها سنة 1978، حيث سيتولى فيما بعد مساعدة نوبير الأموي على رأس النقابة، وهي المهمة التي مكنته من زيارة دول أجنبية عدة كالدنمارك، وسويسرا، والعراق، وسوريا، والأردن، والولايات المتحدة الأمريكية.

عمل النويضي كمستشار للوزير الأول، عبد الرحمن اليوسفي خلال حكومة التناوب بين سنتي 1998 2022، ثم التحق بعد ذاك للتدريس بجامعة أوهايو الأمريكية، كما ظل يدرس القانون العام بجامعة محمد الخامس بالرباط. في عمله السياسي قرر النويضي مغادرة القلعة الاتحادية والتحق فيما بعد بالحزب الاشتراكي الموحد، ثم كان ضمن ممن كونوا حزب فيدرالية اليسار الديمقراطي نهاية 2022 والذي تولى عضوية لجنة التحكيم به.

وخلال عمله كمحام، ارتبط اسم النويضي بملفات بارزة من تاريخ المغرب، من قبيل عضويته في هيئة الدفاع عن معتقلي حراك الريف، لا سيما في قضية التآمر ضد المس بأمن الدولة التي توبع فيها ناصر الزفزافي ونبيل أحمجيق ومحمد حاكي وسمير إغيد وزكرياء أضهشور، والتي حاول بعدها بدل مساع لدى الملك محمد السادس من أجل الإفراج عن المعتقلين، كما كان ضمن هيئة الدفاع عن الناشط رضى الطاوجني الذي قضت استئنافية أكادير الأسبوع الماضي برفع عقوبته الحبسية إلى 4 سنوات نافذا، فيما ترافع في الميادين والندوات والمؤتمرات عن ملفات حقوقية عديدة لم تتسنى له فرصة الدفاع عليها في ردهات المحاكم.

 كفاح النويضي

ضمن شهادات في حق الفقيد قالت عضوة المكتب السياسي لحزب فيدرالية اليسار الديمقراطي، فاطمة التامني “في لحظات الحزن والأسى لا تفي الكلمات بالمطلوب خصوصا إن كان الفقد جللا وكبيرا وفجائيا كما وقع مع المناضل الكبير الأستاذ عبد العزيز النويضي”.

وأضافت التامني في تصريح لجريدة “العمق المغربي”، “الفقد خسارة ليس فقط لحزب فيدرالية اليسار الديمقراطي الذي ينتمي إليه الراحل، بل أيضا خسارة كبرى على مستوى الساحة السياسية والحقوقية خصوصا وأن الكل يعلم دفاعه الكبير والمستميت من أجل الديمقراطية وإحقاق الحقوق”.

فيما قال الكاتب والوزير السابق محمد الأشعري،” غادرنا اليوم إلى دار البقاء رجل نذر حياته للدفاع عن الحرية وعن الحقوق ونذر حياته لمحاربة الفساد وإشاعة النزاهة في نظامنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي كان حاضرا بقوة في المراحل الأساسية للمغرب الحديث من خلال عمله إلى جانب سياسيين كبار كالراحل عبد الرحمن اليوسفي، ومن خلال عضويته بالمنظمات الحقوقية ومن خلال ترأسه لجمعية ترانسبرانسي المغرب ومن خلال كتاباته ومحاضراته وندواته “.

وقال عنه عضو الدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان، محمد باسك منار، “نودع اليوم رجلا من المناضلين، رجلا كانت له بصمات مهمة جدا في الواقع المغربي، في الدفاع عن حقوق الإنسان وعن المستضعفين، كنا نجده في قضايا الحق، وفي قضايا الحرية، وقضايا الكرامة، له كتابات مهمة جدا خاصة في المجال الدستوري وحقوق الإنسان، نسأل الله تعالى أن يكون عنده من المرحومين والمحسنين ”

من جانبه، عبر عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، عبد العلي حامي الدين، عن حزنه قائلاً: “إنا لله وإنا إليه راجعون، فقد خسرنا شخصية بارزة في المجال الحقوقي والقانوني في بلادنا، وهي الأستاذ عبد العزيز النويضي. لقد ساهم بشكل كبير في مختلف المحطات الرئيسية التي شهدتها الحياة السياسية في المغرب منذ تجربة التناوب، حيث عمل كمستشار للأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، وساهم في مرحلة الإصلاح الدستوري، كما كان داعماً لدينامية حركة 20 فبراير، وأسهم بقوة في ذلك الوقت. كان له دور بارز في بناء الحركة الحقوقية في المغرب”.

وأضاف حامي الدين في تصريح للجريدة، “تربطني به علاقة من منذ نهاية التسعينيات وكنت أستشيره في الكثير من القضايا لا سيما التي تتعلق بحقوق الإنسان والقضايا الدستورية والقانونية بشكل عام، وعندما كنت أترأس منتدى الكرامة كان مستشارا أساسيا في مختلف المحطات التي كنا نقوم بها، وقد جمعتنا وإياه مائدة مستديرة قبل بضعة أيام قدم خلالها عرضا حول تخليق الحياة العامة ومكافحة الفساد، نرجو الله له المغفرة والرحمة “.

وقال عنه الرئيس الأسبق للعصبة المغربية لحقوق الإنسان، محمد الزهاري، “المرحوم الدكتور عبد العزيز النويضي نسج علاقات دفء متينة مع عدد من أحرار وحرائر وطننا ، هو الأستاذ الجامعي الذي  سجل حضورا متميزا على المستوى الأكاديمي والفكري والحقوقي والسياسي، وهو المحامي الذي دافع عن المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي ، رجل يحسن التدبير الجيد للاختلاف، يشتغل على المشترك الذي يجمع القوى الديمقراطية والحقوقية بالبلد . رحيله بالشكل المفاجئ شكل صدمة كبرى. شمله الله برحمته الواسعة والهم ذويه الصبر والسلوان ، إنا لله وإنا إليه راجعون”.

مسار أكاديمي حافل

ضمن أعماله الميدانية أيضا، كان النويضي من ضمن مؤسسي جمعية “عدالة”، وكان منسقا للجمعيات المنتدبة للتحقيق في أحداث مخيم “كديم إزيك ” سنة 2010، كما شغل منصب الكاتب العام للجمعية المغربية لمحاربة الرشوة، “تراسبرانسي المغرب” وهي منظمة غير حكومية تعنى بمكافحة الفساد وتعزيز الشفافية، والتي دأب في السنوات الأخيرة على تقديم تقريرها العام في مستهل كل سنة.

وإلى جانب عمله الميداني الذي لم ينضب طيلة سنوات حياته، كان الراحل غزير الإنتاج الفكري والأكاديمي، إذ ألف “مذكرات مستشار للوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي؛ دروس من تجربة التناوب وما بعدها”، سنة 2022، و “المحكمة الدستورية ومسألة الدفع بعدم دستورية القوانين” سنة 2019، و “نزاهة واستقلال النظام القضائي بالمغرب” سنة 2018، و “الصحافة أمام القضاء” سنة 2008، و “الإصلاح الدستوري بالمملكة المغربية” سنة 2006، و “المجلس الدستوري بالمغرب” سنة 2003، و “الحق في التنمية بين القانون الدولي والعلاقات الدولية” في 1998، و “الأمم المتحدة، التنمية وحقوق الإنسان” في 1997.

ضمن أعماله الأكاديمية نجد أيضا، “مقارنة هيئات مكافحة الفساد في خمس دول عربية المغرب تونس ليبيا الأردن وفلسطين”، سنة والذي 2015 أنجز بطلب من “Transparency international” بالاشتراك مع الدكتور محيي الدين الطوق. و “مراقبة المحاكمات” بالاشتراك مع الأستاذين عبد الرحيم برادة وMichel Tubiana. و “المغرب والمحكمة الجنائية الدولية” بالاشتراك مع الأستاذ عمر بندورو ، سنة 2009. و “الاقتصاد المغربي الفلاحة والاستثمار الأجنبي”، بالاشتراك مع إدريس الكراوي سنة 1988.

هو غيض من فيض، من سيرة، لن تسعف المحسنات البديعية في تلميعها أكثر مما هي عليه، سيرة رجل نذر حياته للدفاع عن حقوق الإنسان ومحاربة الفساد والسعي في سبيل تجويد طرق عمل النظام السياسي والقضائي في المغرب فكرا وتنظيرا وتوجيها وعملا وممارسة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *